mercredi 6 avril 2016

الكأسٌ مسموم

الكأسٌ مسموم

الكأسٌ مسموم
ساحتاج قرون متلاحقة من الزمن لاسترد نفسي التي عهدتها ، فما عُدت أنا نفسي و ما عادت نفسي لي . في ليلة بكماء ، استمع لصوت غراب يزعق ليستدعي الموت على فرع شجرة تستحي أغصانها تأمل روحي المتوشحة بسواد الفضاء المخيم على شرفتي . فقط احتسي كوباً ساخناً من سُمٍ أعددته منذ قليل .. شيئاً فشيء ، تنسلخ من السماء فِكر لتخترق أبوابها  و تطرق رأسي بعنف  استقواءً بحالتي المزرية . النار المُتقدة في وسط غرفة خشبية غائب عنها النور إلا من حسيس يوفر لجسدي المحترق المزيد من الآلام ، جلست القرفصاء و أطاحت بذهني كلمات أتذكرها واحدة تلو الأخرى ..
_ لن نستمر هكذا على نفس المنوال .. أعطيتك و لم أحوذ القليل منك .. لا احتاجك الآن .
اتذكر هذه الليلة جيداً  و كأنها أمس الأول ، كنا في جلسة وسط قرية مهجورة للعشاق نحتسي شرابها المفضل ... قالتها لي بعد أن مددت لها يدي لتلامس عروقها الزرقاء المارة بين أصابع تشبه ياسمينة تزهر في ربيع نسيمه يلاطف جسد ناسٍ و قاسٍ ، و ما أن ضممتها إليّ حتى باغتتني هي برعد كلمات أنهت بها قصة ظننتها قد تطول ..
يا له من سم قاتل جميل المذاق .. فعلاً سيكون وقع تلك المِيتة بديع على شخص كفر بدنياه و تمنى أن يُنعِم خالقه عليه بآخرة مريحة .
_ لن تعيش أمك أكثر مما عاشت ، و ليس بوسعنا إلا أن نخلع عنها جهاز التنفس فمن الجائز أن تشرق الروح لبارئها مع شروق شمس الدنيا ...
تصنم أبي و رأيت وجهه قد شحب و جسمه أخذ في الهزول بعد بطلان حكم الحياة و ثبوت حكم الفناء ، و صمتي لا يغلبه أصوات تأوهات المرضى .. عالمي أصبح مشلول ، فالحياة و الفناء بينهما خط هش يقطعه الموت المُحقق .
مثلي الآن ، حين تُسلب منك الروح فتصير كآلة بدون زر تعمل بلا توقف ، تتنهد و تتعب  دون معرفة ما الجدوى من هذا العبث . لا تقل لي لا تفعلها ... أنا الآن سأقوم لاتوضأ حتى أقابل ربي بجسد طاهر دون روح زكية . أغفِر لي ما لا يُغتفر ، استحي من عظيم قدرتك , فسذاجة غريزة بقائي هنا في دنيا مصيرها إلي الزوال ...
صوت باب يطرق بعد أن ظننت أن باب سجني هذا عاجز عن التأرجح و أبكم لا صوت له . لم انتبه فهكذا سيتغير مسار خطتي ، و سيفوتني قطار الموت السريع .. يا تُرى من الطارق ؟ لا سوف أدخُل لمحرابي  و أضع كوب السُم بجوار سجادة الصلاة فاتقيأ سيئاتي و أنال الخلاص بعدها في معدة خاوية .
قلت الله أكبر .. أكبر من أكبر ما يعجز عقلنا الضئيل عن تصوره .. شرعت بالفاتحة و الباب أخذ يدق بصورة غير مزعجة و لكنها مستمرة . الحمد لله رب العالمين .. رغم أني لا أحمدك أبداً , فقط أطلب منك دون استحياء من ذنب اقترفته أو آثم ارتكبته . مالك يوم الدين .. إياك نعبدُ و إياك نستعين .. ذهني شرد تسبقه خلفية موسيقى قرع الباب و تخيلت نفسي وسط معركة .. هياج و طبول تُقرع من العدو .. أواجه جيش لا قائد له .. قائد جيوش الأعداء هو قائدي .. يتأمر عليّ من أجل أن استسلم أمام جبروت فرسانه و رشاقة جياده و استضعاف نفسي أمامه .. فجأة لقيت نفسي أقول و لا الضالين آمين ... طرق الباب بعنف أكثر ، ينهش الفضول في قلبي الورع التقي ، لا لن أزول من غرفة النهاية لاسترجع حياة أُنهيها . عقلي الشارد زاد شرودًا و أفاق وهو في وضع الركوع ليستغفر ثم يستغفر آملاً أن يُغفر له و ميتقناً من عدم منطقية هذا الغفران .
ظل الباب يزعق و من ورائه بدأ يَدفع الباب بكتفيه و يقول ( يا طاهر .. يا طاهر ) ، فيجد رد الصمت الصاخب المزعج ..
هل يا طاهر ما في الحياة يستحق البقاء ؟ لم أنت على عجلة من أمرك ؟ لم لا تهادن الحياة المجنونة .. فأنت تدرك اضطراب خاطر الدنيا .. نام فتصبح غير ما أنت عليه .. 
الأفكار تطيح ببالي و أصوات أخذت في المضي قدمًا و التواري ... عذاب قبري سيكون أهون عليّ من زحام أصداء في مخيلة عبد يائس ..
في غضون دقيقة أو ما يقارب الدقيقتين .. وجدت نفسي في وضع السجود لا أعرف ما أهمس به لربي .. فقلت له أنا قادم إليك فيا من أحسنت إلي ، تخلص من غضبك و استعين برحمتك و فضلك .. فإني يآست من دنياك و كفرت بنفسي .. فهل من سبيل سوى الهروب .
قمت فزعاً من سجودي فلقد رأيت شجرة حاملة تفاحاً ناضج يسيل له اللعاب .. غرست رأسي بين أغصانه الرمادية اليابسة لأقطف منها ثمرة .. حينها استحالت لأفاعي تتلوى حول عنقي لتعتصره و ما عدت أرى سوى سكين في قبضتي و عجزت عن الظفر بأغصان الشجرة اللئيمة فقطعت رأسي ...
بدت أمامي فتاة لم أقبل في حسنها بديل ، سمعت صوت خلع الباب و زجاج يتهشم و وقع أقدام يقترب حتى اكتملت صورة لا قرين لها ، سبحان من صوّرها أمام عيني الغارقة في الكآبة . كانت ترتدي فستاناً اكسبت به السماء لونها ، بؤبؤتيها يلمعان كألماستين مكشوفتين في جدار كهف جبلي متوشح بالسواد . الابتسامة التي تلتقت بها حالتي المزرية لم يخالطها الفزع من محاولتي اليائسة للخلاص . هي من كانت تطرق بعنف الباب و بصوتها الجهوري الذي خالطته صوت أمي على فراش الموت نادتني . تلقت أناملها طرفي ثوبها السماوي .. أخذ فمي في التمدد و الانفراج حتى كاد فكي ينسلخ بصحبة روحي التي في سبيلها لرحلتها الأخيرة .
استحال الخوف إلى طمأنينة و لكنني لا أقوى على الانتصاب من وضعية سجودي ، أصبحت كالرضيع الذي لم يتعلم بعد كيف يحبو فآثرالرضوخ للزحف ففشل ... قلت لنفسي بصوت يقمعه الاستسلام : " لا أريد احتضانها قبل أن أطوف حول جمرات جهنم الآليمة الملتهبة .. أرغب في نسمتها لتشفي دمائي و لتداعب وجنتي بعد عذاب يكاد يكون آبدي ... فأنا أعشق عشقي لها أما العشق ذاته فيخصني دون سائر العشاق بمقته " . مددت يدي إليها لكي تنتشل جذور نبتتي العالقة في أرض الاستغفار الجرداء . ظلت أذنها تستحسن  ما يدور في قريحتي حتى راودني الشك ... أنها من الجائز تحبذ لحظة انهدامي .
تحوم في الغرفة أسراب من الغربان ، تزعق كأنها تزفني في ليلة في سبيلها للقضاء و الانقضاء ، و لأول مرة باتت ضحكتها لي تمثل كابوسًا لا مفر منه ، فأنا الآن على حافة قمة الحقيقة . أخذت تدنو إليّ بزيها الملائكي ، حاملة طيه عطور الجنة الفواحة ، رغم ذلك لم تغادرنا الغربان على العكس شرعت تزوم كجرحى الحروب ، تتلوى مثلهم يمنة و يسرة . كلما اقتربت صاحبة الحُسن تتسع رقعة الغرفة لكنها لا تضاهي إتساع جوهرتيها المحاطتين بسور هش غليظ من الأهداب التي لا يقدر على خدشه إلا القدير .
عانق أخيرًا أعظم أصابعي قطعة من الجنة ليتحول جرح آليم لماضي دفين ، لا يقدر كائن من كان استرجاعه.
قالت لي :
_ أريد احتضانك حتى ما بعد الحساب .
خفق قلبي و أنا استرجع معها صوت والدتي طريحة سرير الهلاك ، و لم أعُد أقدِر على إجابتها حيث أن الصوت يتردد في فراغ أذني كصدى صوت عابر سبيل في باطن الجحيم يستنجد بقشة تعلو بجسده المتعذب من لهب إلى نار أقل وطأة . حين ادركت عجزي ، لفتني الجنة و بدأت تهمس بحنو بالغ الأرض و السماء حجماً فتقول :
_ أترى هذه الطريقة هي الأنسب لتغادر أرض أول الآلهة و أخرهم ؟
انعقد لساني .. ارتفعت صرخات الغربان و استحال أفراد السرب واحدا تلو الأخر أشرس و أعنف في الهتاف ، سمعت تلك الصيحات و كأنهم أجمعوا على بث سر لي أو نقل حدث في السماء السابعة لي . صاروا أمام عيني ، لوهلة , رُسلًا من بوابات الجحيم يبعثون لي برسالة طمأنينة تحوي موقعي من عذاب ربي و كرهه لي .. كم أخافك الآن ، أخشى نتيجة غضبك .. أشتم رائحة حساب عسير .
هل يمكن لخالق الشئ أن يمقته ؟ أم أن لربي معي حديث مطول يريدني أن أهرع  و أهرول في كل اتجاه مخبراً إياه بما حل بي في دنياه الضارية ؟
تقطع قهقهتها سيل الفكر ، فأكاد أطير بجوار الطيور المتوشحة بالسواد .. مع كل قفزة يقفزها صدرها حاملاً عقلي المدفون طيه . حاولت البكاء فلم تسعفني جفوني و تشاغلت عيوني ببؤبؤ يحاصره ستار من سحب السماوات العلا ..
سألتها و أنا أزفر نفساً يبدو الأخير :
_ من أين أتيت ؟
أوقف هستيرة ضحكاتها المتتابعة حتى يختفي معها جمال الكون و يتسرسب عفن الآخرة فقالت في حزم :
_ من أقل درجات رضائه عني و أعلى درجات نعمته .
من جديد أحدثها :
هل للجنة بديل ؟ هل للآخرة قرين ؟ هل يوجد عدم يمكنني اللجوء له ؟
لم تفهم أو هكذا بدا لي ، فصمتت و استمرت الغربان في مناداتي .. و أخيرًا لبيت النداء ... شربت الكأس .
قبل الصلاة و آديت فريضتي الخاصة و لكني نسيت أن أذكر .. أنا حقًا آسف ، فأنا هو العبث بعينه ، آتيت لدنياك عبثًا و أغادرها ساكناً عبثٌ .

ما هذا الصمت المتقع ! أين ذهبت الغربان التي كانت تؤنسني بصوتها .. ما تلك الوحدة الموحشة ! ما أضيق تلك الغرفة التي ما انفكت مستعة سقفها آخر سماء في كون غير مُدرك ...