samedi 5 novembre 2016

نهاية سعيدة لا تكتمل

النهاية السعيدة لا تكتمل

اصطف ثلاثتنا و نظرنا إلى أفئدة بعضنا ، و في الصحراء الشاسعة و رمالها التي تلفنا أخرج كل منا ما
في جعبته ، الكل نيام و لم يتبقى سوانا و بعض النجوم و السماء كاحلة الزرقة الشاهدة على ما شرعنا في الإفضاء به . بادرت كعادتي و سبقتهم لأسألهم ما إن كانوا يريدون التحدث .. أردت أن استمع لهم ، لكن لا أخفيكم سرًا رغبتي الأولى كمنت في كوني سأسرد لهم حكايتي ، قلت لهم :
_ فلتخبروا السماء الشاهدة و ضيوفنا من النجوم الساطعة  ما وقر في قلبكم من حب و دعونا نسرد
بصوت منخفض و نجعل هذا طي الكتمان لن يشهد عليه غيرنا ، فلا تتمكن منا لحظات ندم أو تندم على شئ مضى و لن يتغير أبدًا .
وافقوا و ازداد عدد نجوم سطح دنيانا و حل السكون ضيفًا مصحوب بريح خفيفة تحمل نسمات عطرة .. بدأت أنا ( سامي ) من تلقاء نفسي لاحكي قصتي دون حتى أن افكر في التفاصيل فقال :
_ تعلمون أني أبعد ما أكون عن قصص الحب و أمقت النهايات السعيدة ، لكن دعوني أذكر لكم بداية في غاية البهجة ، إنه شعور كفاني لهذا اليوم و كاد يفيض حبًا و راحة . ظننتهم في الأفلام و الروايات
 يبالغون عند وصف الحبيبة التي تفع عينك عليها و قد أخطأت الظن . كنت في رحلة لبني سويف ، في
 إحدى قراها المعدمة ، كانت حملة لمساعدة أهل الصعيد و كنت متطوعًا ، لم تكن تلك المرة الأولى التي ننزل فيها هذه القرية ، عندما وصلت اجتزنا الطرق الوعرة التي تقسم الترع لشقين ، و على كتفي حقيبة
 تحوي بعض المستلزمات ، الشمس تجعلنا نعرق و يتساقط العرق منا كشلالات متعددة المنابع ،
 وصلنا إلى دار معدمة .. هل تدركون معنى كلمة معدم ؟ أناس تتطل عليك و الذباب يحيط ملامحهم ،
 لم أكن أشعر بالتقزز قد احساسي بالشفقة ، خرج لنا رجل عجوز ، على رأسه عمامه يرتدي جلباب
مثقوب و في قدميه خفان مهترئان ، و عيونه العسليتين تنحصر بين ثنايا جلده المنكمش . قد سُرّ بقدومنا ، ربت على كتفي بيدين مرتعشتين و قال لي " يا ولدي ، ربك لا ينسى دابة تتضور جوعًا أو تموت عطشًا ، فما بالك برجل عجوز مثلي لا يقوى سوى على السجود لله تضرعًا محرزًا دعوة مستجابة ،
يعلم الله إني كنت في طريقي لأستعين بأحد الجيران من أجل لقمة تسد جوع حفيدي ، أنا لم يعد
يتبقى لي الكثير من الوقت .. تراودني الآن صور في أحلامي .. أرى سيدنا الحسين الذي
 قد زرته آخر مرة منذ سنين ، لقيت سيدتنا مريم و كانت تحمل رضيع و أشعت نورًا
 لم يقع عليه نظري من قبل ... العجيب يا بني إني لم أعثر على زوجتي ، تظن أنها لم تجد أبواب الجنة ؟ أتظنها ما زالت تائهة .. أم ما تزال تنتظرني .. إنها انتظرتني كثيرًا في الدنيا و لم ترحل حتى رغم
عنفواني و جموح شبابي .. أذكر يوم حملت في ابنتي الوحيدة ، الفتاة ولدت بواسطة الداية حُسنية و نزلت و لكنها لم تصرخ .. كانت قطعة لحم مائل للزرقة .. لا تصدر نفسًا .. لم ترد أن تقتنع أنها ماتت
 قبل أن تحيا ، حملت امرأتي ابنتها في صمت و لم تبكيها و فجأة و دموعي تذرف على مولودتي المحكوم عليها بالجنة و الشفاعة ، تضربها ضربة على ظهرها ليرد الله فيها الروح من جديد لتصرخ صرخة
مدوية .. جاءت زوجتي بسلام و رحلت في سلام .. أريد من الله أن يجمعني بها يا ولدي .. أدعو لي
 فلا تضيع ثانية في حياتك إلا و تكون فيها بجوار من تحب حتى لو في حلمك " . تبسمت له طيلة حكايته التي لا تنقطع ، و همت في عوالم بعيدة ، كان عجوز ذو خيال خصب ، و أحلام من السهل تصورها
 و تحويلها لأفلام سينمائية . تركت داره و وعدته أني سأعود قبل الرحيل لأطمن على حاله و ما إن كان
 بحاجة لمساعدة . ذهبت و عدتُ وقت قبيل المغرب و مع غروب قرص الشمس الملتهب ليلطف من لهيبه نيل رائق . طرقت الباب ، فإذ بمريم بتول جديدة أراها ، فتاة تحمل طفلًا ، عيونها تراقبني من وراء
 ثغرة في نقاب لم يسمح لي بالتعرف على ما يتستر عليه النقاب من بهاء . الطفل أوشى ببعض التفاصيل ، كان صاحب بشرة عاجية و فم يشبه حبة الفسدق وردي اللون ، كوجنتيه الممتلئتين ، و شعره الناعم
الخفيف الهابط كأخدود منبعه نهر عميق . سألتها متوترًا ، متأملًا ، ناسيًا :
_ من تكونين يا سيدتي ؟
_ أنت من طرقت باب دارنا ، فمن تكون ؟
_ أدعى سامي ، من المتطوعين في حملة المساعدة .
_ أعتقد أننا نلنا نصيبنا ، قد تكون أخطأت الدار .
كادت تغلق الباب أمامي ، و تجعلني أموت من فضولي و شوقي للاستماع لنبرات صوتها . فقلت بنوع
من جدية لا يخلو من تأملاتي للطفل و تخيل ما يقبع وراء ستار عفتها :
_ لا ، لم آتي لأهبك شيئًا ، فإني أعرف الحاج و أردت فقط أن اطمئن على حالته ، يمكني الولوج إن
سمحتي ؟
_ أبي نائم ، و لا يوجد غيري في الدار ، و يستحسن أن ترحل من هنا يا بن مصر ، حتى لا يظن بدارنا
 أحد سوء الظن .
_ لم أعرف إني سأسبب هذا الازعاج لكم ، السلام عليكم .
و بنظرة واحدة مني نحوها ، جعلتها تشعر بالذنب ، فأدرت ظهري لها و ما أن سرت لبعض الخطوات
 حتى سمعتها تناديني بصوت منخفض لتعبث بقلبي العبوس فيبتهج و لا يزمجر بعد ذلك :
_ يمكنك الانتظار بالداخل إلى أن يصحو ، و بعدها تنصرف ، حتى لا تقول على الصعايدة غير مضايفين .
ابتسمت و حينها ابتلع موج النيل في عيني قرص الشمس ، و قلت وطأة حرارته و سمخت لنسيم صيفي بالمرور .
دلفت لأجد العجوز مستلقي على عتبة مبنية من طوب لبن و ظهره يلامس الحصير ، بجانبه لقمة قد
تعفنت حاز الذباب منها ما حاز ، و نالت منها الحشرات جميعًا نصيبًا . أنزلت الفتاة الطفل و أخذ يهرول في الدار المتواضعة في ظاهرها الباعثة للدفء في داخلها ، فقالت لي :
_ سأعد لك الشاي فأمامك ، ساعات من السفر بالتأكيد ستقصف ظهرك .
_ أهل كرم و الله ، لكن لا تتعبي نفسك . أنت ابنة الحاج أليس كذلك ؟ تحدث عنك كثيرًا .
_ في المعتاد ، لا يتحدث الرجال عن بناتهم مع الغرباء ، لكن بالطبع عثر أبي على نبتة صالحة فيك يا
 أستاذ .
_ أتمنى صدقيني ، رغم أن الحياة تكسب المرء الأسوء من الصفات ، ريح من الفساد أمام ريشة ، بالتأكيد ستطيح الريشة بالريح .
جاءت بالصحن و عليه كوبان ، و تفادت بقدميها ولدها الذي لا يكف عن اللعب و القفز في أنحاء الدار
الفسيح ، يجري وراء الدجاج في حوش الدار ، يلهو بقطة لا تفارق بيتهم لعشقها هذا براءة هذا الطفل . صبت له الشاي من الإناء و بدأت تتحسن نبرة صوتها و بدأ الخوف يُنتشل بواسطة الحديث الصادقة
المتدفق . فسألتها :
_ في أي كلية تخرجتي يا .... ؟
_ أُدعى صبا .. و لا تخبر أحد بذلك .
_لماذا ؟
_ لأنك ببساطة ليس من المفترض بك أن تكون في دارنا ، و لا أن تكلم حريم هذا الدار .
_ إذن ، لم سمحت لي بالولوج ؟
_ صدقني يا أستاذ سامي ، لا أعرف ، قد تكون " أردت ذلك " كفاية .
_ أنا أيضًا أردت ذلك .. إذن ماذا عن تعليمك ؟
_ إني حاصلة على شهادة محو الأمية .. بامكاني فك الخط و كتابة اسمي في المعاملات الحكومية وقت
 التوقيع على شهادة .
_ أين تعملين ؟
_ في بيت عمدة قريتنا ، أذهب لاساعد في أمور البيت ، و أدر راتب لا بأس به ، و معاش أبي بالكاد
 يكفي لأدويته ... كم ملعقة تريد ؟
حينها جاءت الشمس مبكرًا ، تغرب واحدة باهتة الضوء لتحل أخرى ناصعة ضيائها ملائكي ، كوصف
العجوز للجنة في أحلامه ، بهدوء انسلخت روحي ببطئ مني و هي تزيل غطاء وجهها متعللة بسخونة
 الجو . يا لها من صدفة قدّرها ربي و ربها ليجمع بين روحي التي تطافت حول جفونها أشواط لا حصر
 لها ، و ظللت أنظر رغم مني ، لا أستطيع فكاك .. عيونها المسحوبة سوداء تلمع كسماء صحراء شاسعة يمتد فيها الأفق لما لا نهاية  ، شعرها تبين منه خصلات فاحمة السواد ينسدل تحت حجابها دون تموج
ليصل لنصف ظهرها محرزًا مني دهشة من حسن فريد . الحمد لله الذي جعلها تستر عن أعينكم ، تمنيت لو أصيب العالم كله بالعمى ، فأبصرتها أولًا و حزرتها أخيرًا . قلت لها :
_اللهم صلى على كامل النور ، لم يخطأ مولانا في وصفك يا سيدتي .
أحمرت الوجنتين و العيون زادت اتساعًا و كأن حاجز ما بيننا انهدم ، تبسمت ، فلم أقوى على تحمل
 صمتها فباغتها بقولي :
_ لم يكن من العدل أن تلبسين كل هذا الجمال سوادًا ، فلولا شعرت ببهاء روحك لما مررت بداركم يا
صبا .
نظرت لطفلها ، و شرعت تسرد لي حكايتها ، حكاية أب تودد إليه عمدة قريته بمنحه قطعة أرض من
أملاكه في مقابل تزويجه ابنته ، بنت الخامسة عشر ، فوافق الأب على الفور ، لم يبال و كانت صبا
لا تعرف ماذا يعني هذا العرس . أهذا زفة فقط ؟ عندما سترحل أمها ، هل ستبكي أم ستعتاد هذا الوضع . لم تبكي يومًا صبا ، و لكن بعد أن أدركت ما حل بها بكت دهرًا . جاء إليها إلياس ، ليجعل منها أمًا
و يدفعها لنسيان ما لم تنساه يومًا . ماتت الأم حزينة على مصير صبا ، بسبب سرطان ثديها ، و الأب
 يذهب يوميًا للأرض يحرث بمفرده حتى هده الكبر و لم يعد بمقدوره العمل بالفلاحة ، فاقترح عليه
 العمدة شرائها بضعف الثمن الذي باعها له به ، فوافق و حينها كان شرط العجوز الوحيد هو أن يترك
 صبا تجلس معه في داره حتى يقابل رب كريم فيلحق بمن سبقوه في الرحيل ، فلم يمانع و ابدى حسن
 نواياه بتخصيص مبلغ من المال لصبا في سبيل تربية إلياس ، و سيتكفل به حتى يشد عوده و يساعد الولد أباه العمدة بعد ذلك . صبا لم تشعر يومًا بانوثتها حتى و العمدة يطارحها الفراش ، يكتفي بعشر دقائق
 لينتهي المفعول و يتركها على الفراش ، كالماكينة المعطلة . الآن و هي في العشرين من عمرها ، تموت كل يوم تحتاج من يجعلها أنثي من جديد .
    استفقت من غفوتي ، و من دون إرادة مني سألتها إن كانت تريد أن تنسى ماضيها فأجبتني :
_ لن يدعك الماضي تفلت من بين مخالبه ، حتى و إن تناسيت سيأتيك في كوابيسك من يعكر صفو حلمك البديع ، لقد كتب عليّ الشقاء و لا شئ غيره على ما يبدو يا سامي .
_ سأخطبك من أباك الآن و سننهي القصة بنهاية تلائمك .
_ لكني لن أوافق ، لن أترك الدار ، فمن تعود الآسى لن يروقه العودة للبهجة ، ألا ترى ملامح وجهي كم أصبحت تعشق الحزن فيرتسم عليها أبهى تعاسة .
_ كفي عن هذا من فضلك ، فلم يخلق الله منك سوى واحدة ، يتمنى منها الحزن الفراق و الحب التقرب و الاقتراب .
_ لم كل هذا الاصرار ، تعرفني لتوك و تستمسك بي بشدة .. أعذرني لكني أجدك مغفل .
_  اتدرين متى غفلت ؟ الآن فقط ، لأني تركت أي اعتبار و تطلب منك لتوي أن تدعيني أعشقك .. دعيني أحبك ... دعيني أمسك بيديك و لا أترك .. دعيني أذوب في عينك تأملًا .. دعيني أحيا و أموت بجوارك . أما أطلبه صعب المنال ؟
_ اذهب يا سيدي ، فقد يستيقظ أبي و يزعجه تواجدك لهذا الوقت المتأخر ، فواجبك قد أخذته و أكثر من
ذلك .
حينها ، انطفئ النور في الكون ، و كأن الدنيا باتت صماء بكماء عمياء ، لم أعرف لم تطردني و بدا لي
 أنها تستحسني ، و على عتبة الباب وجدت الطفل فحملته و طبعت القبلة على خديه ليبتسم و لكنه
استمسك بي حتى انتشلته أمي من بين أضلعي . سرت في الطريق و قد فوت رحلة الرجوع و عليّ
الانتظار للصباح فقد قارب الليل علي الانتصاف ، الذئاب تعوي و الخوف تمسحه خيبة الأمل في قلبي ، شعوري حينها كمن امتلك مفتاح جنته و فجأة ارتكب خطيئة فرُد للنار من جديد . ليتني ما تفوهت ، كفاني منها كلامها ، كفاني سماعي لصوتها الرائق ، و تأملي لثغرة فمها المضمومة ، عطرها المتسرسب
من ثنايا العباية السوداء التي حجبت نص جمال الكون أما النص الثاني في عيونها . ماذا أقول لكم ؟ اليوم هذا ، ربي بعث لي برسول تشبه مريم حتي و إن لم تكن بتول ."
_ هكذا انتهت قصتك بنهاية سعيدة يا سامي ؟
 لا ، لم ترد السماء أن تسدل ستار هكذا ، ف" و أنا أسير على الطريق أسيرًّا لذكرى لم يمضي عليه
سوى دقائق ، سمعت صوت يناجيني باسمي ، لتطل علي مجددًا ، قمر من بين أعشاب تفوح منها روائح
ريحان ، لتقول لي : هل سترحل فعلًا ؟
فأجبتها :
_ أنت من أردتي ذلك .. هكذا فهمت .
_ إذن بعد زواجنا ، ستفعل ما تؤمر دون نقاش .
لتتبسم بسمة النبي في حياء ، و تترك إلياس يهرول نحوي مصدرًا ضحكة طفولية صاخبة ، فعدت معاها لأجد العجوز مستيقظ و طلب مني المكوث حتى غد الباكر ، فبعد كل ليل يشق الفجر طريقه . حينها الفجر لم يطل غيابه في حضرة النور . و هي الآن زوجتي يا رجال .. لنصل لمرة الزواج احتاج الأمر سنتين .. انتظرت سنتين ميت من الشوق ، ثم عشت دهرًا معهما . "

ضعنا في تفاصيل حكايتي التي لم اذكر منها سوى القليل ، فانتفض قلب ياسمين ، و باحت بما في قلبها أو ما كان . يعرف الكون بأسره نهاية تلك الفتاة الحزينة ، نهاية تدمي القلب و لكن دائمًا ما ينتهي بآسى
 يكون في أبهى صور بدايته . ياسمين فتاة سمراء ، قسمات وجهها المستدير تتناسب مع صغر سنها و
شعرها الفاحم الملتوي يذكرك ببنات النوبة البسيطات ذوات البسمة الناصعة . بعد أن صمتنا لوهلة بعد ما قصصت قصتي ، نهضت ياسمين من جلستها و اشاحت الشال الذي كان يغطي كتفيها و تنفست بعمق
 و بدأت تسرد لنا :
" كنت في فرقة المسرح و في أولى أيامي لم أكن في حالتي الطبيعية ، عالم جديد ، سعيت لأندمج مع هذا العالم المتسع في الجامعة ، الذي يضم من البشر ما طاب لنا و ما لم يطب ، فكان سبيلي الوحيد أن أذهب لأرى ما إن كان بامكاني التمثيل أو على الأقل قد أكوّن صداقات في هذا المكان الذي بدا و كأنه موحش .
انزويت في بادئ الأمر و عندما دخلت المسرح ، وجدت بروفات لعروض مسرحية قد تم الانتهاء من كتابتها و اختيار طاقم التمثيل ، لم أشعر أني بخير ، وجدت نفسي في وسط ذلك الزحام وحيدة ، هناك على خشبة المسرح رجل يحمل ورق و يوجه شاب و فتاة يمينًا و يطلب رفع صوت المزيكا و أن يرفعوا عن
 أنفسهم قيد التمثيل و لا يفتعلوا احساسًا فينظرون له في امتنان و أحيانًا بسخرية و تهكم ، و هناك فتاة
يحيط بها زمرة من الشباب تصدر صوت ضاحك جهوري  لم يسبب سوى لي فقط شعور بالاحراج .، لم أجد من يشبهني حينها ، علمًا بأني أردت من يناقضني ، فكفاني مني عمرًا ، التغيير دومًا مربك لا يشعرك بالأمان ،و هذا تحديدًا ما حل بي حينها . كنت أجلس في أقصى القاعة ، أراقب و أعلق و لكن في عمق نفسي و لم ينل مني أحد من الحضور أكثر من طرفة عين . لم أُجد يومًا التمثيل ، فماذا أفعل ؟
لم أجد أصدقاء .. هل سأذهب لأحرض الناس على صداقتي ؟ أم أقف أمام الشباب ضاحكة كهذه الفتاة و
 يحكم عليّ ناس مثل ما كدت أحكم به على تلك الشابة الضحوكة ؟ جالت بي الفكر و استوقفني استعراض الفتاة على المسرح و زميلها يحملها من الأرض بعد أن سقطت تمامًا كما كتب في النص المسرحي ،
 تصفيق زملائها ، كنت أراها تبكي دون افتعال و كنت أرى الحسد في عيون من تحت المسرح يشاهدن
 دورها ، و في قلوبهن كره يكفي ليسقطها من سابع سماء . الكل كان يرتجي منها سقطة ليحل محلها ، أما الشباب فلم يكن بالكثير و لم يشد انتباهي أي منهم . طلب المخرج من المتواجدين لأول مرة ، أن يقتربوا و يسجلوا اسمائهم ليشاركوا في العروض القادمة . لم يشاورني عقلي و لا انا شاورته ، قمت من جلستي و أدرت ظهري لخشبة المسرح و قلت لنفسي ( حظ تعيس المرة السابقة ) . فإذ به يظهر أمامي ، شاب
 متوسط القامة ، بشوش الوجه ، لا تنقطع الابتسام. من عيونه ، مفتول العضلات إذا احتضني كنت فتتات منثور ، في عيونه الزرقاء لمعة أضافت لملامحه وسامة . عندما كاد يصطدم بي ، تأسف فلم أبال ،
و كدت أخرج فإذ به يقول لي
_ ألم يعجبك مسرحنا ... لا تريدين أن تنضمي إلينا ؟
صمت ظننا مني أنه يخاطب ملاك أو شيطان في عالم آخر . فعاود الكلام و قال لي ..
_ يا هانم .. يمكنني التحدث بلغة الاشارة إن  كنت صماء .
فرددت على فوري بارتياح و طمأنينة تامة :
_ أتتحدث لي حضرتك ؟
أومأ برأسه و طلب مني الانضمام إلي فرقته إن لن يزعجني هذا ، و كأن القدر كتب لي هذا اليوم بسمة لم يرد لأحد اختلاسها مني . عرفني إلي المخرج ، و الممثلة التي على مسرح و البطل و الحاقدين عليهما . لم أكن حينها أشعر أني مغتربة ، فوجوده رغم أنه لا يعرف من سوى اسمي و أنا كذلك كان هو ملاذي صراحة . حينها سألني ما إن كنت أحب التمثيل و أجديه أم لا ، فأجبته أني لا أجيد سوى الكتابة و فقط .
فسُر من ذلك الخبر ، و قال لي أن الفرقة بحاجة لكتاب و هناك فقر في النصوص ، و قرر أن يشركني
 في كتابة المسرحية القادمة معه .
جلسنا أولى جلستنا سويا ، على مقهي شعبي ، لم اشعر فيه بالارتياح صراحةً ، فعندما شعر بي هكذا
 اقترح أن نذهب حيثما شئت متذرعًّا بأن الابداع لن يأتي سوى و البال مرتاح و الوجدان سارح في
ملكوته الخاص . لم يكن أبدًا شاعرًا مع أحد من زملائه أو اقاربه و لكن معي فأشعرني بأني من
 ملائكة الرب في أرض نعيمه .. يا له من عاشق ، لا تقعوا في غرام كاتبًا أو شاعرًا فسيملككم الدنيا
في سطور و يسلبها منكم في حرف  .
كنا نتقابل يوميا في المسرح الصباح و ليلًا في أي مكان ، بحجة الاتفاق على النص ، و كثفنا لقاءتنا قبيل
 العرض ، كنا نجلس مع اأناس لا حصر لهم حتى إني لا اتذكر لهم ملامح ، و لكنه يتكلم مع ذلك و هذا و يرجع إليّ ليحدثني من جديد و كأن عش لا يفارقه بلبله .
يوم العرض ، جاءت الاسماء مغايرة لما في نص ، من أين آتت البطلة باسم ياسمين و البطل حبيبها باسم طارق ، و من أين انطلقت قصة الحب تلك ، تشبه تمامًا ما مررنا به ، كنت أرى ديكورًا مختلفًا عما في
 النص المكتوب .. كنت في وسط الجمهور مندهشة ، انتظر سقوط البطلة و تصفيق الجمهور تحية لأدائها فلا أرى سوى كلمات جعلتني أظن أنها مهداة لي .. فقد قال طارق لياسمين :
( لا لست أنا من أحب ، إن كنت مسير في الدنيا فلقد أجبرني قدري على حبك منذ وقع نظر عليك ،
لا أعرف ماذا حل بي ، افتعلت تلك الحيلة إني كاتب لتساعديني ، لا أجيد التمثيل و لا المسرح فقط أجيد عشقك ، أجيد تقرب منك و الدنو إليك ، تمنيت لو كان المسرح لي أنا و أنتي بمفردنا ، فلا يطلع أحد على حرف من حروفي و لا يد أحد تهب بالتصفيق ، فلتطرقوا أبواب السماء لتصفق الملائكة و يتباهى بحبي رب الأحباء .. هل يمكننا أن نكون سويًا يا هانم لمدة عمر آخر إنسان في الدنيا ؟ سأظل أنا أعشقك حتى
فناء الآخرة . ) و بعدها جث على ركبتيه و توسل للفناة و قبل يديها ثم أسدل الستار و سمعت دوي صراخ و تصفيق حاد لا ينقطع . لقد أعجبوا بعرضي الأول ، فرحت و لكن لم أفهم لم التغيير في النص .
جاءتني الممثلة بعد انتهاء العرض و عندما سألتها على طارق ، أخبرتني بحقيقة الأمر ، في خلال الفترة
الأخيرة طارق لم يكن يجيد الكتابة و توسل إليهم و يقدم تلك المسرحية و كان كل يوم بعد قيامهم من
 المقهى يعمل على النص الموازي الذي سيتم عرضه فعليًا ليتمكن من توصيل رسالة حبه لي . و ترك لي معها رسالة كتب عليها ( لك أنت المشهد الأخيرة من المسرحية يا ياسمين ) . "
انتهينا لتونا من قصة آسرتنا جميعًا , يا لها من لحظات تلخص جمال الجنة , تخيل معي أن جنتنا ستكون
 للسعادة و كل اللحظات ستكون وهلات متسارعة تبعث بالضحك و التبسم و الرضا , ستُمحى ذكرانا
الآليمة مع ذنوبنا المُغتفرة , ابتعد القمر و بات في طريقه لأسفل , ستحل مكانه شمس النهار الفاضحة
التي معها تستحيل الكلمات الصادقة لأخرى مزيفة و الحقيقة تصبح باهتة غير مُتبينة .
نبهت منتصر إلى أن الفجر قد آن و لا نريد أن يفوت القمر حكايته , فداعبني و قال أنه لا يكترث  لمن
سيسمع كان قمرًا أو نورًا . و سار في الحديث سيرًا على عجلة و خفت أن يدع التفاصيل تسقط فقررت
متابعته حرف وراء أخر ... فتسري الحكاية مع ظلال القمر الممتدة على طول البحر لتشق موجه المهتدي نحو شاطيء تهجره كائناته :
" كنت مدعو لحفلة عيد ميلاد ابن زميلي في العمل و قررت الذهاب لاجامله مثلما فعل مع ابني .
اصطحبت  زوجتي هايدي ,. تعرفاها بالتأكيد , فتاة ارستقراطية و مليحة الوجه , فائرة الجسد , من حظى
باعجابها نال الدنيا و مع عليها , سليطة اللسان , متقنة في ملابسها حتى تظنها سيدة أعمال , تهتم بتفاصيلي
من تقليم أظافري و حتى تسريحة شعري الأشعث هذا , أحببتها و لم أرى في حسنها امرأة على هذا الكون .
وصلنا لفيلا في منطقة على أطراف مدينتنا و سلمت على زميلي الذي فاقني درجة في العمل و إن لم أحمل له ضغينة فكان أحق بالترقية مني , كنت على يقين من ذلك . هايدي بادلت زوجة زميلي السلام و في وقت قصير
 آلفتها فتركتها و أخبرتها أني سأكون بالجوار . ذهبت مع صديقي نحتسي شرابًا , فلم أجد عند الحانة التي
توسطت الحديقة سوى الخمر فمازحني قائلًا ( لن ندخل النار على كوب واحد , إن لم نجد ما نعصى ديننا فيه
فهل للاستغفار من فائدة يا منتصر ؟ ) . حقيقةً , لم أفكر في كلامه مليًا , فصبّ لي كوب فنزل السائل من حلقي
كسكين حاد يسلخ أحشائي لكن حقيقة أحببت الشراب بعد ذلك .. هكذا هي المعصية تتقزز منها في باديء الأمر
ثم تألفها فتستحسنها لنفسك ثم لغيرك . لم أكثر في الشرب حتى لا اترنح , بعد ذلك لم أجد زميلي بقربي ,
أبصرت فشاهدت عرض لعرائس و أمامه يتراص الأطفال مهللين و مصفقين بحرارة . جلست القرفصاء
بجوارهم و ثغرى يتفتح و رأسي بدا يزولا معالم خيالية مع تلك الدُمية الحكاواتية , أحببت عوالمها و تمنيت في  لحظة مثل الأطفال أن تعيد القصة أو تألف غيرها . انتهى العرض فتنفست و زار الهواء قلبي , و نفذ عطر
السيدة إلى روحي  . لم أبرح مكاني مثل الصبية و مكثت حتى قدمت إليّ فتاة بدت أكبر مني سنًا , مهرجة ,
 تخيلوا يا رفاق ؟ أمن المعتاد أن يقذف الله في قلوبنا حب رؤية مهرجة ؟ سارت نحوي بخطى بطيئة و إن كانت مسرعة , فقالت لي :
- يا سيدي , هل أعجبك عرضنا ؟
- ما من أحد لا يمكنه ألا يعجبه ما تقومون به .
- إذن تخميني في محله , لست هنا لتراعي أحد الصبية .
- لا أبدًا , أنا هنا كنت صبيًا أحتاج أن أرى المهرج و الأراجوز .
- ليت كل الأطفال مثلهم و ساكنون لا يصدرون صوت , يستمعون فقط .
- ليت كل الحكائين مثلك يا سيدتي , ننعم بصوتهم و بصحبة الملائكة .
الخجل انكشف و بدت تحاول أن تراوغ و تدعي الانشغال , فلم أدعها متحججًا بأي سؤال و أردتها منها حينها
الحديث , هل تعرف اللحظة التي تفتعل فيها حديث فقط لتسمع صوت من أحبتت . كانت تجيد الحديث و
رأيتها مثقفة لدرجة لا بأس بها بالنسبة لي و بدرجة جعلت هايدي تبدو أمامي في منتهى الضحالة . يا له من قدر
سخيف , عرقلني بواحدة جعلتني أخرى أسأم من التفكير بها . كنا نتبادل الآراء فسألتني :
- سيدي , هل شاهدت عرض الليلة الكبيرة من قبل ؟
- ليس كثيرًا و لكن أخبريني أنكِ مشاركة في عرضٍ ما و أدعوني له .
ضحكت و قالت بحماسة :
- هل يمكنك المجيء فعلًا ؟
- بالتأكيد . و ماذا عن حبك للموسيقى ؟
- أعشق الموسيقى الغربية , أكره من يدعون أنهم من عشاق الشرق .. صراحة لا أجد فيه ما يغذي روحي و لا يجعل جسدي ينتفض ليرقص و يتمايل دون توقف ... الحياة أقصر من الحزن و تندم على الماضي و السماع
لمقدمة من الموسيقى الطويلة لأم كلثوم و لا لآهات عبد الحليم المغرور و من تقع النساء جميعًا في حبه , لأكن
 منصفة قد يكون كرهي للزمن القديم أحد عوامل ميولي للغرب .
- لتخبريني ماذا تريدين في المستقبل ؟
- أريد تحقيق الكثير , و أول ما أريد تحقيقه هو الشيء الذي لم يخطر على بال بعد . أريد أن أحلم أحلام أكبر
 من أحلامي الكبيرة , السفر أول اهتماماتي , أريد السفر لأقيم فرقة مسرحية كبيرة تهتم بكل أنواع الفنون ,
أعرف أصدقاء يتقنون فنون عديد , المسرح , الموسيقى و النحت , الفن التشكيلي , و أنا بعروضي سنشكل
 فرقة عالمية تسود العالم لخمسين سنة , فنموت واحد تلو الأخر و تعيش ذكرى أعمالنا للأبد . الفن الشيء
الوحيد الباقي للأبد , فهو الحقيقة المطلقة , هل تجد دين يختلف على جمال الفن بأي صور ؟
- و ماذا عن زوجك ؟
- ليس لي واحد و لا أخطط لهذا .
- عظيم , أين سيكون الحفلة القادم ؟
- أقدم عرض كل يوم ثلاثاء في الساقية , إن رغبت بالحضور سيدي .
- إذن سأراك الثلاثاء القادم .. سررت بلقائك يا سيدتي .
ابتعدت عني لتبدل ملابسى و تزيل المسحوق من وجهها . قد حان وقت الرحيل , ذهبت لأطلب من هايدي القيام و حيازة حقيبتها و سلمت على زميلي و امرأته  و نحو باب السيارة سرنا و قلت بعد تفكير شاذ جاء بدماغي
( سوف أطلقك يا هايدي لأتزوج .. عذرًا ) و صمتنا دهرًا . "