jeudi 18 août 2016

ٍستعود لتسأل

ستعود لتسأل
الشمس تريد الولوج بأشعتها إلى عيوني و لكن النظارة السوداء قد حمت جفوني من الاحتراق حتى و إن ظهرت كالعمياء .
من النادر أن يقترح أبي أن نذهب للشاطيء رغم أننا نسكن في مدينة ساحلية تخلو من البشر تقريبًا . اليوم من فرط فرحته , دخل المنزل و قال لأمي بصوت متحمس مبتهج : هيا فلنذهب للشاطيء , فما جدوى المكوث في هذا المنزل . لم تستعجب أمي أننا سنخرج من البيت , أما أنا فصرت في غاية التعجب . ألسنا في حالة حرب كما يخبرني أبي و مدينتنا الجميلة تتعرض للقصف طوال النهار ؟ أيكذب هذا الراديو الذي يبث تلك الأخبار المؤسفة عن وقوع ضحايا و عشرات المصابين ؟ فجأة يُسمح لساكني هذه المدينة لتنزه في حين استحال نزولي للشارع إلى جريمة تستحق العقاب منذ يوم واحد ؟ و حتى إن كذب كل أولئك البشر بما فيهم والدي أتكذب أذني التي تلتقط أصوات المروحيات و يكذب قلبي المنتفض مع كل قذيفة ترتطم بالأرض لتحصد ما تحصده من أناس لا ذنب لهم سوى أن الموت اصطفاهم ؟
وجدت أمي تضمني لتحاصرني بذراعيها و سمعت حينها قلبها ينطق بإعلان الهدنة , و بات أبي هو أمير مدينتنا . سألته و في جوفي العديد من الاسئلة التي طمعت في العثور على أجوبتها :
- يا أبي , إلى أين سنذهب تحديدًا  ؟
ابتسم و كأنه يسمع صرخات طفلة لم ينقطع حبلها السري , فهي أول مرة يسمعني أنطق بكلمة , فمنذ انزلقت من رحم أمي و أنا بكماء , صرخت صرخة الحياة لحظة ثم سكت دهرًا . العجيب أنه لم يرد .
ضيق عالمي رغم اتساعه , لم يكن في عقلي سوى ثلاث أصوات , صوت أمي و صوت أبي و صوت الهرة حين تموء .
فالكون هو بيتي , غرفتي كانت تستقبل شمس النهار , و من ثقب صغير قمت بعمله أستطعت أن استطلع أن هناك شيء آخر يُدعى القمر .. هكذا أخبرتني أمي حين سألتها .
سألت أبي من جديد :
- هل يجب أن ارتدي شيئًا محددًا للذهاب أم ثيابي هذه مناسبة ؟
قال و آثار الابتسامة في طريقها للاندحار من كثرة التساؤلات , ليس أمر غريب , فمن اعتاد أن يهب الأجوبة سيزعجه أن يُسأل :
- ارتدي ما يحلو لكِ يا حلوتي , فهذا يوم للترفيه .
لم أعرف ماذا يعني بكلمة ترفيه , لم تمر عليّ تلك الكلمة . فكرت أن اسأله و خوفًا من إثارة غضبه و تحسبًا لتداعيات هذا الغضب إن حدث آثر أن أصمت و أن أدع نفسي فريسة لفضولي حول ما يحدث خلف هذا الباب الحديدي . هل يكون خلف هذا الباب حُراس أشداء , يحملون البنادق ليدافعوا عنا في رحلتنا نحو الشاطيء ؟ هل هناك دبابات ستأمنّا باعتبارنا أحد رعايا المدينة أثناء ذهبنا للبحر ؟ هل يوجد بحرًا من الأساس ؟
سؤال في الثاني و لم اتمكن من التوازن و تملكني إحساس الجهل أو بالأحرى التشكك في كل شيء . الثوابت قد تنهار في ثانية و أريد بشدة أي شخص يُعيد على مسامعي الحقائق التي أخبرني بها أبي . لماذا انقطع صوت المروحيات و المذياع لم يعد يبث الأرقام التي حفظتها من كثرة بثها عن مدى المأساة في الخارج و أن مدينتنا على وشك الانهيار ؟
عندما وصلنا رأيت الشوارع في منتهى النظام , سيارات تغدو , نساء ملابسهن لا تشبه ما رأيته في شارعنا و لا ما يبثه تلفازنا , و كأني في كون موازي , أصبحت مشدوهة لا أفهم ما يدور حولي . الناس على وجههم شيء عجيب , لم أره من قبل فليتني أملك عيون تلمع مثلهم كمرآة تعكس نور بيّن للشمس . هل هذا جميل ؟  وفقًا لشارعنا , لا , فلا وجود لشمس مبتسمة , كإنها بين عمارات الشارع الشاهقة مسجونة , محشورة بين أزقة متسخة مكتظة مشحونة بأفكار تبدو فطرية صالحة و لكنها في ناهية الأمر كئيبة .
 جلست بجوار أبي , و أمي على وجهها الشاحب ابتسامة تتنفس هواء النجاة , و أبي كالقاتل الذي عفى عن قتيله , زهو النصر و العفو يسيطر عليه .
عيوني و كعادة أول مرة في تجربة أي شيء يشوبها الترقب و المراقبة من بعيد , البحر أو المحيط هذا على الأرجح لا نهاية له . يُحدثني والدي دومًا عن أهوال الماء المالح , يقول لي أنه يبتلع الغريق و يذوّبه بعدما يخنقه . حينها تذكرت ما سمعته منه و سألته بنبرة مرتعشة و عاد الخوف ليلامس جسدي الذي يرتعش رغم دفء خيوط الشمس المخترقة المتسعة : كيف تمكن هؤلاء الناس أن يستحموا في ماء مالح دون أن يصبهم مس أو أجسادهم تأكلوها القروش و الحيتان ؟
ضحكا الاثنين و لم يرد أيّ منهما عليّ . الاسئلة تبدو لي أنا ساذجة , إذن لِم لا يوجد ردًا أكثر بديهية و إن بدا هو الآخر ساذج .
طيور تحوم فوق رؤوس من في الماء , ينزل عصفور عملاق إلى سطح البحر فارغ الفاه ليصعد و في منقاره سمكة لم تخطر حتى في أحلامي . يتقاذفون الكرة و أخرون يعبثون ببضع حبات من الرمل و آخرون يضحكون دون داعٍ .. الغريب أن لا أحد يمنعهم و لا حتى أبي . صوتهم المِرح الصاخب يعلو صوت الموج الحزين المرتطم بصخر الشاطيء .لِم ينزل الله عليهم سوء عذابه .. هل الله حاضر فقط في شارعنا ؟
دون سابق إنذار , سألني والدي : هل تريدين حلوى ؟ لِم لا تقومين فتتعرفين على إحداهن أو أحدهن فلقد انتهت الحرب يا حلوتي ؟
شعوري ساعتها كالحبل المشدود من ناحيتين , دهشتي من الحقيقة و خوفي من أن يكون قد كذب عليّ أبي . حينها لم أعرف أيّ كذبة أصدق .. هل فعلًا انتهت الحرب التي كانت في أوجها منذ سويعات ؟ الخاطر جال بي . مَن لم تعتد التفكير فجأة , تتغير مشاعرها , تتغير رغباتها . كان أقصى ما فكرت في نضجه هو جسدي , و مع أول مرة رأيت سيل من الدماء تسرب مني , لمست بأصابعي و لم أعرف حينها ما هو و سألت أمي , فلم تجبني . أمرتني بالاستحمام و التطهر , لكن كيف لي بالتطهر و أنا لا أعرفه , و هي كالعادة اكتفت بالقيام بما يلزم و أنا أسلمها جسدي تفعل به ما تشاء . قررت الانصياع لأوامر أبي , و لِم لا , فهو يعلم كل شيء .
قررت أن اتسكع قليلًا مستأنسة بظلي و بآثار قدماي اللتين أدسهما ورائي و يمسحهما مد البحر من بعدي . لم أشعر بالوقت حينها و ظللت أمشي و تجوارني الشمس , حتى بات قرص البرتقالي الباعث لشفق يغازلني و كأنه أراد أن يقبلني على وجنتي قبل أن يغازلني واحدة أخرى مثلي على الضفة الثانية من الأرض . تعثرت  بحفرة , فغست في الرمال , فوجدت رجل عجوز يفوق أبي عمرًا , شقوق تمر كالأخاديد في وجهه الذابل المنير و أنف مقوسة تتوسط عيونه الضامرة . قام متكأ على عصاه , و وجهه يصدر صوت ضحكة قديمة بدت حبيسة و حان وقت إطلاق سراحها .
حاول أن يساعدني فطلبت منه أن يبقى مكاني حتى لا نقع نحن الاثنين في الحفرة فلا نجد من يدفنا . صعدت من الحفرة قليلة الارتفاع و حينها الغروب قد آن و الشاطيء أنفض منه الناس و لم أجد والدي على مرمى بصري . فتوترت ثم سكت . و تكلم الشيخ و أنا سرت أبادله الحديث :
- يا بنيتي , هل بتِ نائية عن منزلك ؟
- صدقني , لا أعرف أين منزلي .. كنت بصحبة والدي و لا أعرف أين هما .
- ظننتك راشدة كفاية لتتمكني من الذهاب و الإياب بمفردك . كم من العمر بلغتِ ؟
- سني من سن بدء الحرب .. أي أني على مشارف الاحتفال بعيد ميلادي السابع عشر .
- حرب .. أية حرب هذه ؟
- حربنا ضد قوى الاستعمار التي تقذفنا ليلة نهار يا شيخنا .. يبدو أن الزمن أنساك ماضيك .
- لا ينسى العجوز ماضيه ..و إن نساه ألّف غيره .
- لكن هذا العام ساحتفل لأول مرة بعيد ميلادي , لأني علمت اليوم أن الحرب قد انتهت .
- إذن هل جئتِ للشاطيء أم أنك تشاهدينه من شرفتك فقط ؟
- شرفتي .. لا نملك شرفة , أبي قرر هو و أمي حمايتنا من شر قذائف أعدائنا و عيون المتربصين بنا فقرر أن نبقى حيث ولدنا ... في الغرفة .
- و المدرسة ؟ ماذا تدرسين ؟
- أمي تدرس لي كل ما أريد ... أعرف عن علم الجغرافيا الكثير و أجيد التحدث أربع لغات و أما التاريخ فهي مهمة أبي فهو بارع فيه و متعمق في دراسته .
- أربع لغات .. هل  منهم لغة أعدائنا ؟
_ بالطبع لا .
- كيف لكِ أن تحاربي قوم أنتِ لا تعلمين لغتهم ؟
- السلاح لا لغة له , و حين أقتل لا أحتاج سوى الشجاعة و حين أُقتل لا أحتاج سوى سلام الروح  .. هذا ما عرفته من فلسفة الرومان , أمي أخبرتني به .
- مدهش يا بنيتي . و ها هي الحرب قد انتهت .. هل تنوين الذهاب لتكملِ تعليمك في المدرسة ؟
- لا أعرف , أنا أريد أن اتعلم , فما من العلم فرار يا سيدي .. لكن القرار يرجع لوالدي .
- هل أنتِ سعيدة في منزلك أم هنا على الشاطيء وسط البشر ؟
- في المنزل لأن كل شيء أفهمه .. أما هنا فهناك ما يثير فضولي و تساؤلات لا أجد مفر منها .
- يمكنني أن نفكر سويًا حتى يأتي أبواكِ و يصطحباكِ للبيت .
- كثيرًا ما سألت لِم نحارب و نعرف أن الأرض و من عليها فانون ؟
- طبيعة البشر النهم و الطمع .
- لِم أراكم سعداء هنا طوال الوقت يا سيدي .. أما في منزلي فلم أرى البسمة ثانية .. ألا تخوفون من نسيان دنياكم بالضحك و الصخب و اللهو ؟
- الضحك هو أساس دنيانا , هي روح الله فينا , الصخب مزعج و لكن أعتقد أن الأمر أكثر صخبًا داخل أجساد النفوس المريضة .
- قُل لي .. هل حاربنا فعلًا ؟
- لا لم نحارب قط و لن نحارب ... لا تخشي شيئًا يا حلوتي .
- لدي كذبتان .. الآن أصبح لدي ثلاثة . أيهم اختار لتكون الحقيقة ؟
- أظن لو أمامي الخيار هذا لاخترت ما وقر في قلبي و أشعرني بارتياح .
- لِم يُذيع التلفاز دومًا أخبار مُحزنة .. بنفس عدد الضحايا و الشهداء ؟
- التلفاز لم يعد يبث أخبار , أظن أن ما تشاهدينه فهو مسجل .
- لا , سأعود لمنزلي , فأنت رجل كبير خرف .  
ضحك و لم يعقب عليها و ترك رأسها ينفجر من كثرة التساؤلات , ليتها ما فكرت , ليتها ما سألته و لا سألت نفسها . الاجابة أسهل من ألف سؤال معقد . تترجل مثلما جاءت لتعود ناحية أمها و تحتضنها و تترجى أباها أن يُعيدها للمنزل . رجعت مرهقة , متناقضة , شغلت التلفاز و جلست أمامه بعيون لا تغفو . و في يدها كتاب التاريخ و مراجع الجغرافيا و سطور تحتها خطوط في كتب الفلسفة اليونانية و الرومانية . ترفع من صوت التلفاز و المذياع سويًا , و تغلق باب الغرفة , أمها تزعق لتتمكن من الدخول أما أبوها فعلى وجهه علامة انتصار أو بالأحرى تشفي .