samedi 3 juin 2017

شيري و عبده


شيري و عبده
لقد دللت نفسي منذ عرفت أنني أدعى ( شيريهان ) , فكان تدليلي لذاتي مقتصرًا فقط على تحولي اسمًا من شيريهان ل( شيري ) . للعلم , أنا أسكن في إحدى العشوائيات – لا داعي لذكر العنوان حتى لا يلاحقني المفتونون بالفقراء أمثالي . فقراء ! .. و اللهِ الفقراء هؤلاء أفضل منا حالًا . لا تظنوا أنني اتسول منكم نظرة شفقة , أنا أبعد ما يكون عن هذا الأسلوب . هل تعلمون أنني دائمًا ما أكون في طليعة النسوان اللاتي يرمين الشباشب أمام كاميرات التلفزيون التي تأتي لترصد أوضاعنا المعيشية المتردية . أمي ( فتحية ) , أرملة تعولني أنا و أختي الصغيرة منذ أن غادر أبونا العالم تاركًا بيت من طوب أحمر يدخله خط للمياه لم تكتمل مواسيره بعد , حين نشتكي يقولون لنا أن المحافظة لا تملك أموالًا تنفقها على توصيل خط المياه لمنزلنا . ( فتحية ) تعمل خادمة في بيوت ... منذ نعومة أظافري و هي تخدم من أغنى منا .. بدأت في شقق في مصر القديمة ثم تطور بها الحال لتصل إلى عدة عقارات بمصر الجديدة و منها تعرفت على فيلات المعادي و أبراج المهندسين . كان صيتها ذائع بسبب أمانتها و دقتها في العمل , و حمدًا لله لم تنل أمي أي إساءة من زوج أي مدام تعمل لديها .
وصلت ( فتحية ) لعقدها الخامس و لم تعد مثلما كانت عليه من قبل , فصرت أصحبها أحيانًا , خصوصًا بعد أن تخرجت في معهد السياحة و الفنادق و أصبحت متفرغة لأسدد لأمي دين معاناتها الأعوام الأخيرة .
صباح يوم من الأيام المملة , أخبرتني أن هذا أول يوم عند مدام ( حنان ) في كومباند في ضواحي المدينة و يجب ألا نتأخر حتى لا يُقطع عيشنا . ذهبت بع استيقاظي فغسلت وجهي من الماسورة و في يدي صابونة لطخت بطين الأرض , و عندما عدُت إلى دولابي و لم أجد سوى بلوزة ذات مظهر معقول قد استفلتها من إحدى جاراتي و كانت أصلًا مثقوبة , ففي ذيلها ثقبًا صغيرًا لن يتبينه أحد من أهل الفيلا . ركبنا عدة مواصلات و حين وصلنا , بُهت للحظة من فرط جمال و عطر المكان .. هل أذن الله للملائكة ببناء جنة على الأرض قبل الساعة ؟
السيارات التي حلمت بها و أنا أراها في تلفاز المقهي أحيانًا أشاهدها أمامي بأم عيني . لست محرومة .. و لكني صرت حينها ملهوفة لاقتناء كل هذا .. لا أعرف بالضبط شعوري حينها ... لطالما رغبت كأي إنسان في حياة رغدة . ما عسى الإنسان أن ينتظر النعيم في الآخرة بينما ينعم به غيره في الدنيا .
دقت أمي الجرس , فُتح الباب إالكترونيًا بعد تعرف المدام على وجهينا , دقت قدمي بدقة على رخام الأرضية و شعرت ببرودة تسلل من بين أصابعي حتى غاصت في فراغات خصلات شعري التي أبرزتها حين كان الحجاب على وشك أن ينخلع مني .. الطرحة ظلت تُنقع مرتين كل يوم في الكلور حتى تحولت من لونها الوردي إلى آخر باهت يميل للأبيض و أخذت في الانكماش و صراحة لا أظن أن الشع فتنة و أساسًا كيف يُثار رجلًا من شعر مهما كان مسترسل دون غطاء يغطيه .. رجال تُفتن بأشياء أخرى و لا أظن هؤلاء الأثرياء سيهتمون لشعري أو لي في المجمل .
نزلت مدام ( حنان ) , سيدة متصابية , شعرها أكسبته الصبغة لون يشبه العناب حتى أني ظننته في باديء الأمر أسود مثل ( فتحية ) , ترتدي بيجاما أو زي رياضي و تضع سماعات في أذنها ... فألقت التحية بجمود و بعد أن تكلمت مع أمي , شرعنا في تبديل ملابسنا في غرفة تشبه بيتنا في مساحته و لكني أردت حينها للحمام كعادة أكتسبتها مؤخرًا .. كل يوم عمل أخرج فيه مع أمي , تخلصت من ملابسي و اغلقت النافذة و أوصدت الباب ثم شغلت الدش و لمست أطراف البانيو تمامًا مثل مشاهد الأفلام و استعملت المرحاض .. لا تتخيلوا كم النشوة التي غمرتني في تلك اللحظة حتى أنه يراودني دومًا في أحلامي أن المنزل الذي نعمل فيه سيكون ن قبيل الصدفة من حقوقنا نتصرف فيه كما شئنا حيث يتنازل عنه صاحبه لنا .
خرجت بثياب العمل , جلبية أفضل حالًا من البلوزة و قالت لي أمي أنها لن تتمكن من مسح كل شبر في هذا الاستاد الفسيح , فقسّمنا الشغل بيننا و كان من نصيبي .. الحمد لله ... الحمام و غرفة الاستاذ ابن المدام و الجنينة و السلم الذي مسحته درجًا درجًا .بعد أن انتهيت من فقرة غسيل الحمام و ترتيب الشامبو و الصابون و أدوات لا علم لي بها . كان العصر قد حان فعزمت الصلاة و بعدها سأتوجه نحو الغرفة الباقية لأنظفها . و حين قلت الشهادتين و انتهيت من صللتي , وجدت رجل أنثوية على مستوى نظري عاريتين , اعتقدت أنهما تخصان المدام ثم أكملت بعيوني المشهد لأرى ( حنان ) و قد تجهم وجهها لتقول لي في حدة :
- تقبل الله يا ماما ... العبادة مش بتحلى غير في وقت الشغل صح ؟
فقمت من سجودي في حياء مفتعل لأقول لها بصوت خافت :
- آسفة لحضرتك بس العصر كان هيفوتني و أنا على العموم خلصت كل حاجة و مش فاضل غير أوضة الأستاذ .
- دي المفروض الحاجة الوحيدة اللي تبدأي بيها .. أنت باين عليكي كده غبية شوية ؟
- آه ساعات ... خميس و جمعة .
استشاطت غضبًا و حينها جريت نحو الغرفة كأن شيء لم يكن , فسمعتها توبخ أمي و لكن أمي اعتادت هذه الاهانة في بيوت الغير . وسط هذا كله , سمعت وقع أقدام يتجه نحو الغرفة التي غصت بين ثناياها , شابًا طويلًا شعره مقصوص , الحقيبة على ظهره وضعها على كرسي و النظارة الصفراء جعلته يبدو " عيل طري " و لكن المظاهر تكون أحيانًا خدّاعة ..  أو غالبًا ما تكون .
نلت منه نظرة و بعدها بدأ يحادثني قائلًا :
- سيبِ السرير أنا هرتبه و المكتب عشان الدنيا متتلخبطش .
جرى الدم في عروقي و كانت نظرتي الغاضبة تجعله يضحك و كانت تلك النظرة تربكني فسألته :
- هتقول للست الوالدة أنك اللي أمرتني مجيش جمب حاجتك .. عشان بس منرجعش نزعل من بعض .
رد بابتسامة :
- آه هقولها .. و بعدين أنتِ لازم تتعودي على عصبية أمي .. هي دي طبيعة .
فقلت و أنا آخد هدومه المتسخة لأضعها في غرفة الغسيل :
- كله عشان القرش .. إنما لو معايا القرش ده .. و لا الحوجة و الله ِ .
فسألني عن اسمي و حينها قلت :
- شيريهان و حضرتك ؟
قال بكل جدية : عبد الجبار
انفجرت ضحكًا و ظننته يمزح حتى أكد لي أن ذلك هو اسمه و لكن أصدقائه يدعونه
( عبده ) .
في ثاني أيام عملي في منزل و بنفس الروتين كنت أسعى جاهدة لانتهي من القيام بالتنظيف في الحمام و لحسن حظي أن ( عبده ) , هذا كان الوحيد الموجود فيي المنزل , الأستاذة بالخارج و الأب سيغيب بسبب ظروف عمله في الخارج .
عندما دلفت لغرفته وجدته مستلقيًا على سريره , يرتدي شورتًا غاية في القِصر يبين كثافة شعر قدميه و كانت فانلته ذات لون لبني و على ساقيه المكشوفتين مكث حاسوبه المحمول الذي كان يبعث بأصوات إباحية – الغريب في الأمر أنني لم أجد منه أي رد فعل حين رأني ولا مما يشاهد .
حين رأني , وضع كوب المانجا على الطاولة التي تجاوره بعد أن ابتلع آخر نقطة في الكوب و حين سألته ن ملابسه القذرة , أمرني ألا أمسسها فهو غسلها بالأمس و كان صادقًا أن حملي لملابسه يزعجه فسألته :
- هو السباك بيقرف و هو بيسلك الحوض أو لا مؤاخذة القاعدة ؟
رد بهدوء :
- أكيد بيقرف بس هو اتعود على القرف , و أنا مش عايزك تتعودي على القرف و متخافيش من المدام مش حتزعل منك لأني بلغتها .
قلت متسرعة بتهور :
- هو أنت ليه فاكر أني بخاف منها , أنا بس مش عايزة عيشنا يتقطع , الحاجة الوحيدة اللي مخلينا نستحمل الاهانة هي الفلوس , حاجة كل زي القانون اللي بيخليني ما قتلش أو أسرق .
ثم سكت .. فكرت في شيء ثم حاولت التمادي :
- يا بيه أنا مش عايزة حاجة من الدنيا غير أن أمي ترتاح شوية .. احنا غلابة و الحوجة مرّة.
سخريتي منه بتلك الكلمات, جعلته يتكلم أكثر من المعدل الطبيعي فسألته بجرأة :
- هو أنت كنت بتتفرج على ايه ؟
- أولًا اسمها حضرتك .. مش هننسى نفسنا . و بعدين أنتِ مش ليكِ شغل تخلصيه عشان الهانم متزعلش .. يلا يا شغالة .. امسحي و اطبخي .
قالها و هو يضحك مشعلًا سيجارته .
فأصررت أن أكمل حديثنا :
- لا بجد و اللهِ .. أنت عارف " حضرتك " أني لازم كل يوم خميس أروح السايبر بليل بتاع ابن جارتنا و يشغل لي فيلم أجنبي جديد .
- و بيعجبك ايه ؟
- عارف الأفلام الإثارة و التشويق و القتلة المتسلسين .. اللي هي القصة بتتشقلب في الآخر , الأمريكان بيقولوا عليها بلوت تويست .
ضحك مجددًا ثم أكمل حديثه :
- البلوت تويست , طبعًا .. أنتِ وصلك الموضوع كمان .. أنتِ بقالك ثد ايه مروحتيش سينما على كده ؟
- و لا مرة بس بشوف السينما في السيبر .. بنقفل النور و كله بيطلع برا لمدة الساعتين دول , بس شكلك كدا هتعزمني على فيلم حلو يا ( عبده ) ؟
- عبده باشا لو سمحتِ , لا أنا بسألك عادي .
- هو أنت ليه بتسمع مزيكا لوحدك في السماعات دي , ليه مش بتشغلها عشان تسليني و أنا شغالة في بيتكم الزريبة دي ؟
- تحب نسمع مين ؟
- عندك حاجة من الكلاسيكات .. عندك ساوند كلاود ... البرنامج البرتقالي دا عارفه ؟
ضحك مقههًا و خالطت الابتسامة الدهشة ثم قاطع تلك القهقهات بقوله :
- آه عندي .. اشغل لك ايه بالضبط ؟
- فرانك سيناترا ( فلاي مي تو ذا موون ) , ارمسترونج .. الجدع اللي صوتها بيزعق دا , بياف طبعًا .. بس فكك من جو أم كلثوم و عبد الوهاب و نجاة القصيرة ملناش فيه .
فجأة انتفض و دعاني إلى مجلسه مع صديقاته فوافقت دون تفكير . أصبحت معه هانم , طمأنني بشرائه لثوب أنيق اعتقد أنه سيلائمني , و فعلًا ارتديته كان فستان في الواقع مورود يحيطه البياض لتبدو عليّ علامات بنات الناس . حينها ادركت أن المظاهر هي من تفرق بيننا , نعم تمنيت تلك النظرة التي رمقني بها صديقاته و دهشتهن مني لتواجدي لأول مرة مع
( عبده ) .. ياااه لو علموا أني خادمته !
قدمني لهن و كأني قطعة ألماس نادرة خصه بها صائغها . كن نساء , منهن كن في عُمر
( فتحية ) و من تصغرني بخمس سنوات على الأكثر .. كانت تنويعة غريبة و لكن الجو كان صاخبًا و السواد يحيط وجوهنا و الصخب يعوض سكوتنا فنكتفي بتبادل النظرات . جاء النادل فسألني بتأدب :
- حضرتك تشربي ايه ؟
قلت دون تردد : _ ويسكي طبعًا .. ثم عدت لاتردد و جذبته من ياقته و همست بعنف في أذنه لسؤاله :
- عندكم شامبانيا ؟
فهز رأسه بالايجاب , فقلت :
- طيب يا عم , زجاجة على حسابي للناس الحلوة .
طبعًا لم يسمعني أي من الحضور إلا ( عبده ) الذي ضحك . تسامرت معهن قليلًا و شاركنا ( عبده ) بين الحين و الأخر . و عندما ثملنا قررنا الرحيل بعد أن رقصنا . اصطحبني إلى السيارة تبادلنا قبلات في السيارة و نحن في طريقنا للمنزل و اقترح عليّ أن أمكث حتى صباح الغد ثم أعود للمقطم , فلم أجد مبررًا للرفض , ماذا حدث بعد ذلك ... لا أذكر .
صباح اليوم التالي , صوت المدام المزعج ليسرقني من غفوتي , فأجد نفسي في غرفة ( عبده ) و الجزء العلوي منه عاري يرتمي بجانبي كجثة ملاقاة في مسرح الجريمة . صارت تنظر إلي ثم انفجرت تصرخ و تنهال عليّ بالضرب و السباب و تطعن في شرفي – علمًا أني غشاء بكارتي لم يُفض بعد- أخبرتها بذلك فآبت التصديق ... أما أمي التي صارت تنهال عليّ بالضرب هي الأخرى بعد ان هدأت ثورتها , تحدث إليها ( عبده ) و أقنعها بأن ابنتها شرفها لم يُمس و أن شرفها لم يلوث بعد ... أظنها فضلت التصديق , فأحيانًا ليس بمقدورنا تحمل الحقيقة .
أما ( حنان ) كانت مضطرة للانصياع لرغبتها في الانتقام و جعلت أمي تشك فيّ من جديد , فكان اقتراحها الوحيد- الذي قابله بديل وحيد و هو الرحيل – أن تعمل أمي بمفردها في فيلا مجاورة و تتركني اهتم بعمل البيت كله بمفردي و لن يقتطع من الراتب مليمًا . فخضعت أمي لها و أنا من داخلي كنت راضية .. كأن القدر يهمس لي ليؤكد لي أنني لا استحق الفقر .. عشت الفقر طويلًا , حان الوقت لافتعال الغنى بمكوثي بجانب ( عبده ) .