mardi 20 mars 2018

في بلد بعيد سعيد

الراوي :
في بلدٍ بعيد لا يسكنه أهلٌ فالعالم كله من ساكنيه , رحلت ( مودة ) إلى هناك بعد أن قرأت
إعلانًا دعائيًا عن هذا البلد السعيد . لافتة كبيرة في شوارع مدينتها الحزينة يحث سكانها التي فاض بهم البُغض و التي سال على أراضيها دماء لأفكار متصادمة لتناقضها مع أخرى . يوميًا تسال دماء و تزهق أرواحًا دون سبب منطقي . فما كان من مودة أن تحلم أن تذهب إلى مكان جديد بعيدًا عن تلك الفوضى .
و ها هي مودة نفسها , ستحكي لكم ما رأته في الجانب الآخر من القصة . فلقد انتهيت أنا من القصة ومنكم .
مودة :
حزمت أمتعتي , و أخذت القطار المتجه لقرية السعادة . إنها بلدة صغيرة بالمناسبة عكس ما يصفها الراوي الذي سبقني ... إنه لا يكف عن الكذب بالمناسبة .
حملت بين يدي تذكرة العبور  إلى تلك القرية و حين وصل القطار إلى مستقره , سمعت صوتًا من بعيد , خافتًا لكن ظل مسموعًا قائًلا :
( مرحبًا بضيوف مدينة السعادة , الأرض التي يتحقق فيها ما لا نجرأ حتى أن نحلم به , انسوا إحساس الفقدان هنا , انسوا شعورالوحدة فأنتم دائمًا ستحظون بصحبة , لم يمر أحد بمديتنا إلا و ظل يحمد القدر الذي أوصله إلى هنا ... على كل الضيوف الانتظار حتى يأتي أحدهم لصحكبتكم لمدة يوم كامل ... نتمنى لكم لحظة سعيدة تكفيكم طوال حياتكم . )
الهدف من إنشاء تلك المدينة هي تلبية طلبات ضيوفها مقابل المال . أنا من عائلة متوسطة الحال لكني أدخرت مالًا طيلة العشر سنوات المنصرمة لكي أحظى بيومٍ واحدٍ كهذا .
قد اخترت شابًا وسيمًا , يُدعى ( خالد ) . كان هناك العديد من الفتيان الذي بلغت بهم الرجولة أوجها . كان يعجبني , فاستقرت عيني و قلبي عليه من ذي قبل . حمل عني الحقائب حين هبطت من القطار . قد عرفته و عرفني . فهو موظف , يعرف زبائنه . لكن هل في ذلك عيبٌ ؟ لا أرى ذلك .
 كان خالد حسن الطلعة و بابتسامته غير المفتعلة غمر قلبي بالحياة , ثم حياني و قال :
- هل تريدين أن نذهب لنسترح قليلًا ؟
قلت على الفور :
- لا سينتهي اليوم سريعًا . لقد استرحت في القطار بما فيه الكفاية . هيا لنذهب لمكانٍ من اختيارك .
أخذني من يدي – يا له من شعور ... كأنه انتزعني من موت محتم , بعثني من جديد بتلك الحركة ! – سيذهب بي حيثما أراد , لا يعني لي المكان كثيرًا الآن . لم أرد أن نكون مثل هؤلا ء العشاق , نتسكع وسط زحام ... أردت أن انأى به و بنفسي إلى سفح جبلٍ ما أو على ضفاف نهر ضيق المجرى تحاوطه صخور لينة , فنجلس إليها كمكوث النحل في قلب زهرة ربيعية عطرة . كل هذا ما كنت فقد أفكر به ... في مجرد ثوانٍ , أحاط بنا الفراغ و اختفى الناس و صرنا وحيدين . فسألني :
- ما رأيك ... هل تمانعي إن ذهبنا على متن بساط سحري نحو الشلالات التي تلوح في الأفق ... هناك , هلا شاهدتيها ! إنها رائعة .
فلم أرد أن أحرجه و قلت :
- لنذهب سيرًا و ندع البساط لخيال الأطفال . السير معك و التحدث عن أي شيء هذا ما أردته .
فلم تختفِ الابتسامة من وجهه ما جعلني أصاب بالريبة . لكن على الفور , انسحبت البسمة منه وجهه و حل محلها الاعتياد . وجهه البشوش مازال حاضرًا لكنه الآن أكثر واقعية . تمامًا مثلما طلبت . صحب قلبي معه ثم سألني :
- ها حدثيني عن نفسك ... ماذا تحبين في الحياة هنا ؟
قلت على الفور :
- كل هذا ...
و أشارت بعيني على ما حولنا .
فقال و قد بدأ أصغر أصابعه يقترب من يدي كأنه يهمس لي :
- و أنا أحبتت هذا كله أيضًا . هل تعرفين لِم أحبه ؟
لم أرد و لكن عيني استفهمت , فأخبرني بحنو لم أره في حياتي من قبل :
- أحبه لأنك في قلب كل هذا . أنتِ من يكسب مكاننا هذا كله الحسن حتى وصل لكمال إلهي يشبه قسمات وجهه و صفاء روحه العطرة ... يا مودة .
كنت حينها فعلًا أكاد أن أبكي فرحًا . كيف له أن يكون صادقًا لتلك الدرجة ؟ تعبيرات وجهه تتغير بمجرد تفكيري في تغيرها . لقد خُلق ليكون زوجي . سكن قلبي و لم أفقه ردًا على ما قاله . أخذنا نقترب فجلس إلى سفح الشلال و أخذنا ننظر إلى السماء الصافية . السحب تتحرك ببطء للغاية , و الشمس خجولة كأنها سئمت القسوة , و القمر في الناحية الأخرى ينتظر من سيدته الإذن ليحل محلها . فالليل على وشك السقوط , الوقت يهرب من بين يدي , ليس عليّ إلا أن أقرب نفسي منه أكثر . أصبعه العالق و الساعي للمس روحي قبل يدي , ظل بيننا عائقًا , فما كان مني إلا أنني أسقط سياج الاحتياط لكي يمر خالد بيده بين ثنايا راحتي . كان جلده بين نعومة مفرطة و خشونة مزعجة , فبات حقيقيًا تمامًا كما تمنيته . بالخطأ أو عمدًا , احتكت أجسادنا ببعضها و نحن نجلس أمام مياه الشلال القوية و المندفعة في غزارة متجهة نحو سفح لا يستقبل سوى العشاق . سألني فجأة ... تمامًا مثلما أراد شيءٌ ما داخلي :
- اخبريني يا مودة , هل تريدين أن تخلدين هنا إلى الأبد ؟
- صدقني إن كان لدي المال الكافي , لأرهقت روحي سعادةً هنا .. معك يا خالد .
- هل لتلك الدرجة تعانين في دنياكِ ؟
- أكثر مما تتصور ... أكثر مما ينبغي .
الموسيقى الخافتة التي طلبتها و أنا أحجز تذكرتي , بدأت تعزف من السماء , كأن القديسين يعزفون لنا .
فقال لي :
- صفِ لي أكثر ما يبهجك ؟
فكنت متحمسة للغاية حينها و أنا أرد ... فها هو يهتم لأمري , فاسندت رأسي إلى كتفه و عيوني سارحة في إنعكاس صورتنا في مياه الشلال و قلت :
- كل هذا يبهجني ... و لكن أكثر ما يبهجني اكتراثك لأمري . أنا في مدينتي وحيدة , من العمل إلى البيت , لا أحدث أحدًا و العكس صحيح . هل أخبرك سرًا ؟  عندنا الناس أصابهم الخرس من قلة الكلام ... فالكلام عندنا أصبح من الكبائر . فهو لا يولد سوى القتل و الكراهية , و أنت أكثر ما يصيب قلبك بالبهجة ؟
- سعادتي في وجودك جانبي الآن ... لا أريد من الدنيا غير هذا , سأظل محتفظًا بكِ في قلبي الخاوي و سانتظرك على باب جنتك بعد حتى أن أموت .
حل الظلام و حان وقت الرحيل . نضب منبع مياه الشلال و باتت صورتنا معًا باهتة . لكن احتفظت بيدنا متشابكين . أخبرني أنه سيوصلني للمحطة و سيظل ينتظرني للأبد .
يا له من يومٍ لم يجرأ عقلي على نسيانه ! أصبح كل هذا في طي الذكرى حتى إني الآن أشك أنه حدث بالفعل . وصلنا معًا سيرًا للمحطة و أمام القطار نظر إلي بعينه حتى بكيت من آلم الفراق ... فما كان مني إلا أني احتضنته و طلبت منه ألا ينساني ... و ها قد أقسم أنه لن يفعل.
أصابني بسُكر الحب و رحل دون أن يخبرني أين سبيل اليقظة منه . عاد القطار بي إلى مدينتي مخلفًا وراءه سعادتي .
الراوي :
بعدما رحل القطار بقليل , أصر المذيع الداخلي إعلانه اليومي : ( عملٌ مذهلٌ أيها الموظفين العشاق . غدًا عطلة رسمية , و قريبًا هناك علاوات لبعضٍ منكم و منكن ... شكرًا يمكنكم الانصراف الآن ) .