lundi 22 janvier 2018

أما أنت فلستَ

أما أنت فلستَ .


يدعونك ( عبد الله ) . مسلم و يحكمون على مظهرك بأنك مسيحي . فللمسيحيين شكل مميز , يُعرفون هكذا من هيئتهم . إنك تعيش بمفردك في شقة صغيرة ... لا تعيش في غرفة ضيقة لكنك ترضى بها . إنك قنوع جدًا . مات أبوك منذ أسبوع من الآن , و لحقت به أمك من يومين . أنت حزين الآن . مكتئب ... لا أنت لا تبالي . العزاء كان بالأمس في منزل العائلة , حضراه عمك و خالتك , أخذتك الجلالة و قلت لهما أنك لن تغادر غرفتك الصغيرة التي تحويك ولن تأخذ إرث أبوك و أمك . قلت لهما أنها- تعني الشقة - منذ الآن لهما يفعلان بها ما لذ لهما .
فلنرجع لما كان عليه ... أنت الآن تعاني من الاكتئاب , الوحدة , العزلة .
يرن المنبه رنينًا عنيفًا صاخبًا , لم تكن من الأساس نائمًا لكنك أغلقته و كاد النوم حينها يخطفك . أنت تعمل بائع جرائد ... لا ... لا , إنك تحب الموسيقى , فهي تليق بك أكثر , إنك متسول . تعزف على كمانك و يضع الناس لك نقود . أنت موسيقار , لكنك لا تحب ما تعمل , أو بالأحرى لا تأبه به . تقوم من رقدتك و تذهب ناحية الصنبور الصغير المثبت في ركن من غرفتك الضيقة , تنزل رأسك داخل الحوض لتهطل مياهه الباردة . إنك في شهر فبراير , أو يناير ... لن يعني لك التوقيت كثيرًا , فأنت تقول في نفسك أن الأيام و السنوات تتشابه , تمر مرورًا بطيئًا , تنتظر فقط أن تنتهي منها بالموت أو بحادث عارض .
ترد فجأة و تنتفض موجهًا كلامك إلي :
- لست تعيسًا ... أنا في غاية سعادتي , و الغرفة في الحقيقة في غاية الاتساع ... أحب الموسيقى بالمناسبة , هي مهنتي و لستُ متسولًا .
لا انتبه لما تقول تمامًا مثل القارىء فاتابع ما أكتب .
تمسك بفرشاة أسنانك لتضع الحصة اليومية من المعجون على سطحها المتعفن القديم , تغسل أسنانك جيدًا ثم تنتبه فتضغط على زر إناء الماء الذي وضعت فيه قهوتك ... لا ... بل وضعت حبات الشاي الناعمة ,فأنت تحبها , لطالما ذهبت إلى مقاهي و غادرت غيرها لمجرد أن الأولى تقدم الشاي ناعم و ليس حصى . تضع الشاي في الماء بعدما تكاد المياه تغلي , تغلي حبات الشاي و أنت تتابع هذا بتمعن , تنفخ بأنفاسك فتنفجر الفقاعات . تأتي بكوب فارغ , يكاد ينكسر .. فلقد أوقعته أنت منذ يومين , الكوب متسخ بعض الشي ء من اليوم . لم تغسله فأنت فوضوي , كسول إلى أبعد حد . ملابسك كلها في الغسيل ... كيف ستنزل ؟ لا دعني أفتعل إفتعالات الرواية و الأفلام , هناك قميص واحد مهندم و نظيف , و إن كان رائحته غير طيبة بعض الشيء .
تشرب الشاي , و تتصفح جريدة الأمس . فأنت تقول أن بائع الجرائد , دائمًا يعطيك أنت دون سائر الناس عدد الأمس . فتترك كل الصفحات و تتهاوى عيونك لتصل إلى مساحة الأبراج , لتعرف حظك اليوم . أنت برج الأسد , كُتب في الجريدة ( احذر من أعدائك فأنت مغفل , حاول أن تبتعد عن علاقة عاطفية جديدة ) ... لا .. لا انتظر , أنت تنظر أولًا في العادة إلى صفحة الحوادث فتجد القصص مروعة , فتغلق عيونك و تشرب كوب الشاي و تتهيأ لترتدي القميص , فهو الذي ينقصك , أنت ترتدي بنطال أسود جينز به ثقب لا ترغب في أن تصلحه لأن هذا سيكلفك مشوار حتى نهاية الشارع , و أنت كما تعرف كسول .
تصرخ من داخلك نحوي و تقول :
- و اللهِ سأنزل بعد العمل و أصلح هذا البنطال .
بالمناسبة , لقد ذهبت و أنت تنتشي بإرادتك , فوجدت المحل مغلقًا ... اليوم الجمعة . لا أحد يعمل يوم الجمعة .
تحدثك نفسك بأني أكذب عليك , فلتنظر إلى النتيجة المعلقة على الحائط و تجد أنه الثلاثاء , فتضحك و تصفني بأني مغفل و غير مرتب ... تنزل و تذهب للمحل , فتجد مكانه محلًا مختلف عن الأول . لقد أغلق نهائيًا , أعلن إفلاسه .. قد يكون مات صاحبه و لا يملك أولاد يديرون المحل .
تدير ظهرك له و تتمشى حتى تجلس كعادتك , في زواية من شارع في حي راقي لا يمكن لي أن أذكر اسمه , لأني ببساطة لست معني بالتفاصيل هذه , فتجلس القرفصاء و معك بيانو ... لا .. كيف لك أن تعزف بهذا كله و أنت مفلس ؟ فلنقل أنك تعزف بأوكورديون , تعزف بإتقان , هي موهبة حباك بها الله . أنت فعلًا موهوب لكن لا تنتبه لذلك . تهمل موهبته و تتسول عاطفة الناس من أجل معيشة . أنت تعتقد في نفسك أنك لست مطالبًا بأن تعمل في مهنة مشرفة , فالدنيا كلها إلى زوال , أنت تعيش اليوم بيومه , لا تريد منهم سوى الشفقة لحالك , فيبرزون مع العطف أموالًا تأكل و تشرب بها . فكرت أنت مرة في أن تصبح ممثل , لم يفلح معك الأمر , فقد جرحك أحدًا من أصدقائك حين مثلت أمامه مشهدًا تراجيديًا ... لا .. لا , أنت وحيد لا تملك أصدقاء . لقد اعتقدت أنك ستكون ممثلًا يومًا ما , لم تحاول إبراز هذا أمام أحد , لأنك ببساطة لا تملك سوى نفسك . تعزف بالأوكوريدون و شفاهك العريضة المضحكة الضاحكة لا تُغلق حتى و إن مللت العزف , فالنقود التي جمعتها لا تكفي . جاءت لك فكرة ... لا لقد ضاعت الآن .
ينتهي يومك مع انتصاف الليل , فترجع لغرفتك الضيقة , لعزلتك المقيتة التي صرت تعتادها و تحبها .
تسألني :
- انتظر لكني أحب ( ألفت ) , لم تذكرها ؟
فانتبهت لما تقول . ليس كل ما تقول انتبه له . لكن هذا الاسم لا يناسب حياتك يا عبده , فلنجعلها ( سارة ) .... لا إنه اسم تقليدي ... ( طاهرة ) اسم قديم لا يوحي بما تريد في حياتك ... ( منى ) لكنك تقول لي أنك لا تتمناها ... ( قديسة ) اسم صعب للتذكر أو الذكر , إنه يصيبك بالإحراج عندما تذكره أمام نفسك ... انتظر سأدخل لاتصفح أسماء بنات , افتح المعجم و ما سيقع أمامي سألصقه بك . ( سدرة ) ... ( ابتهال ) ...(دانية ) .... ( دنيا ) ...
( ديالا) ... ( داليا ) ...(افنان) ... (أشجان) ... فلنقل أنك شاذ .
أنك لا تهوى البنات , تستحي فقط من قول هذا أمام الناس ... لا .. إنك تستحي ليس خوفًا من الناس و من قتلك باسم الدين أو الفضيلة أو الطبيعة , لأنك تعرف أنك تخالف ما فطرت عليه , حبك للرجال و اشتهاؤك لهم عندك يخالف رغباتك الذكورية .
أن هيئتك مريبة و غريبة .. لهذا زهدت الحياة , لا معنى لشيئًا فيها , هي بداية يعقبها نهاية عادية .. ليس هنا قبل و لا هناك بعد . لست تهتم باسئلة وجودك , سألك أحدهم في مرة .. هل هناك الله ؟ فقلت له لا أريد أن أعرف , لا أهتم . أنت ملحد بالمناسبة .
ترجع إلى الغرفة الضيقة , لتجد الكتب و المجلدات الحديث منها و القديم محشورة على رف صغير , أنت مثقف و تحب القراءة كثيرًا ... لا , لا ... الكتب كلها تعود لأبيك الذي مات لتوه , و أنت لم يكن يومًا بمقدورك الاستمتاع بأي كتاب .
لديك شاشة صغيرة , و جهاز فيديو , ترتمي أمامه شرائط لا حصر لها من الأفلام ... ليس أفلام خليعة .. إنها شرائط سجلتها أنت بنفسك للقساوسة وعاظ ... تعشق كلام البابا .
قبل أن تعترض من جديد , أعرف أنك مسلم , لكنني أنسى , أنا في الآخر إنسان ... أما أنت فلستَ . تغدو في نوم عميق ... لا أنك تعاني من أرق منذ يومين , لقد نسيت أن تأكل , تنزل فتجد المحلات جميعها مغلقة فتعود أدراجك ... لم تبالِ و انتظرت لهذا السطر .
يدق الباب فتجد ( ألفت ) , جارتك تقدم لك عشاءًا , و تقول لك أنها تحبك و أنها تعرف أنك بالكاد شاذ و ستعالجك و تخلعك من وحدتك تلك . قطرات الماءمن الصنبور لا تتوقع عن الهطول , إنها تشكل موسيقى هذا المشهد يا سادة . نهاية سعيدة مفتعلة مني , أما أنت فلستَ !