vendredi 3 novembre 2017

مبدع جزيرتنا


دار المبدع أم البحر الملعون ؟

قريتنا منقسمة لجزيرتين , يفصلهما بحر , أخبرتنا جماعتنا أن هذا البحر عميق و من ينزله لن يشهد سوى الموت غرقًا . لم أرَ طيلة حياتي من يعبر هذا البحر و لو حتى على متن زورق صغير . عندما سألت أبي , قال لي في شدة و حزم :
- لم و لن يجرأ أحد على العبور , فمن أبدع جزيرتنا قد حذرنا من لعنت من يحاول مجرد المرور .
جزيرتي ليست واسعة , لكن جميع سكانها يفخرون بانتمائهم لها , مع الآسف جزيرتنا مكتظة بأناس ... دون وجوه ... لا أرى لهم أنفًا و لا عيونًا .
صباح يومًا ما , ذهبت كعادتي صباحًا لدرس التاريخ أو الدين , لكن قبل ذهابي أخبرني أبي بأننا علينا الذهاب لمكانٍ ما . حين سألته عن ماهية هذا المكان ... قال بسرور :
- سآخذك لنزور مبدع تلك الجزيرة .
قلت له و أنا مطمئنة :
- هل سيعطيني حلوى ؟
قال مبتسمًا :
- حان الآن موعدك يا بنيتي .
كنت ناضجة بما فيه الكفاية لكن لم استعب ما يقول ... كنت قد بلغت  العشرين من العمر . يقولون أنني جميلة ...و لكني أشك في هذا, فلم تتح لي الفرصة لأرى وجهي .
كيف لي أن اتأملني ؟ الطريقة الوحيدة أن أذهب نحو هذا البحر الملعون و أرى انعكاس وجهي .
فقادني أبي نحو دار في أقصى جزيرتنا ... صحراء قاحلة تحيط رمالها دار خشبي لا يليق بمنزلة مبدع تلك الجزيرة .
فسألت أبي :
- هل يسكن هنا ؟ في هذا البيت المتواضع .
قال لي بثقة :
- أنه يتنازل عن منزلته ليجعلنا أقرب إليه ... التواضع من لطفه بنا يا حبيبتي .
كان الباب خشبي هش , تركت لي أبي _ هكذا ظننت _ الحق في فتحه ثم دلفت متجهةً نحو باب أضيق ثم نحو سرداب مظلم كهذا البيت . كتابات غير مفهومة رأيتها على الجدران , و حين استفسر من أبي عنها يخبرني أنني على وشك أن التقي من كتبها يمكنني سؤاله عنها .
أزاح عني الشكوك أبي بقوله متهدجًا : - ها قد وصلنا .
إذ بي أرى شخص مبسوط الوجه , يبتسم في خبث , و تفوح منه رائحة ذكية _ لكن في الوقت ذاته شعرت أنفي برائحة كريهة تختبأ وراء جلبابه الأبيض .
تهت لثانية , لأفق من غفوتي و أرى أمامي أبي لكن في لباس غير هذا الذي كان يرتديه . سمعت صوته يحدثني و لكن الصورة لا تتحرك .
زغاريد و أصوات مبتهجة تتمسح بما يقولون بركتي و لكني شعرت بحيرة ... حتى صرخت لكي يسمعون أنيني ... كنت أتوجع و لم يشعر بي أي منهم .
علمت فيما تلى هذا الحدث من أيام ... أنني صرت بلا وجه مثلهم .. هذه هي بركة مبدع جزيرتنا .
فيما بعد , قررت الهروب ... أريد الذهاب للبحر الملعون . أريد أن أرى ضفاف الجزيرة الأخرى .
ملعونة ... و هل هكذا لست ملعونة ؟
لكن كيف سأرى و أنا بلا عيون ؟
كيف سأهرب و الأسطورة تخبرنا بأن من خرج من الجزيرة و لمس البحر قطعت يده من مياهه و فطر قلبه لنصفين ؟
بعد ليلة كاملة من التفكير ... جمعت بعض النقود من أبي _ بالأحرى سرقتها _ و اتفقت مع أختي الكبري بعد أن أغويتها بالنقود و بالرحلة التي لم يخضها غيرنا , على أن نذهب لهناك و تصف لي ما تراه بكل دقة .
و بالفعل , وصلنا لهناك , شعرت بالمياه تناديني و كلما اقتربنا زاد نسماتها , و من هنا كان الشغف يملأني من أجل سماع ما لم أستطع مشاهدته بعد ما حل عليّ بركته .
بدأت أختي الملعونة بوصف ما أمامنا :
- البحر هذا مياهه عذبه , أنزلت فيه عصا فاكتشفت أنه ضحل , يمكن لزورق صغير أن يوصلنا للنواحي الأخرى منه .
فهمست لها خائفة :
- هل هناك أحد يسبح في الماء ... أسمع حركة مريبة . هل هناك زوارق تسير على سطح البحر ؟ هلا مددتي لي يدي كي أعرف مدى عذوبته .
ذقت من كفي الممدود و لم أشهد عذوبة مياه مثلما ذقته .
كادت أختي أن تجيب حتى سمعت صوت يستغيث :
- ساعديني ... مدي لي يدك .
سألته حين لمس البر الآخر :
- من أنت ؟ و كيف لك أن تغرق و المياه ضحلة ؟
فقال بسخرية من سؤالي :
- آتي يوميًا إلى هنا ... لكن لم يلحظ أحد هذا ... ربط ضحالة الغرق باستحالة غرقي .
فسألته أختي مضطربة :
- لم تجبها ... من أين أنت قادم ؟
فقال :
- من الضفة الأخرى ... جزيرتنا ... جزيرة " عدن " .
فسألته مستعجبةً و أنا أتحسس جسده فأجد له وجهًا لكن ليس كوجوه البشر , فالعين تتوسطه و يعلوها الفم و لكن أذنه شابهت خاصتنا  :
- كيف لم تلعنك مياه البحر و تفقد أيًا من أطرافك ؟
ضحك في خفوت :
- بحر ؟ نحن نسميه في " عدن " نهرًا ... وهذا مركز رزقنا و نعمة مبدع جزيرتنا علينا .
خافت من كلامه أختي و رحلت ... أما أنا فنزلت معه المياه و سبحنا مرارًا و تكرارًا بين الضفتين تلك الليلة .
علم أهل جزيرتي و أهل جزيرة " عدن " ... و لكن حين آتوا و مكث أحدهم على شاطئ بحره و الآخر على ضفاف نهره , لم يجدوا أي منا .
قد رحلنا لنخلق جزيرة خاصة بنا ... و بالفعل نجحنا في البادئ .
و بعد مرور أعوام , رحل المرتبصون بنا من أهل الجزيرتين و تناقلون أسطورة عن مصيرنا التعيس أما أختي فقد سمعت من جزيرتي الجديدة أنها قتلت و ألقيت جثتها على ضفاف المياه فصارت عبرة لمن يحاول الهروب .
أما في جزيرتنا , فقد بدأ هذا الرجل الذي جاورني في رحلة هروبنا في إنشاء بيت يشبه كثيرًا بيت المبدع ... لكن تعدى في مساحته الدار في جزيرتي القديمة .