vendredi 3 novembre 2017

مبدع جزيرتنا


دار المبدع أم البحر الملعون ؟

قريتنا منقسمة لجزيرتين , يفصلهما بحر , أخبرتنا جماعتنا أن هذا البحر عميق و من ينزله لن يشهد سوى الموت غرقًا . لم أرَ طيلة حياتي من يعبر هذا البحر و لو حتى على متن زورق صغير . عندما سألت أبي , قال لي في شدة و حزم :
- لم و لن يجرأ أحد على العبور , فمن أبدع جزيرتنا قد حذرنا من لعنت من يحاول مجرد المرور .
جزيرتي ليست واسعة , لكن جميع سكانها يفخرون بانتمائهم لها , مع الآسف جزيرتنا مكتظة بأناس ... دون وجوه ... لا أرى لهم أنفًا و لا عيونًا .
صباح يومًا ما , ذهبت كعادتي صباحًا لدرس التاريخ أو الدين , لكن قبل ذهابي أخبرني أبي بأننا علينا الذهاب لمكانٍ ما . حين سألته عن ماهية هذا المكان ... قال بسرور :
- سآخذك لنزور مبدع تلك الجزيرة .
قلت له و أنا مطمئنة :
- هل سيعطيني حلوى ؟
قال مبتسمًا :
- حان الآن موعدك يا بنيتي .
كنت ناضجة بما فيه الكفاية لكن لم استعب ما يقول ... كنت قد بلغت  العشرين من العمر . يقولون أنني جميلة ...و لكني أشك في هذا, فلم تتح لي الفرصة لأرى وجهي .
كيف لي أن اتأملني ؟ الطريقة الوحيدة أن أذهب نحو هذا البحر الملعون و أرى انعكاس وجهي .
فقادني أبي نحو دار في أقصى جزيرتنا ... صحراء قاحلة تحيط رمالها دار خشبي لا يليق بمنزلة مبدع تلك الجزيرة .
فسألت أبي :
- هل يسكن هنا ؟ في هذا البيت المتواضع .
قال لي بثقة :
- أنه يتنازل عن منزلته ليجعلنا أقرب إليه ... التواضع من لطفه بنا يا حبيبتي .
كان الباب خشبي هش , تركت لي أبي _ هكذا ظننت _ الحق في فتحه ثم دلفت متجهةً نحو باب أضيق ثم نحو سرداب مظلم كهذا البيت . كتابات غير مفهومة رأيتها على الجدران , و حين استفسر من أبي عنها يخبرني أنني على وشك أن التقي من كتبها يمكنني سؤاله عنها .
أزاح عني الشكوك أبي بقوله متهدجًا : - ها قد وصلنا .
إذ بي أرى شخص مبسوط الوجه , يبتسم في خبث , و تفوح منه رائحة ذكية _ لكن في الوقت ذاته شعرت أنفي برائحة كريهة تختبأ وراء جلبابه الأبيض .
تهت لثانية , لأفق من غفوتي و أرى أمامي أبي لكن في لباس غير هذا الذي كان يرتديه . سمعت صوته يحدثني و لكن الصورة لا تتحرك .
زغاريد و أصوات مبتهجة تتمسح بما يقولون بركتي و لكني شعرت بحيرة ... حتى صرخت لكي يسمعون أنيني ... كنت أتوجع و لم يشعر بي أي منهم .
علمت فيما تلى هذا الحدث من أيام ... أنني صرت بلا وجه مثلهم .. هذه هي بركة مبدع جزيرتنا .
فيما بعد , قررت الهروب ... أريد الذهاب للبحر الملعون . أريد أن أرى ضفاف الجزيرة الأخرى .
ملعونة ... و هل هكذا لست ملعونة ؟
لكن كيف سأرى و أنا بلا عيون ؟
كيف سأهرب و الأسطورة تخبرنا بأن من خرج من الجزيرة و لمس البحر قطعت يده من مياهه و فطر قلبه لنصفين ؟
بعد ليلة كاملة من التفكير ... جمعت بعض النقود من أبي _ بالأحرى سرقتها _ و اتفقت مع أختي الكبري بعد أن أغويتها بالنقود و بالرحلة التي لم يخضها غيرنا , على أن نذهب لهناك و تصف لي ما تراه بكل دقة .
و بالفعل , وصلنا لهناك , شعرت بالمياه تناديني و كلما اقتربنا زاد نسماتها , و من هنا كان الشغف يملأني من أجل سماع ما لم أستطع مشاهدته بعد ما حل عليّ بركته .
بدأت أختي الملعونة بوصف ما أمامنا :
- البحر هذا مياهه عذبه , أنزلت فيه عصا فاكتشفت أنه ضحل , يمكن لزورق صغير أن يوصلنا للنواحي الأخرى منه .
فهمست لها خائفة :
- هل هناك أحد يسبح في الماء ... أسمع حركة مريبة . هل هناك زوارق تسير على سطح البحر ؟ هلا مددتي لي يدي كي أعرف مدى عذوبته .
ذقت من كفي الممدود و لم أشهد عذوبة مياه مثلما ذقته .
كادت أختي أن تجيب حتى سمعت صوت يستغيث :
- ساعديني ... مدي لي يدك .
سألته حين لمس البر الآخر :
- من أنت ؟ و كيف لك أن تغرق و المياه ضحلة ؟
فقال بسخرية من سؤالي :
- آتي يوميًا إلى هنا ... لكن لم يلحظ أحد هذا ... ربط ضحالة الغرق باستحالة غرقي .
فسألته أختي مضطربة :
- لم تجبها ... من أين أنت قادم ؟
فقال :
- من الضفة الأخرى ... جزيرتنا ... جزيرة " عدن " .
فسألته مستعجبةً و أنا أتحسس جسده فأجد له وجهًا لكن ليس كوجوه البشر , فالعين تتوسطه و يعلوها الفم و لكن أذنه شابهت خاصتنا  :
- كيف لم تلعنك مياه البحر و تفقد أيًا من أطرافك ؟
ضحك في خفوت :
- بحر ؟ نحن نسميه في " عدن " نهرًا ... وهذا مركز رزقنا و نعمة مبدع جزيرتنا علينا .
خافت من كلامه أختي و رحلت ... أما أنا فنزلت معه المياه و سبحنا مرارًا و تكرارًا بين الضفتين تلك الليلة .
علم أهل جزيرتي و أهل جزيرة " عدن " ... و لكن حين آتوا و مكث أحدهم على شاطئ بحره و الآخر على ضفاف نهره , لم يجدوا أي منا .
قد رحلنا لنخلق جزيرة خاصة بنا ... و بالفعل نجحنا في البادئ .
و بعد مرور أعوام , رحل المرتبصون بنا من أهل الجزيرتين و تناقلون أسطورة عن مصيرنا التعيس أما أختي فقد سمعت من جزيرتي الجديدة أنها قتلت و ألقيت جثتها على ضفاف المياه فصارت عبرة لمن يحاول الهروب .
أما في جزيرتنا , فقد بدأ هذا الرجل الذي جاورني في رحلة هروبنا في إنشاء بيت يشبه كثيرًا بيت المبدع ... لكن تعدى في مساحته الدار في جزيرتي القديمة .

samedi 3 juin 2017

شيري و عبده


شيري و عبده
لقد دللت نفسي منذ عرفت أنني أدعى ( شيريهان ) , فكان تدليلي لذاتي مقتصرًا فقط على تحولي اسمًا من شيريهان ل( شيري ) . للعلم , أنا أسكن في إحدى العشوائيات – لا داعي لذكر العنوان حتى لا يلاحقني المفتونون بالفقراء أمثالي . فقراء ! .. و اللهِ الفقراء هؤلاء أفضل منا حالًا . لا تظنوا أنني اتسول منكم نظرة شفقة , أنا أبعد ما يكون عن هذا الأسلوب . هل تعلمون أنني دائمًا ما أكون في طليعة النسوان اللاتي يرمين الشباشب أمام كاميرات التلفزيون التي تأتي لترصد أوضاعنا المعيشية المتردية . أمي ( فتحية ) , أرملة تعولني أنا و أختي الصغيرة منذ أن غادر أبونا العالم تاركًا بيت من طوب أحمر يدخله خط للمياه لم تكتمل مواسيره بعد , حين نشتكي يقولون لنا أن المحافظة لا تملك أموالًا تنفقها على توصيل خط المياه لمنزلنا . ( فتحية ) تعمل خادمة في بيوت ... منذ نعومة أظافري و هي تخدم من أغنى منا .. بدأت في شقق في مصر القديمة ثم تطور بها الحال لتصل إلى عدة عقارات بمصر الجديدة و منها تعرفت على فيلات المعادي و أبراج المهندسين . كان صيتها ذائع بسبب أمانتها و دقتها في العمل , و حمدًا لله لم تنل أمي أي إساءة من زوج أي مدام تعمل لديها .
وصلت ( فتحية ) لعقدها الخامس و لم تعد مثلما كانت عليه من قبل , فصرت أصحبها أحيانًا , خصوصًا بعد أن تخرجت في معهد السياحة و الفنادق و أصبحت متفرغة لأسدد لأمي دين معاناتها الأعوام الأخيرة .
صباح يوم من الأيام المملة , أخبرتني أن هذا أول يوم عند مدام ( حنان ) في كومباند في ضواحي المدينة و يجب ألا نتأخر حتى لا يُقطع عيشنا . ذهبت بع استيقاظي فغسلت وجهي من الماسورة و في يدي صابونة لطخت بطين الأرض , و عندما عدُت إلى دولابي و لم أجد سوى بلوزة ذات مظهر معقول قد استفلتها من إحدى جاراتي و كانت أصلًا مثقوبة , ففي ذيلها ثقبًا صغيرًا لن يتبينه أحد من أهل الفيلا . ركبنا عدة مواصلات و حين وصلنا , بُهت للحظة من فرط جمال و عطر المكان .. هل أذن الله للملائكة ببناء جنة على الأرض قبل الساعة ؟
السيارات التي حلمت بها و أنا أراها في تلفاز المقهي أحيانًا أشاهدها أمامي بأم عيني . لست محرومة .. و لكني صرت حينها ملهوفة لاقتناء كل هذا .. لا أعرف بالضبط شعوري حينها ... لطالما رغبت كأي إنسان في حياة رغدة . ما عسى الإنسان أن ينتظر النعيم في الآخرة بينما ينعم به غيره في الدنيا .
دقت أمي الجرس , فُتح الباب إالكترونيًا بعد تعرف المدام على وجهينا , دقت قدمي بدقة على رخام الأرضية و شعرت ببرودة تسلل من بين أصابعي حتى غاصت في فراغات خصلات شعري التي أبرزتها حين كان الحجاب على وشك أن ينخلع مني .. الطرحة ظلت تُنقع مرتين كل يوم في الكلور حتى تحولت من لونها الوردي إلى آخر باهت يميل للأبيض و أخذت في الانكماش و صراحة لا أظن أن الشع فتنة و أساسًا كيف يُثار رجلًا من شعر مهما كان مسترسل دون غطاء يغطيه .. رجال تُفتن بأشياء أخرى و لا أظن هؤلاء الأثرياء سيهتمون لشعري أو لي في المجمل .
نزلت مدام ( حنان ) , سيدة متصابية , شعرها أكسبته الصبغة لون يشبه العناب حتى أني ظننته في باديء الأمر أسود مثل ( فتحية ) , ترتدي بيجاما أو زي رياضي و تضع سماعات في أذنها ... فألقت التحية بجمود و بعد أن تكلمت مع أمي , شرعنا في تبديل ملابسنا في غرفة تشبه بيتنا في مساحته و لكني أردت حينها للحمام كعادة أكتسبتها مؤخرًا .. كل يوم عمل أخرج فيه مع أمي , تخلصت من ملابسي و اغلقت النافذة و أوصدت الباب ثم شغلت الدش و لمست أطراف البانيو تمامًا مثل مشاهد الأفلام و استعملت المرحاض .. لا تتخيلوا كم النشوة التي غمرتني في تلك اللحظة حتى أنه يراودني دومًا في أحلامي أن المنزل الذي نعمل فيه سيكون ن قبيل الصدفة من حقوقنا نتصرف فيه كما شئنا حيث يتنازل عنه صاحبه لنا .
خرجت بثياب العمل , جلبية أفضل حالًا من البلوزة و قالت لي أمي أنها لن تتمكن من مسح كل شبر في هذا الاستاد الفسيح , فقسّمنا الشغل بيننا و كان من نصيبي .. الحمد لله ... الحمام و غرفة الاستاذ ابن المدام و الجنينة و السلم الذي مسحته درجًا درجًا .بعد أن انتهيت من فقرة غسيل الحمام و ترتيب الشامبو و الصابون و أدوات لا علم لي بها . كان العصر قد حان فعزمت الصلاة و بعدها سأتوجه نحو الغرفة الباقية لأنظفها . و حين قلت الشهادتين و انتهيت من صللتي , وجدت رجل أنثوية على مستوى نظري عاريتين , اعتقدت أنهما تخصان المدام ثم أكملت بعيوني المشهد لأرى ( حنان ) و قد تجهم وجهها لتقول لي في حدة :
- تقبل الله يا ماما ... العبادة مش بتحلى غير في وقت الشغل صح ؟
فقمت من سجودي في حياء مفتعل لأقول لها بصوت خافت :
- آسفة لحضرتك بس العصر كان هيفوتني و أنا على العموم خلصت كل حاجة و مش فاضل غير أوضة الأستاذ .
- دي المفروض الحاجة الوحيدة اللي تبدأي بيها .. أنت باين عليكي كده غبية شوية ؟
- آه ساعات ... خميس و جمعة .
استشاطت غضبًا و حينها جريت نحو الغرفة كأن شيء لم يكن , فسمعتها توبخ أمي و لكن أمي اعتادت هذه الاهانة في بيوت الغير . وسط هذا كله , سمعت وقع أقدام يتجه نحو الغرفة التي غصت بين ثناياها , شابًا طويلًا شعره مقصوص , الحقيبة على ظهره وضعها على كرسي و النظارة الصفراء جعلته يبدو " عيل طري " و لكن المظاهر تكون أحيانًا خدّاعة ..  أو غالبًا ما تكون .
نلت منه نظرة و بعدها بدأ يحادثني قائلًا :
- سيبِ السرير أنا هرتبه و المكتب عشان الدنيا متتلخبطش .
جرى الدم في عروقي و كانت نظرتي الغاضبة تجعله يضحك و كانت تلك النظرة تربكني فسألته :
- هتقول للست الوالدة أنك اللي أمرتني مجيش جمب حاجتك .. عشان بس منرجعش نزعل من بعض .
رد بابتسامة :
- آه هقولها .. و بعدين أنتِ لازم تتعودي على عصبية أمي .. هي دي طبيعة .
فقلت و أنا آخد هدومه المتسخة لأضعها في غرفة الغسيل :
- كله عشان القرش .. إنما لو معايا القرش ده .. و لا الحوجة و الله ِ .
فسألني عن اسمي و حينها قلت :
- شيريهان و حضرتك ؟
قال بكل جدية : عبد الجبار
انفجرت ضحكًا و ظننته يمزح حتى أكد لي أن ذلك هو اسمه و لكن أصدقائه يدعونه
( عبده ) .
في ثاني أيام عملي في منزل و بنفس الروتين كنت أسعى جاهدة لانتهي من القيام بالتنظيف في الحمام و لحسن حظي أن ( عبده ) , هذا كان الوحيد الموجود فيي المنزل , الأستاذة بالخارج و الأب سيغيب بسبب ظروف عمله في الخارج .
عندما دلفت لغرفته وجدته مستلقيًا على سريره , يرتدي شورتًا غاية في القِصر يبين كثافة شعر قدميه و كانت فانلته ذات لون لبني و على ساقيه المكشوفتين مكث حاسوبه المحمول الذي كان يبعث بأصوات إباحية – الغريب في الأمر أنني لم أجد منه أي رد فعل حين رأني ولا مما يشاهد .
حين رأني , وضع كوب المانجا على الطاولة التي تجاوره بعد أن ابتلع آخر نقطة في الكوب و حين سألته ن ملابسه القذرة , أمرني ألا أمسسها فهو غسلها بالأمس و كان صادقًا أن حملي لملابسه يزعجه فسألته :
- هو السباك بيقرف و هو بيسلك الحوض أو لا مؤاخذة القاعدة ؟
رد بهدوء :
- أكيد بيقرف بس هو اتعود على القرف , و أنا مش عايزك تتعودي على القرف و متخافيش من المدام مش حتزعل منك لأني بلغتها .
قلت متسرعة بتهور :
- هو أنت ليه فاكر أني بخاف منها , أنا بس مش عايزة عيشنا يتقطع , الحاجة الوحيدة اللي مخلينا نستحمل الاهانة هي الفلوس , حاجة كل زي القانون اللي بيخليني ما قتلش أو أسرق .
ثم سكت .. فكرت في شيء ثم حاولت التمادي :
- يا بيه أنا مش عايزة حاجة من الدنيا غير أن أمي ترتاح شوية .. احنا غلابة و الحوجة مرّة.
سخريتي منه بتلك الكلمات, جعلته يتكلم أكثر من المعدل الطبيعي فسألته بجرأة :
- هو أنت كنت بتتفرج على ايه ؟
- أولًا اسمها حضرتك .. مش هننسى نفسنا . و بعدين أنتِ مش ليكِ شغل تخلصيه عشان الهانم متزعلش .. يلا يا شغالة .. امسحي و اطبخي .
قالها و هو يضحك مشعلًا سيجارته .
فأصررت أن أكمل حديثنا :
- لا بجد و اللهِ .. أنت عارف " حضرتك " أني لازم كل يوم خميس أروح السايبر بليل بتاع ابن جارتنا و يشغل لي فيلم أجنبي جديد .
- و بيعجبك ايه ؟
- عارف الأفلام الإثارة و التشويق و القتلة المتسلسين .. اللي هي القصة بتتشقلب في الآخر , الأمريكان بيقولوا عليها بلوت تويست .
ضحك مجددًا ثم أكمل حديثه :
- البلوت تويست , طبعًا .. أنتِ وصلك الموضوع كمان .. أنتِ بقالك ثد ايه مروحتيش سينما على كده ؟
- و لا مرة بس بشوف السينما في السيبر .. بنقفل النور و كله بيطلع برا لمدة الساعتين دول , بس شكلك كدا هتعزمني على فيلم حلو يا ( عبده ) ؟
- عبده باشا لو سمحتِ , لا أنا بسألك عادي .
- هو أنت ليه بتسمع مزيكا لوحدك في السماعات دي , ليه مش بتشغلها عشان تسليني و أنا شغالة في بيتكم الزريبة دي ؟
- تحب نسمع مين ؟
- عندك حاجة من الكلاسيكات .. عندك ساوند كلاود ... البرنامج البرتقالي دا عارفه ؟
ضحك مقههًا و خالطت الابتسامة الدهشة ثم قاطع تلك القهقهات بقوله :
- آه عندي .. اشغل لك ايه بالضبط ؟
- فرانك سيناترا ( فلاي مي تو ذا موون ) , ارمسترونج .. الجدع اللي صوتها بيزعق دا , بياف طبعًا .. بس فكك من جو أم كلثوم و عبد الوهاب و نجاة القصيرة ملناش فيه .
فجأة انتفض و دعاني إلى مجلسه مع صديقاته فوافقت دون تفكير . أصبحت معه هانم , طمأنني بشرائه لثوب أنيق اعتقد أنه سيلائمني , و فعلًا ارتديته كان فستان في الواقع مورود يحيطه البياض لتبدو عليّ علامات بنات الناس . حينها ادركت أن المظاهر هي من تفرق بيننا , نعم تمنيت تلك النظرة التي رمقني بها صديقاته و دهشتهن مني لتواجدي لأول مرة مع
( عبده ) .. ياااه لو علموا أني خادمته !
قدمني لهن و كأني قطعة ألماس نادرة خصه بها صائغها . كن نساء , منهن كن في عُمر
( فتحية ) و من تصغرني بخمس سنوات على الأكثر .. كانت تنويعة غريبة و لكن الجو كان صاخبًا و السواد يحيط وجوهنا و الصخب يعوض سكوتنا فنكتفي بتبادل النظرات . جاء النادل فسألني بتأدب :
- حضرتك تشربي ايه ؟
قلت دون تردد : _ ويسكي طبعًا .. ثم عدت لاتردد و جذبته من ياقته و همست بعنف في أذنه لسؤاله :
- عندكم شامبانيا ؟
فهز رأسه بالايجاب , فقلت :
- طيب يا عم , زجاجة على حسابي للناس الحلوة .
طبعًا لم يسمعني أي من الحضور إلا ( عبده ) الذي ضحك . تسامرت معهن قليلًا و شاركنا ( عبده ) بين الحين و الأخر . و عندما ثملنا قررنا الرحيل بعد أن رقصنا . اصطحبني إلى السيارة تبادلنا قبلات في السيارة و نحن في طريقنا للمنزل و اقترح عليّ أن أمكث حتى صباح الغد ثم أعود للمقطم , فلم أجد مبررًا للرفض , ماذا حدث بعد ذلك ... لا أذكر .
صباح اليوم التالي , صوت المدام المزعج ليسرقني من غفوتي , فأجد نفسي في غرفة ( عبده ) و الجزء العلوي منه عاري يرتمي بجانبي كجثة ملاقاة في مسرح الجريمة . صارت تنظر إلي ثم انفجرت تصرخ و تنهال عليّ بالضرب و السباب و تطعن في شرفي – علمًا أني غشاء بكارتي لم يُفض بعد- أخبرتها بذلك فآبت التصديق ... أما أمي التي صارت تنهال عليّ بالضرب هي الأخرى بعد ان هدأت ثورتها , تحدث إليها ( عبده ) و أقنعها بأن ابنتها شرفها لم يُمس و أن شرفها لم يلوث بعد ... أظنها فضلت التصديق , فأحيانًا ليس بمقدورنا تحمل الحقيقة .
أما ( حنان ) كانت مضطرة للانصياع لرغبتها في الانتقام و جعلت أمي تشك فيّ من جديد , فكان اقتراحها الوحيد- الذي قابله بديل وحيد و هو الرحيل – أن تعمل أمي بمفردها في فيلا مجاورة و تتركني اهتم بعمل البيت كله بمفردي و لن يقتطع من الراتب مليمًا . فخضعت أمي لها و أنا من داخلي كنت راضية .. كأن القدر يهمس لي ليؤكد لي أنني لا استحق الفقر .. عشت الفقر طويلًا , حان الوقت لافتعال الغنى بمكوثي بجانب ( عبده ) . 

mercredi 8 mars 2017

ما بعد اليوم الأخير



 و كأن القيامة حانت ، استيقظت فلم أجد أحد ، ليس فقط في المنزل .. بل في الحي . هل
 اليوم عطلة رسمية ؟ و لو كانت كذلك ... كيف تكون الشوارع التي تطل عليها نافذتي
خاوية هكذا ؟ ناديت بصوت معتدل .. أمي ، يا أمي .. لكن ما من مجيب .
 أين كلبي المدلل ؟ لا أجده هو أيضًا .
اعتقد أني أحلم ، هززت يدي فشعرت بها رغم أني لم أفق من غفلتي ، فأحيانًا الأسوء من
الكابوس هو عدم قدرتك على الانسحاب منه . أخذت اتفقد المنزل ، كل شيء في محله إلا أن كل من في البيت غادروه . سئمت من كثرة ندائي الذي لم يعد يلفح .
جلست على كرسي في الصالة ، جهزت الشاي و بعض الشطائر ، و قلت في نفسي اليوم
إجازة من العمل فإلى أين يجدر بي الذهاب ... إلى المقهى لملاقاة أصدقائي ...
 لا لا سيكون هذا في آخر الليل ... هل أنزل لاتسكع قليلًا فترى عيني مشهد بديع للبحر أو
 لحديقة تتهادى داخلها كرة تعانق صدر طفل صغير ترتسم على فاهه ابتسامة بريئة لن
 تنزوي أبدًا ... أم أجلس فاشاهد ما في التلفاز من برامج مملة و رتيبة لا تكسبني سوى
 السخط على عيشتي .. لا لا سأذهب للمكتبة في الميدان الكبير لاقتني بعض الكتب 
 ثم أذهب لأجلس في مطعمي المفضل لأكل شطيرتي اللحم المصحوبتين ببعض البطاطس المقلية و كوب البيبسي المغذي في ذلك اليوم الحار ،
 و بعدها قد تأخذني قدمي إلى الشاطئ لكي اتنسم بعض هوائه المنعش .
غادرت المنزل و تركت خلفي الأنوار مضاءة ، في حال تأخرت تمكنت من تمييز منزلي في هذا المربع السكني الصغير . انتطرت في الشارع ، فلم أرغب في ركوب سيارتي ، و لكني لم أجد ما استقله ... نصف الساعة مرت على مكوثي هكذا . مللت الانتظار ...
 سعيت لركوب سيارتي ، فاليوم بدأ ينفذ مني ، توجهت كما خططت للمكتبة و حمد لله إنها
 مفتوحة ، و لكن مفتوحة زيادة عن اللزوم .. أين البائع ؟ لا أجده .
 رأيت كتب مرصوصة كما شاهدتها بالأمس و اشاهدها كل يوم ، لكن لا يوجد أحد على
خزنة النقود ، سلمت تحية لله ثم توجهت و بعد بحث مطوّل ظفرت بما أردت و عدت من
جديد نحو الخزنة فوجدتها خالية من أي نقود .. فوضعت ثمن الكتب و أغلقت المكتبة و
 رحلت .
كم تسألون أنفسكم حالًا... أعرف .. أتفهمكم تمامًا .. كان حالي مثلكم حينها .
 لكني لم أكن بحاجة ماسة لمعرفة ماهية ما حدث ، فما حدث قد حدث ولا جدوى من فهمه ، 
 الجدوى هي كيفية التعامل معه و تجنب أي عواقب له . ركبت السيارة و عندما وصلت
 للمطعم ، كان حاله لا يختلف كثيرًا عن المكتبة ، فأعددت لنفسي ثلاثة شطائر بدلًا من اثنين و أكلت حتى أصابتني تخمة و شعرت بضيق و صعوبة في التقاط أنفاسي و معدة تنتفخ
سريعًا .. لذلك جريت نحو الباب و أخذت أركض كالمجنون ، يا لها من حرية !
تفعل ما تشاء .. كنت أهرول فأقع ، و لكن أقوم من رقدتي بسرعة ، كنت أهتف باسمي ،
كنت أسب .. لا لا كنت أغني ما يخطر على بالي من أغاني لم يرغب أحدًا أن يسمعها مني ، كنت أحاول القيام بكل ما خطر ببالي حينها .
 تركت سيارتي و ترجلت نحو الشاطئ ، البحر كان مبسوطًا ، و السماء مزخرفة بسُحب
رشيقات كراقصات الباليه تتمايلن على نغمات أصدرها صوتي المزعج .
 قلت في نفسي هيا .. لا أحد هنا ... و الكون في يدك الآن لا تأسف على فقدانهم فلقد تملكت حريته الآن .
 فوجدتني كطير حبيس قتُل حابسه و فُكت قيوده و كُسر قفصه .. كنت في غاية ... غاية ال... الع... نعم , كنت في غاية العبث و التهور .
 نزلت ببدلتي التي اعتدت ارتداءها في العمل إلي البحر , دون خوف ، و إن لم
أغُص في عمقه ، فإن لم أجد لنفسي طولًا لن ينجدني سوى ملك الموت .
مع اقترابي من الشاطيء من جديد  , صوت ناي حزين يناجي , و كأن اللحن يُخرج هواء
مترب يحمله عازفه منذ دهور . لا تسيئوا فهمي , فالمعزوفة شابهت عزف الملائكة في حال
 أمرهم الله بعزفها , موسيقى لم تألفها أذني , لم أسمعها .. هل فعلًا العازف ملاك ..
نساه رب العرش بعد قيام الساعة .. لا لا , كيف لي أن أفكر في هذا ؟ بالتأكيد من لم ينسَ
عاصي في غفلته لن ينسَ طائع في حاجته .
وجدتها تجلس خلف قارِب قارَب على الغرق في الرمال , اقتربت متحسسًا خطواتي , فلم
أرد أن تتوقف عما تعزفه ... فتاة لو وجدتها في طريق لمرت أمامي مرور الكرام و لم انتبه لما تحمله شفتاها من هبة لا قبل لأي إنسان بها على إصدار مثل تلك النغمات .
سألتها بعد أن فرغت من عزفها :
- أين ذهب الناس ؟ لِم لا أجد حتى كلاب ضالة و لا أسمع مواء قطط شريدة تبحث عن رزق يومها ؟ أقامت الساعة و نحن منها غافلون ؟
نظرت إلي بعيون شاردة تسبح في فراغ المحيط الممتد أمامنا كأنها تسّبح في سكون , فترد
 بعد ما ضحكت لوهلة .. كنت حينها أحسبها تسخر مني , لكن سرعان ما أدركت أنها
سخرت من ذاتها , لتقول لي :
- الناس .. فعلًا .. لا يوجد أحد في الشارع .. و أنا من ظننت أني فقدت سمعي مع بصري
 أيضًا , اعذرني فلا يمكن لضرير أن يرى ما لم يرَ صحيح النظر .
لم أفهم سوى أنها كفيفة , فإذ بها تقول في سرور بالغ :
- حمدًا لله , فلقد هُيأ لي أن الناي يخدعني و أن الصوت صادر هذا ليس سوى خيال .
فسألتها من جديد :
- إذن , فأنتِ تائهة .. لا أهل لك , كيف وصلتي لهنا وحدك ؟ لماذا لا نجد بشر مثلنا .. هل
 فاتنا الحساب فعلًا ؟ لقد سبقونا للجنة و كُتب علينا مثلما كُتب على والدينا في الأولين .
بحثت بيدها عن كتفي و ربتت تلك الفتاة عليه لتطمئنني قائلةً :
- على رسلك , ما حاجتك أنت بالبشر ؟
- ما حاجتي ؟ كيف .. بالطبع نحن بحاجة لبعضنا البعض .. و إن كان عكس ذلك , فلِم خلقنا الله أقوامًا و شعوب مختلفة ؟
- و هل هذا ما حدث .. أكنتم متآلفون مع أنفسكم لكي تكونوا هكذا مع غيركم ؟
- لا لا , لا تجادليني , أريد إجابة واحدة , فإن امتلكتيها فلتفظيها و إن كنتِ تجهليها فحريًا بكِ الصمت .
صمتت و لم ترد عليّ , كدت أذهب , و لكن عزفها للناي أرجعني لها , فاعتذرت على
غضبي منها و طلبت منها أن ترافقني لنفهم ما حدث و أين اختفى ساكنو الدُنيا .
حين سرنا معًا , يدها اليسرى تطوق ذراعي اليمنى , و بدأت هي بالكلام مجددًا :
- لِماذا أراك خائفًا هكذا من كونك وحيدًا ؟ أليس عندنا طعام يكفينا دهورًا و معنا ناي يصدر لنا ألحانًا لا حصر لها .. و معنا شمس تضيء لنا دون سأم .. و قمر يشبع عيوننا المتلهفة ضياءًا .
- هل منا من يحب الوحدة في المطلق .. أخطر ما في الموت هو أنك ستموت وحيدًا يا فتاة .
- إذن , فلنواجه تلك الحقيقة بالتمتع بما تبقى لنا من هذا العالم و نعبث كيفما شئنا .
ما سر تلك الطاقة التي تحوزها تلك الضريرة , لا أرَ في هذا اليوم جمالًا أما هي رغم
أن نظرتها للدنيا لا تقل ظلامًا عن نظرها و لكنها تفني نفسها في متعة لا تراها .
ذهبنا سويًا للملاهي , لعبنا بعض الألعاب الخطيرة بمفردنا , صرخت هي و تحول سكونها
أمام المياه لضحكات صاخبة عالية , تبعث في نفس المستمع إليها سعادة لا تُوصف .
حين غادرنا الملاهي , طلبت مني أن نذهب لمشاهدة فيلم في السينما , فدخلنا سويًا و شغلت
 لها فيلم و كنت أشرح لها ما يحدث حين ينعدم الحوار .
و من بعدها قالت لي كمكافأة لي على ذلك اليوم , ستعزف لي على البيانو في أكبر صالة
للموسيقى في مدينتنا و سيكون عزفها على البيانو لي بمفردي .. و بالفعل دلفنا لأكبر مسرح للأوبرا و أجلستها على المقعد المقابل للبيانو و رحت أجلس أمامها مستمعًا للحن حلقت
نفسي مع كل نغمة فيه . صفقت لها و كان اليوم , بفضلها , من أفضل الأيام لي ..
بعد يوم طال و على كان على وشك نهايته .. سألتني :
- هل ستعود أدراجك ؟
- قلت لها ما عساي أن أفعل .. بالتأكيد سأعود للمنزل .
- مدينة بأكملها خاوية و ستمضي لمنزل .. آسفة لكن هذا سخف و غباء .
ازعجتني الكلمة فصمت و قلت لها :
- سأحاول جاهدًا المرة القادمة أن أكون أقل غباءًا و سخفًا .
سألتني على الفور :
- لِم لا توصلني للشاطيء أولًا ثم تفعل ما شئت ؟
راقتني الفكرة .. لا أعرف لِم ... بل أعرف , لكن لا يمكني البوح بالسبب .
 و نحن في سبيلنا للوصول , سألتها أنا تلك المرة :
- هل تعرفين أني أكره الناس و لكن ليس أكثر من غيابهم .. هذه هي المعضلة .
- أنا كذلك , أشبهك , هل كان الناس سيسمحون لك بالقيام بكل هذا في اليوم ذاته .. هل
يمكنك الضحك دون أن ينظر إليك من حولك باستنكار و يوبخونك بسبب صوتك المرتفع ..
هل يمكن لضريرة أن تذهب للملاهي و تلعب بمفردها دون أن يستعجب الناس من قدرتها أو يتم التصفيق لها لكونها ضريرة .. هل يمكن أن ندخل للسينما و نعبر دون طابور طويل و
إزعاج يسببه لنا من كرهوا الفيلم أو من يضحك على مشهد مأساوي .. هل يمكنك الصراخ
 أو البكاء أمام أحدهم دون أن يشفق عليك أو يلومك على فعل مثل هذا .. هل يمكنك ... لا
أعرف ماذا أذكر أيضًا , لكن ما عرفته أنني تمكنت من فعل ذلك و لو ليوم واحد لا أحد
ينظر لي و لا أحد يحكم عليّ و لا أحد يكترث لأمري .
- صحيح , أحيانًا يصعب عليّ فهم مراد الله من تواجدنا , من تواجدنا هنا .. ننسى غايتنا و  نعمل كملائكة تنفذ دون عصيان , أقل ما في الأمر أن تلك الملائكة تصغي لرب عليم , أما
 نحن نقول آمين لمن بشكل قوة و سلطة فقط , نذعن لأوامر من أجل بعض النقود نصرفها
 لاقتناء ملابس تعجبه هو أيضًا و لا ترضي أذواقنا بالكامل .

- لا يوجد أحلى من الصمت .. لكني لا أظنك ستطيق البقاء هكذا دون أن تبحث في سبب ما حدث .
- لا تقلقي , سأحاول التأقلم مع الواقع , و لكن على أي حال سأكون بجوارك , سأجرب اليوم النوم على ضفاف محيطنا الساكن .. و من صباح الغد سأسعى كل السعي لأظفر بأجوبة .
لم يقظني منبه كما يحدث يوميًا , فقط بعض الطيور و خيوط الشمس الرفيعة تسللت من
وراء حائط السحب فخالجت فكري لتوقظني من غفوتي . استيقظت فلم أجد فتاة الناي .
 حين أخذت في البحث عنها , تهت في مدينتي الصغيرة و عرفت أنها لم تكن من الأساس
موجودة , و لكني أخذت في الصراخ و أيقظت روحي النائمة بأهازيج و أغانيبعد أن شغلت مكبرات الصوت في كل محل يبيع أسطوانات الموسيقى حتى أصبحت المدينة بعد أن كانت خاوية من الناس ... مليئة بأرواحهم .
أدركت حينها , أني و أنا في طريقي للبحث عن السعادة بين الناس ينبغي أن أكون سعيدًا ...لا يهم ما حدث فمصيرنا كله للزوال ... فوجودهم كعدمه و أحيانًا أفضل , الأمر يرجع دائمًا
لي كما رجع قبلي لفتاة الناي , نزلت من السماء ... عزفت ... ضحكت ...  فعلت ما تبغى
ثم رحلت في سلام .  

samedi 28 janvier 2017

في الفناء نفسه

في الفناء نفسه





في غرفة لا تتعدى مساحتها مساحة حانوت صغير محصور بين جدران زقاق آخره جدار يمنع سكانه من الخروج منه , قررت معلمة , تدّرس لفصل في حضانة ... أي لأطفال لا يتعدى سنهم الست سنوات , أن تمارس عليهم سلطاتها .
فصلها عدده كبير , فاصطفت منه أربعة طلاب , لم تختر خيرهم بل اختارت بمعيارها الخاص . أخذت الإذن من المديرة
أن تنفرد بالأطفال أثناء فترة الفسحة لتضعهم هنا بحجة أنها تريد إجراء بعض التجارب تخص رسالة ماجستيرها في
علم النفس الخاص بسلوك الأطفال في تلك المرحلة . وافقت المديرة و دعت لها بالتوفيق و حثتها على الحفاظ على سلامة الأطفال .
الطفل الأول يُدعى ( منصور ) , اسم غريب لطفل لم يعرف النصر في حياته , طفل منطوي , يجلس دومًا في ضواحي الفصل , لا يملك صديق , يحاول و لكن دائمًا ما يفشل بسبب صراحته غير المبررة , ففي مرة جاءت زميلة جلست بجواره تشتكيه للمعلمة , قالت له أنه يضايقها , فعندما سألته لِم تزعجها يا منصور , قال في وسط الفصل بصوت مرتفع  إنها غزيرة العرق و رائحتها الكريهة تجعله يبغض المدرسة و الفصل , فضحك الفصل كله و حينها عندما شعر أنه انتصر . بكت الفتاة و ذهبت لدورة المياه , انبته المعلمة على ما قام به و قالت له أنه إذا رأى خصلة غير حميدة من أحد لا يجهر بها . فسكن لفترة , و في كل يوم يذهب للمدرسة , يأتي ليجلس بجوار الصبية التي أحرجها و يعطيها كعكة في يوم .. و يتقاسم معها قطعة الشوكولاتة في يوم آخر .. و لكن العجيب أن علاقته تتوقف عند عتبة الفصل , فعندما كانت تقترب منه لتلعب معه كان يتجنبها و يجلس وحيدًا رغم احتياجه لخليل أيًا من كان . و بالمناسبة , رغم نصيحة المعلمة له , إلا أنه أخذ يكتب في ورقة أسماء من ضحكوا حين تكلم و تذكرهم جيدًا , و في منتصف الحصة , كان يرفع أصبعه و يقول شيئًا يحرج به من على قائمته .
الطفلة الثانية تُدعى ( حبيبة ) , صغيرة القامة و جميلة كوالدتها التي يتبارى الذكور في المدرسة لتقديم الخدمة لها و أخذت من اسمها صفته .. فقد كانت المعلمة تقول أن جميع الأطفال يحاولون اللعب معها .. صبية كانوا أو بنات . حبيبة , كانت تحب أن يلعب معها أي أحد , لم تكن تكره أي شخص فتجدها تلعب مع أي من يعطها اهتمام , مبدعة في إجاباتها مع معلميها فالذكاء في الإجابة تجعلك تظن أنها فتاة ناضجة بلغت من الخبرة ما لم يبلغه الكبار فهي تلك الفتاة المجاملة . لكنها في غاية الانانية , حين كانت تحصل على المركز الثاني على الفصل كانت تسعى لترى أوراق من تفوق عليها قبل حتى أن ترى أخطاءها . ففي يوم من الأيام , هناك فارق نصف درجة بينها و بين صَبية , أخذت الورقة منها عنوة و قطعتها لتجعلها تبكي و حين أشتكت للمعلمة قالت لها حبيبة أنها لم تقترب منها و هي تفعل هذا لأنها تغار منها ... و تصوروا من صدقت المعلمة .. بالطبع حبيبة التي لا تكذب .. أو بالأحرى التي لم يكتشف أحد كذبها بعد .
الطفل الثالث .. يُدعى ( عاصي ) , مشاغب لا يأبه لشيء , لكنه يعشق قصص المصورة , لكن شخصياته المفضلة هي الأشرار .. يرى في نفسه روبن هوود . حين يُضرب الهزيل في الفصل و هو بالمناسبة رابع الأطفال الذين حبسوا في الغرفة و يدعى ( عنتر ) .. نعم عنتر .. كان يذهب ليبرح الفتيان الذين تجمعوا حول هذا الولد الغريب الضعيف ضربًا و لكنه في النهاية يخسر و يرجع لمنزله بوجه ملون بالأزرق الممزوج بلون البنفسج , و كلما وعد المديرة بعدم تكرار هذا يعيد الموقف مرة أخرى , و إن تغير المُعتدي و المعتدى عليه . في مرة , رأى فتيات يسرقن شطيرة من فتاة مغلوب على أمرها , فلم يتدخل و ذهب إليها في يوم , و سألها لِم تتركيهن يسرقن طعامك ؟ فقالت له بتردد سيضروبنني و أنا في الأصل لست جائعة , فمرّ يومين و شاهدها و هي تضرب , فمر خفية قبل أن يراه أحد فضربها هي أولًا لتستعجبن الفتيات , ثم يضحكن  و هي ملقاة على الأرض فنظر إليهم عاصي و ضربهن ملقيًا بالشطائر على ثيابهن البيضاء قبل أن تمسك به أحد المسئولات في المدرسة .
الطفل الأخير ( عنتر ) .. كما قلنا هو الحائط المائل , يخشى الناس ليس فقط زملائه , يحاول أن يجد مجموعة يلعب معها , و أحيانًا ينجح , عكس منصور . كان يحاول أن يتغلب على خوفه و يقترب ممن هم أقوى منه , فحاول مع عاصي و نجح و لكن تعامله اللطيف مع الفتيات لم يجدِ تمامًا . كان يطلب من أمه الأرملة أن تُعد له شطائر تحوي دجاج أو كفتة , بحجة أنه يحب أن يأكلها في المدرسة و إن كان الأمر عكس ذلك .. فهذا الطعام هو الوسيلة التي جعلته يحظى بالأمان من الصبية الغلاظ و الفتيات الساخرات من مظهره السخيف و بنطاله القصير و قميصه الواسع و ياقته المتسخة و نظارته المتربة .
حان وقت المرور بنصف الساعة فسحة , و لكن نادت المعلمة على اسمائهم , فخاف عنتر .. ابتسمت حبيبة .. لم يبالِ منصور أما عاصي فقد سمع اسمه و غادر كأنه لم يسمعه .
استعدته المعلمة ثانية فقرر العدول عن قراره و استقر على أن يجلس في غرفة معدة و صغيرة تشبه غرفة الحصص بعض الشيء .
قالت المعلمة :
- معذرة يا أطفال , لكن اليوم ستخظون بالفسحة هنا أو في الفناء.. هذا خياركم , أمامكم نصف الساعة لتغادروا تلك الغرفة .
فضحك منصور قائلًا :
- لم أجد صعوبة إن أوصدتِ الباب , سنكسر النافذة فهي تطل على الفناء مباشرةً .
فتركتهم و غادرت و لم تنطق .. أمسك منصور كرسي صغير و إن بدا له ثقيلًا إلا أنه ألقى به ناحية النافذة ليُحدث صوت دون أن ينكسر الزجاج فتعجب و قال له عنتر بصوت يرتعش :
- أهكذا تحبسنا .. لم نفعل أي شيء خاطيء .. أليس كذلك ؟
لتقول حبيبة في براءة :
- الحبس .. لِم قد يفعلوا بي هذا ؟ أنا ذكية و شاطرة .. لِم من الأساس اختارتني معكم ؟
فيقول منصور في تعقل :
- بالطبع المعلمة لن تتركنا هكذا , فنحاول كسر النافذة من جديد .
يبكي عنتر و يقول :
- لقد نسيت شطائري في الفصل .. لن أتمكن من مغادرة المكان .
هرول بسرعة نحو الباب صارخًا .. كأنه محبوس .. ينادي و يقول : شطائري فليأتِ أحدكم بطعامي .
و من سكونه و سكوته خرج عاصي و ركل عنتر بقدمه في منتصف بطنه و قال :
- همك دومًا على بطنك , لِم لا تفكر في سبيل الخروج من هنا .
فجلس القرفصاء عنتر و أخذ يبكي .. لتحيطه حبيبة بيدها و تلوم عاصي قائلةً :
- أنت إنسان كالوحش , لا تبكي يا عنتر خذ تلك الشطيرة لا أحتاجها لو كنت جائع .
لم يكف عن البكاء أما عاصي فلم يرد عليها .. أما منصور فحاول إيجاد ثغرة حتى عثر على فتحة تؤدي إلى الفناء .. في زواية ما في الغرفة الصغيرة , و لكن تلك الثغرة تتسع لشخص واحد .. فقرر منصور أن يحتفظ بالسر لي نفسه , و تركهم يتشاجرون و حاول أن يخرج منها و لكن حين أخرج رأسه لم يرى الفناء .. رأى غرفة أخرى تشبه تلك التي غادرها لتوه فحين حاول الرجوع لم يعرف بسبب هبوط قضبان حديدية منعته . وجد نفسه في غرفة جديدة وحيدًا يفصله عن زملائه مرآة عازلة للصوت و في خلفيته صورة فناء المدرسة , فكان يشاور لهم بيديه نحو الثغرة , فلما وجدها عنتر حاول الولوج من خلالها ظننًا منه أنها السبيل لم يفلح . فرجع ليبكي .. أما منصور فجن جنونه .
ربع الساعة مرت و تبقى مثلها .. بحث عنتر و صار يضرب الحائط بيديه و لكنه فشل , أما عاصي فرأى في حبيبة وسيلة لتوصله لفتح التهوية في الغرفة و حين طلب منها هذا ساعدته , و جاءت بكرسي وحيد مكسور في الغرفة و قالت له سأساعد في الصعود و حين تنجح تساعدني .. قال لها : بالتأكيد . فقال أنه لن يتمكن من دفع الفتحة تلك بمفرده .. فتوددا إلى عنتر و وعدوه إن مد يد العون لهم سيتناول شطائره و ستكون له فسحة طويلة بعد الخروج من هنا . انخدع و ساعدهم و ارتفعا بالكرسي المكسور و الذي يحمله لهم الطفل الهزيل . نجحا و عبرا من فتحة التهوية ليجد عاصي نفسه يخلف حبيبة التي ركلته بقدمها ليقع على عنتر و كرسيه فيهشمه إربًا . فتجد حبيبة نفسها في فناء المدرسة الفعلي و لكنه كان خاويًا .. الفسحة انتهت على ما يبدو . لم تجد أحد سوى المعلمة بانتظارها , تبسمت المعلمة و أخذتها من يدها و رجعت بها للفصل .
تبقى عاصي و عنتر , لم يجد عنتر طريقة للتعبير عما يجول في روحه سوى الضحك على منظر عاصي .. ضحك هستيريًا حتى انفجر عاصي بوجهه العبوس هذا ضاحكًا هو أيضًا . قال له عنتر :
- لقد نست البلهاء شطائرها .. سنحظى بالفسحة هنا و ربما لن أغادر .
قال عاصي في حدة بعدما انتهى من ضحكه :
- لا سنجد وسيلة فمهما كان لن نحبس مثل منصور .. هل ترى يبكي .. انظر يا عنتر .. أنا لا أريد أن أكون بمفردي مثله .
صاح فيه عنتر :
- الوقت سيمر و ستأتي المعلمة لتخرجنا لا تقلق .
قال له عاصي :
- على راحتك .. سأذهب أنا .
و بالفعل حاول إيجاد مخرج حتى أنه قال في نفسه ... لعل الباب العادي هو الحل .. لكني إن خرجت سيخرج معي هذا المسخ و لن أكسب تلك المسابقة.. أهي مسابقة فعلًا؟ على أي حال فكر فيما يملك .. فكان في جيبه قطعة حلوى لم يأكلها بعد .. فذهب لعنتر و أعطاها له و قال له :
- تعرف أن تلك الحلوى ستكون بمذاق الشوكولاتة ثم الفراولة التي تحبهما إن أغلقت عينك و أنت تأكلها ؟
كالأبله الشره .. أخذها منه و تناولها و أغمض عيونه .. و لكن هل سيفتح الباب لعاصي .. نعم لقد فُتح .. لكن وجد عاصي نفسه في غرفة ثانية يصطف فيها كل الفتية التي تلقوا منه ضربات قاسية . فأبرحوه ضربًا و ركلوه حتى بكى كما لم يبكِ من قبل .
أما عنتر فجلس مستمتعًا بشطائرهم و الحلوى .. و لم يبكِ نهائيًا . منصور حُبس و لكنه خرج من غرفته و أصبح يجلس دون أن يحدث أحد .. أما عاصي فكف عن ضرب زملائه و كوّن مجموعة أصدقاء لم يكن هو على رأسهم بل كان الهزيل صاحب الشطائر المهيمن . حبيبة حين صحبتها المعلمة , قالت لها و أقسمت أنها ستتقاسم أيّ شيء مع زميلاتها و اعترفت بتمزيقها لورقة امتحان زميلتها . الهزيل أخذ مكانة لم يطمح إليها .. مكانة لا يستحقها .
في النهاية عادوا  كلهم في ذات الفناء , و لا نعلم ما ستكتبه المعلمة في رسالتها .