mercredi 7 février 2018

حضور و لا إنصراف



تطل الآن على الحضور و رائحة قذرة تحيط المسرح المتسع , ترتدي قماشة تستر بها شعرها الحريري الأسود .
-كيف عرفت أنه ناعم هكذا ؟
لأن عيني اختلست بعض الخصلات الفارة من محبسها .
كانت حينها عارية تمامًا إلا من تلك القماشة .
سألني شابٌ يبدو عليه الغباء : لِم ترتدي كل تلك الملابس ؟
قلت له بغباء يفوق غبائه : - لعلها خجولة .
اصمت الآن لأصغي فهي تعلن للمشاهدين و فمها مكتوم بداية المشهد :
" أهلًا و سهلًا بجميع الحاضرين , الفقراء قبل الأغنياء ... العاصي قبل الواعظ ... الجاهل قبل المتعلم ... القارئ قبل الأمي ... الأصم قبل المنصت ... الفاهم لكلماتي بعد المفسر لها ... أهلًا بكم في الحفلة السنوية لتوزيع جوائز ما - لم يتحدد لها اسم بعد - في نسختها المائة و الثلاثين .
لن أطيل عليكم في التقديم , و لمن يشرفنا بحضوره لأول مرة ... لا تستعجب من غرابة ما سترى و لا مجال للاعتراض على أراء الحُكام , فأنتم لستوا هنا سوى لتصفقوا , من سيفتح ثغره سيتلقى فيها نار موقدة لا تنطفئ .
الفئة الأولى و الأخيرة : ليس لهم مسمى حتى لا نصنفهم . "
المتسابق 1 ...
يدخل شاب في العقد الثالث من عمره , بلا أقدام , يزحف على بطنه , لا يتفوه بكلمة ... لا نعرف إذا كان أخرس أم أنه يدعي هذا ليربح تلك المسابقة .
تصفيق حار من الحاضرين , وقف أحدهم و لكن لم يتبعه أحدٌ فاستكملت السيدة تقديم المتسابق و هي تقول أنه من عائلة فقيرة للغاية , استطاع أن يكافح حتى وصل إلى ما هو عليه الآن , يعول أسرته بعد وفاة أبيه و أمه , يعمل بورشة حدادة و قنوع باليومية التي يتقاضاها , حوالي الخمسين جنيهًا ....
قربّت المقدمة صحن يحتوي على رملًا ساخنًا و فيه حصى و وضعته للمتسابق 1 , لم استوعب للغاية ما يحدث مثلكم , لست هنا لأشرح ما أراه ... فجأة يقترب من الإناء الموضوع زحفًا و يلعقه بلسانه فيحمر وجهه و يعاني و هو يصرخ ... هل يدّعي ؟ لا أحد يعرف , و إن كان فإنه يستحق التصفيق الذي ناله بعد تلك الحركة . قامت لجنة التحكيم من مقاعدها و صفقت له .
قالت السيدة في الميكرفون : " أداء عظيم يا رقم 1 , و ستنال 5 من 10 . "
كاد المتسابق يبكي لتلك النتيجة , فصفعته على وجهه بكفها خشن الملمس , السيدة العارية قائلةً : " ليس لدينا كل الوقت "
المتسابق 2
سيدة , في الأربعين من العمر , ترتدي ملابس تشي بثرائها , واثقة من ذاتها , عزباء و عقيمة أو لأنها عقيمة . تبنت طفلين وو استطاعت أن تكافح في الحياة رغم الضغوط و التفرقة التي جعلتها تطرد من عملها بسبب مضايقات تعرض لها , تعيش الآن وحيدة .. فأولادها بالتبني قد رحلوا إلى حال سبيلهم و تركوها مع كلبها الذي يحرسها . تبكي كل يوم حتى ضاع نظرها بكاءًا لفراقهم .
أمسكت السيدة بكلبتها و قيدت السيدة بأغلال في أقدامها . نالت الكلب من بين يدي سيدته وأخذت تنحر عنقه كالأضحية . السيدة كانت تقاوم في مقعدها , تبكي في حرقة و اشتياق لهذا الكلب . تبقي و تحاول الصراخ لكن أدركت حينها أن منظمي المسابقة لا يسمحون للمتسابقين أن يتكلموا .
التصفيق في تلك المرة , فاق التوقعات , وجود عامل أنثوي جعل المشاعر تتأجج و بالفعل شرع التقييم سريعًا و نالت النتيحة على لسان مقدمة الحفل و النتيجة :
7,5 من 10 .
ضاعت دموع السيدة و قل حدة التصفيق و كان حينها الاستعداد للقادم جُل همهم . الجمهور دائمًا يطمع في المزيد .

المتسابق 3
رجل , في أواخر العشرينات , تقي , يحب الله , مهمته هداية الناس , لا يكذب , لا ينافق , لا يطمع , لا يزني , ليس كسول , لا يقتل . لا بفارق دار العبادة , يقول أحيانًا أن العمل عبادة و أن الإنسان عليه أن يعمل ليرضي نفسه و ربه . يخشاه شيطانه , فكلما وسوس له لجأ لربه . سألناه من ربك ؟ قال هو ربنا جميعًا .
يعشق تلاوة الأسفار ... أقصد الآيات ... أقصد الأحاديث ... هو يسميها نهج هدايته . فكلنا بشر . لم يعاني في حياته الكثير , إنه يعترف بذلك , لكنه كان السبب في خلاص الكثير من العصاه الضائعين ... بإذن ربه . لم تقرب المعصية حتى خياله , يقول أن الدنيا من صنع الله أو الرب أو الخالق  لهذا يجب أن نكون جديرين بما أمرنا بفعله .
أول مرة أرى الناس متحمسين هكذا لمتسابق , هذا سيفوز بكل شيء . لكن شروط المسابقة تحكم أولًا و أخيرًا . سيخضع لاختبار .
جئنا برجلين و فتاة بهية . الرجل الأول أخذ يصفع الفتاة و لا يكف . وسط ذهول الجمهور , انتفض رقم 3 و اقترب و صار يحميها منه و يتلقى الصفعات بدلًا منها .
لم يصفق الناس و زعق أحدٌ منهم قائلًا " الحرية يا أنت ! " , و أخر يصرخ
" العقاب الآلهي أيها التقي ! " . أما الرجل الأول فانسحب و ترك الفتاة , و كان الرجل الثاني ينتظره فأخبره " هل لي أن أخذ بركتك من أجل صفع تلك الفتاة دون أن تأنبني ؟ "
أعطاه الرجل بركته و سمع صوت موسيقى يصدر من آلة جاءت بها المذيعة ...
موسيقى قبيحة و مزعجة ... أحبها الجمهور و أحبها الرجل , رغم ذلك و هو يدير ظهره للفتاة التي لا يكف الرجل عن صفعها ... أخذ رقم 3 بتكسير الآلة ... لكن الصوت بقى في أذنه ... المعصية لا تزال راسخة لا تتلاشى .
جاء صوت المذيعة النتيجة : 6 من 10 .
المتسابق 4
هذا الأسود القبيح , يأتي هنا كل سنة , لا يحصل حتى على نتيجته , فهذا لا يكترث الناس لأمره . يرونه غير موجود بينهم  و لا أمامهم .
أظلموا المسرح بالكامل , أما باقية القاعة من جمهور و لجنة حكام فهي تنير نورًا لا يقل شدة عن نور الشمس في منتصف صيف استوائي حار .
يُطلب منه كل يوم أن يشرح معاناته , و هو أبكم لا يستطيع حتى تحريك شفاتيه . فقرر تلك السنة , أن يؤدي حركات جسدية جتى يوصل رسالته للجمهور .
لم يفهم الجمهور شيئًا مما فعل , و لم يصفقوا فهم لا يكترثوا .
النتيجة : 0 من 0 . هي الدرجة النهائية , لا يعرف أحد ما الشعور الذي يجب أن ينتاب كل منهم .
قبل أن تنتهي المسابقة و تغلق السيدة تلك القصة العبثية ... قلت في نفسي ... لِم يسعى كل هؤلاء لكسب عطف الناس ... إنهم لا يتقاضون مالًا , أليس كذلك ؟ إن المعاق هذا يصفق لمن يشبهه فقط لأنه يعرف أن جُل ما يمكن أن يحصل عليه من الجمهور هنا هو التصفيق المثير للشفقة هذا . لِم نتنظر من السيدة أن تختبرنا هي و لجنة التحكيم لقد عانينا بالفعل في السابق ؟ لِم يعجبهم كلام هذا الرجل التقي و هم يدركون أن الكلام لا يكفي في الحياة ؟ لِم تقام تلك المسابقة كل يوم ... كل ساعة .. كل ثانية و كلنا علينا الحضور لنصفق لننبهر ... لنشعر أننا لسنا على المسرح ... ليسعى الجميع للمشاركة حتى يقيمه غيره . لست هنا بإرادتي , لهذا دونّت هذا هنا حتى لا أنسى تمردي و سخطي . لا أريد أن أكون هنا و إن أجبرت فلن أصعد على هذا المسرح . بالمناسبة لم أصفق طيلة هذه الليلة ... و بالمناسبة الرائحة العفنة تأتي لأننا محبسون هنا منذ قرن و مائة يوم .