samedi 28 janvier 2017

في الفناء نفسه

في الفناء نفسه





في غرفة لا تتعدى مساحتها مساحة حانوت صغير محصور بين جدران زقاق آخره جدار يمنع سكانه من الخروج منه , قررت معلمة , تدّرس لفصل في حضانة ... أي لأطفال لا يتعدى سنهم الست سنوات , أن تمارس عليهم سلطاتها .
فصلها عدده كبير , فاصطفت منه أربعة طلاب , لم تختر خيرهم بل اختارت بمعيارها الخاص . أخذت الإذن من المديرة
أن تنفرد بالأطفال أثناء فترة الفسحة لتضعهم هنا بحجة أنها تريد إجراء بعض التجارب تخص رسالة ماجستيرها في
علم النفس الخاص بسلوك الأطفال في تلك المرحلة . وافقت المديرة و دعت لها بالتوفيق و حثتها على الحفاظ على سلامة الأطفال .
الطفل الأول يُدعى ( منصور ) , اسم غريب لطفل لم يعرف النصر في حياته , طفل منطوي , يجلس دومًا في ضواحي الفصل , لا يملك صديق , يحاول و لكن دائمًا ما يفشل بسبب صراحته غير المبررة , ففي مرة جاءت زميلة جلست بجواره تشتكيه للمعلمة , قالت له أنه يضايقها , فعندما سألته لِم تزعجها يا منصور , قال في وسط الفصل بصوت مرتفع  إنها غزيرة العرق و رائحتها الكريهة تجعله يبغض المدرسة و الفصل , فضحك الفصل كله و حينها عندما شعر أنه انتصر . بكت الفتاة و ذهبت لدورة المياه , انبته المعلمة على ما قام به و قالت له أنه إذا رأى خصلة غير حميدة من أحد لا يجهر بها . فسكن لفترة , و في كل يوم يذهب للمدرسة , يأتي ليجلس بجوار الصبية التي أحرجها و يعطيها كعكة في يوم .. و يتقاسم معها قطعة الشوكولاتة في يوم آخر .. و لكن العجيب أن علاقته تتوقف عند عتبة الفصل , فعندما كانت تقترب منه لتلعب معه كان يتجنبها و يجلس وحيدًا رغم احتياجه لخليل أيًا من كان . و بالمناسبة , رغم نصيحة المعلمة له , إلا أنه أخذ يكتب في ورقة أسماء من ضحكوا حين تكلم و تذكرهم جيدًا , و في منتصف الحصة , كان يرفع أصبعه و يقول شيئًا يحرج به من على قائمته .
الطفلة الثانية تُدعى ( حبيبة ) , صغيرة القامة و جميلة كوالدتها التي يتبارى الذكور في المدرسة لتقديم الخدمة لها و أخذت من اسمها صفته .. فقد كانت المعلمة تقول أن جميع الأطفال يحاولون اللعب معها .. صبية كانوا أو بنات . حبيبة , كانت تحب أن يلعب معها أي أحد , لم تكن تكره أي شخص فتجدها تلعب مع أي من يعطها اهتمام , مبدعة في إجاباتها مع معلميها فالذكاء في الإجابة تجعلك تظن أنها فتاة ناضجة بلغت من الخبرة ما لم يبلغه الكبار فهي تلك الفتاة المجاملة . لكنها في غاية الانانية , حين كانت تحصل على المركز الثاني على الفصل كانت تسعى لترى أوراق من تفوق عليها قبل حتى أن ترى أخطاءها . ففي يوم من الأيام , هناك فارق نصف درجة بينها و بين صَبية , أخذت الورقة منها عنوة و قطعتها لتجعلها تبكي و حين أشتكت للمعلمة قالت لها حبيبة أنها لم تقترب منها و هي تفعل هذا لأنها تغار منها ... و تصوروا من صدقت المعلمة .. بالطبع حبيبة التي لا تكذب .. أو بالأحرى التي لم يكتشف أحد كذبها بعد .
الطفل الثالث .. يُدعى ( عاصي ) , مشاغب لا يأبه لشيء , لكنه يعشق قصص المصورة , لكن شخصياته المفضلة هي الأشرار .. يرى في نفسه روبن هوود . حين يُضرب الهزيل في الفصل و هو بالمناسبة رابع الأطفال الذين حبسوا في الغرفة و يدعى ( عنتر ) .. نعم عنتر .. كان يذهب ليبرح الفتيان الذين تجمعوا حول هذا الولد الغريب الضعيف ضربًا و لكنه في النهاية يخسر و يرجع لمنزله بوجه ملون بالأزرق الممزوج بلون البنفسج , و كلما وعد المديرة بعدم تكرار هذا يعيد الموقف مرة أخرى , و إن تغير المُعتدي و المعتدى عليه . في مرة , رأى فتيات يسرقن شطيرة من فتاة مغلوب على أمرها , فلم يتدخل و ذهب إليها في يوم , و سألها لِم تتركيهن يسرقن طعامك ؟ فقالت له بتردد سيضروبنني و أنا في الأصل لست جائعة , فمرّ يومين و شاهدها و هي تضرب , فمر خفية قبل أن يراه أحد فضربها هي أولًا لتستعجبن الفتيات , ثم يضحكن  و هي ملقاة على الأرض فنظر إليهم عاصي و ضربهن ملقيًا بالشطائر على ثيابهن البيضاء قبل أن تمسك به أحد المسئولات في المدرسة .
الطفل الأخير ( عنتر ) .. كما قلنا هو الحائط المائل , يخشى الناس ليس فقط زملائه , يحاول أن يجد مجموعة يلعب معها , و أحيانًا ينجح , عكس منصور . كان يحاول أن يتغلب على خوفه و يقترب ممن هم أقوى منه , فحاول مع عاصي و نجح و لكن تعامله اللطيف مع الفتيات لم يجدِ تمامًا . كان يطلب من أمه الأرملة أن تُعد له شطائر تحوي دجاج أو كفتة , بحجة أنه يحب أن يأكلها في المدرسة و إن كان الأمر عكس ذلك .. فهذا الطعام هو الوسيلة التي جعلته يحظى بالأمان من الصبية الغلاظ و الفتيات الساخرات من مظهره السخيف و بنطاله القصير و قميصه الواسع و ياقته المتسخة و نظارته المتربة .
حان وقت المرور بنصف الساعة فسحة , و لكن نادت المعلمة على اسمائهم , فخاف عنتر .. ابتسمت حبيبة .. لم يبالِ منصور أما عاصي فقد سمع اسمه و غادر كأنه لم يسمعه .
استعدته المعلمة ثانية فقرر العدول عن قراره و استقر على أن يجلس في غرفة معدة و صغيرة تشبه غرفة الحصص بعض الشيء .
قالت المعلمة :
- معذرة يا أطفال , لكن اليوم ستخظون بالفسحة هنا أو في الفناء.. هذا خياركم , أمامكم نصف الساعة لتغادروا تلك الغرفة .
فضحك منصور قائلًا :
- لم أجد صعوبة إن أوصدتِ الباب , سنكسر النافذة فهي تطل على الفناء مباشرةً .
فتركتهم و غادرت و لم تنطق .. أمسك منصور كرسي صغير و إن بدا له ثقيلًا إلا أنه ألقى به ناحية النافذة ليُحدث صوت دون أن ينكسر الزجاج فتعجب و قال له عنتر بصوت يرتعش :
- أهكذا تحبسنا .. لم نفعل أي شيء خاطيء .. أليس كذلك ؟
لتقول حبيبة في براءة :
- الحبس .. لِم قد يفعلوا بي هذا ؟ أنا ذكية و شاطرة .. لِم من الأساس اختارتني معكم ؟
فيقول منصور في تعقل :
- بالطبع المعلمة لن تتركنا هكذا , فنحاول كسر النافذة من جديد .
يبكي عنتر و يقول :
- لقد نسيت شطائري في الفصل .. لن أتمكن من مغادرة المكان .
هرول بسرعة نحو الباب صارخًا .. كأنه محبوس .. ينادي و يقول : شطائري فليأتِ أحدكم بطعامي .
و من سكونه و سكوته خرج عاصي و ركل عنتر بقدمه في منتصف بطنه و قال :
- همك دومًا على بطنك , لِم لا تفكر في سبيل الخروج من هنا .
فجلس القرفصاء عنتر و أخذ يبكي .. لتحيطه حبيبة بيدها و تلوم عاصي قائلةً :
- أنت إنسان كالوحش , لا تبكي يا عنتر خذ تلك الشطيرة لا أحتاجها لو كنت جائع .
لم يكف عن البكاء أما عاصي فلم يرد عليها .. أما منصور فحاول إيجاد ثغرة حتى عثر على فتحة تؤدي إلى الفناء .. في زواية ما في الغرفة الصغيرة , و لكن تلك الثغرة تتسع لشخص واحد .. فقرر منصور أن يحتفظ بالسر لي نفسه , و تركهم يتشاجرون و حاول أن يخرج منها و لكن حين أخرج رأسه لم يرى الفناء .. رأى غرفة أخرى تشبه تلك التي غادرها لتوه فحين حاول الرجوع لم يعرف بسبب هبوط قضبان حديدية منعته . وجد نفسه في غرفة جديدة وحيدًا يفصله عن زملائه مرآة عازلة للصوت و في خلفيته صورة فناء المدرسة , فكان يشاور لهم بيديه نحو الثغرة , فلما وجدها عنتر حاول الولوج من خلالها ظننًا منه أنها السبيل لم يفلح . فرجع ليبكي .. أما منصور فجن جنونه .
ربع الساعة مرت و تبقى مثلها .. بحث عنتر و صار يضرب الحائط بيديه و لكنه فشل , أما عاصي فرأى في حبيبة وسيلة لتوصله لفتح التهوية في الغرفة و حين طلب منها هذا ساعدته , و جاءت بكرسي وحيد مكسور في الغرفة و قالت له سأساعد في الصعود و حين تنجح تساعدني .. قال لها : بالتأكيد . فقال أنه لن يتمكن من دفع الفتحة تلك بمفرده .. فتوددا إلى عنتر و وعدوه إن مد يد العون لهم سيتناول شطائره و ستكون له فسحة طويلة بعد الخروج من هنا . انخدع و ساعدهم و ارتفعا بالكرسي المكسور و الذي يحمله لهم الطفل الهزيل . نجحا و عبرا من فتحة التهوية ليجد عاصي نفسه يخلف حبيبة التي ركلته بقدمها ليقع على عنتر و كرسيه فيهشمه إربًا . فتجد حبيبة نفسها في فناء المدرسة الفعلي و لكنه كان خاويًا .. الفسحة انتهت على ما يبدو . لم تجد أحد سوى المعلمة بانتظارها , تبسمت المعلمة و أخذتها من يدها و رجعت بها للفصل .
تبقى عاصي و عنتر , لم يجد عنتر طريقة للتعبير عما يجول في روحه سوى الضحك على منظر عاصي .. ضحك هستيريًا حتى انفجر عاصي بوجهه العبوس هذا ضاحكًا هو أيضًا . قال له عنتر :
- لقد نست البلهاء شطائرها .. سنحظى بالفسحة هنا و ربما لن أغادر .
قال عاصي في حدة بعدما انتهى من ضحكه :
- لا سنجد وسيلة فمهما كان لن نحبس مثل منصور .. هل ترى يبكي .. انظر يا عنتر .. أنا لا أريد أن أكون بمفردي مثله .
صاح فيه عنتر :
- الوقت سيمر و ستأتي المعلمة لتخرجنا لا تقلق .
قال له عاصي :
- على راحتك .. سأذهب أنا .
و بالفعل حاول إيجاد مخرج حتى أنه قال في نفسه ... لعل الباب العادي هو الحل .. لكني إن خرجت سيخرج معي هذا المسخ و لن أكسب تلك المسابقة.. أهي مسابقة فعلًا؟ على أي حال فكر فيما يملك .. فكان في جيبه قطعة حلوى لم يأكلها بعد .. فذهب لعنتر و أعطاها له و قال له :
- تعرف أن تلك الحلوى ستكون بمذاق الشوكولاتة ثم الفراولة التي تحبهما إن أغلقت عينك و أنت تأكلها ؟
كالأبله الشره .. أخذها منه و تناولها و أغمض عيونه .. و لكن هل سيفتح الباب لعاصي .. نعم لقد فُتح .. لكن وجد عاصي نفسه في غرفة ثانية يصطف فيها كل الفتية التي تلقوا منه ضربات قاسية . فأبرحوه ضربًا و ركلوه حتى بكى كما لم يبكِ من قبل .
أما عنتر فجلس مستمتعًا بشطائرهم و الحلوى .. و لم يبكِ نهائيًا . منصور حُبس و لكنه خرج من غرفته و أصبح يجلس دون أن يحدث أحد .. أما عاصي فكف عن ضرب زملائه و كوّن مجموعة أصدقاء لم يكن هو على رأسهم بل كان الهزيل صاحب الشطائر المهيمن . حبيبة حين صحبتها المعلمة , قالت لها و أقسمت أنها ستتقاسم أيّ شيء مع زميلاتها و اعترفت بتمزيقها لورقة امتحان زميلتها . الهزيل أخذ مكانة لم يطمح إليها .. مكانة لا يستحقها .
في النهاية عادوا  كلهم في ذات الفناء , و لا نعلم ما ستكتبه المعلمة في رسالتها .