dimanche 14 octobre 2018

لا أعرف !



إنها الخامسة صباحًا , وجدتُه ميتًا , مُلقى على بطنه كحيوان نافق  في إحدى الأزقة  , يعبث به كل من شاء . شتاء ببرد قارس و سماء ملبدة بغيوم متكاسلة ثقيلة , طريق مزدحم , صفارات الشرطة تحيط بأذني من كل اتجاه .
هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة باسئلتها . فغالبًا , الحقيقة هي القصة الأكثر إقناعًا .
ذهبت و صرت أسير , دون وجهة . اتذكر الآن , شكل الجثة . يخرج منها رائحة عفنة لا تقدر أنف بشر أن تتحملها . يحيطها بركة من الدماء اللزجة , المتجمدة . على الأرجح , لقد مات هذا الرجل منذ وقت ليس بالقليل . أمر الآن وسط وجوه لا تطالعني . أصبحت وحيدًا . للحظة أشك أني الجاني . لم يتملكني الجوع . أصبحت شرهًا لمعرفة الحقيقة , لكني خائف و للغاية . هل كان يخشى هذا الرجل الموت حين قُتل مثلي الآن ؟ ماذا يخشى الموتى بعد وفاتهم ... الجحيم ؟ و ماذا يخشى أهل الجحيم بعد نيران تعذيبهم ... الخلود ؟ و لِم لا نعتاد الخلود في العذاب ... إن كنا معذبين في الأرض أًصلًا ... عذابٍ عبثي ؟
بعد مسيرة نصف الساعة . دلفت إلى حانة , كانت يداي ترتعشان . كانت الحانة مكتظة بالناس , وجوه عابسة  مثل الصخور و الأشجار و الثلوج . كانت هناك فتاة حمقاء لا تكف عن النحيب , و ظل صوتها مزعجًا لحين غادرت  . و لكن مع الوقت , اعتادت أذني النحيب و تجاهلها عقلي . قفز إلى ذهني , أنني احتاج إلى كأسٍ من الخمر , أسدل به الستار على ما ممرت به لتوي . جلست فوجدتها أمامي , فتاة في الثلاثين , شقراء , مثقوبة حلقة أنفها , يلف الخلخال كعبيها , ترتدي بنطال رياضي أبيض مسطور على جانبيه خطين أسودين , و قميص يشف محاسنها . كانت براعة الحسن و عيونها تشع طاقة . صبت لي كأسًا فسألتني :
- هذا الوجه الذي ترتديه ... وجه خوف , لن يجعلك تستمتع بكأسك الأول .
فرمقتها بنظرة لا تنم عن شيء و قلت :
- لقد رأيتُ جثة نافقة لتوي ... في الزقاق المقابل .
فردت قائلة :
- هل أنت من قتلها ؟
فقلت :
- هل أبدو لكِ قاتلًا ؟
فشربت كأسي الأول و قالت و هي تصب كأسي الأول و كأسها الثاني :
- هل تظن أن القتلة تحمل أيديهم الدماء ؟ القاتل هو الشخص الوحيد الذي يملك يدين تشبه أيادي الملائكة .
- إذن فإنكِ تظنيين أنني فاعلها ؟
- لا يهم ما أظن , الأهم هو أنك واثق من حقيقة نفسك .
كان شيء ما بداخلي , يجعلني أريد أن أكمل حديثي معها . فخير من تحدثه , يكون من لا تتوقع من أين تأتي أفكاره .
شربت من الكأس قبل أن تشربه هي , فما إن انتهيت . ذهبت لتصب كؤوس أخرى .
كان يمكث جواري , شاب في مثل عمري , حوالي الأربعين . سألني :
- هل ستشاهد مباراة اليوم ؟
- لست من هواة الكرة . بوجهٍ شاحب و ذهن مضطرب أخبرته .
صمت للحظة و قال :
- حاول أن تجد فيها المتعة , صدقني هكذا هي الحياة . إنها قد لا تفهم لكن هناك سحر بها يأسرك و يوفر لك الدافع لمعرفة المزيد .
فجأة شعرت أن هناك شيءٌ مريب من حولي . لِم أشعر فجأة أنني محاط بفلاسفة و عرافين ... يرون ما لا أرى . هل رأوا الجثة المتعفنة ؟ كان هناك غصة في صدري . هذا السر لا أقدر أن أبوح به لهم , فقد يتهمونني أنني القاتل و بصمتي سأكون أنا القاتل الجبان أو المتذاكي الأحمق . ماذا أفعل الآن ؟
ما زال أمامي خيار أن  اتيقن من عدم ارتكابي لتلك الجريمة . هذا سيتم عبر تذكري أين كنت قبل الساعة المشؤومة .
لن أقدر أن أعود أدراجي الآن , فالزقاق يقع جوار منزلي . و إن عدت يجب أن أملك سيناريو محبك جيدًا في حال سألتني الشرطة .
بدأ رواد الحانة في الانصراف . كانت الفتاة المشغولة , تذهب و تجيء بين الفينة و الأخرى .
كنت أنا بمفردي , شربت حتى كدت أثمل . لا أثمل بسهولة بالمناسبة . امتلئت مثانتي و قررت أن أفرغ ما فيها .
الساعة على الحائط كانت الخامسة !
نظرت إلى ساعة يدي , فكانت العقارب متوقفة عند الخامسة .
دلفت إلى دورة المياه , كانت الرائحة كريهة لدرجة لا تحتمل , فالغائط يغطي أرضية الحمام . كانت الصنابير صدئة , يصعب فتحها , كحفرة المجاري يعبث فيها من القوارض من كل نوع كما شاءت .
هناك شيءٌ ما جعلني أدلف للداخل و أن اتحمل هذا كله . الفضول و الرغبة في المعرفة قد يدفع بنا إلى حافة جبل من جمر لا يكف عن الاشتعال .
دلفت و تقيأت ما في جوفي , ومن ظهري فجأة قبضت يد غليظة على رأسي المحشوة و عقلي الفارغ و أخذت تضربني بلا هوادة بعد أن أفقدتني الوعي . لم أقاوم , لم استطع ... لم أبالِ .
 بدأت عيوني في التفتح كزهرة خجولة تنظر لتلقى الفتاة الشقراء تحمل رأسي الدامية . كانت تبسم لي , و لم تبنث بكلمة , مدت لي يد العون حتى استقمت و شد عودي و سرت معها كطفل تخلص لتوه من الحبو . كانت ملابسي عفنة إثر الواقعة , اختلط بها البول مع فضلات البشر و بعض الطيور النافقة و لكن لم تتمكن مني الحشرات , إلا إذا نظر أحدهم إلى حالي سيرمقني بنظرة إشفاق و تقزز دون أدني شك .
كانت الحانة على وشك الإغلاق . أجلستني و أخبرتني أنها ستذهب لتعطني ثياب نظيفة و عليّ القدوم غدًا إعادتها لأنها تخص زميلها في العمل , الذي يبدأ عمله في العاشرة  من صباح الغد .
لم انتبه لما قالت و اكتفيت بتبديل ملابسي و لم انتبه إذا ما كان هناك من يراني أم أن الجميع قد رحل . فاختلس سواد عيوني نظرة دون إرادة مني , فلم أجد سواها في المكان . تركتني و راحت تنظف الطاولة المجاورة . قلت لها :
- هل رأيتي أحد يدلف إلى دورة المياه بعدي ؟
كانت منهمكة في عملها و يدها تعبث كما يتوجب عليها لتمسح الكراسي , لتخبرني بسخرية :
- دورة المياه مغلقة للإصلاحات . ألم ترى اللافتة ؟
فسألتها من جديد بلهجة بها بعض الحدة و الجدية :
- هل سمعتِ ما قلت ؟ اسألك ما إن رأيتِ أحدهم يدخل إلى تلك الغرفة القذرة بعدي ؟
نظرت إليّ فجأة و انقطع عملها و مالت نحوي بجذعها و بفمها المضموم و شفاهها الوردية التي اختطفت عيناي , قالت :
- لم يدخل بعدك سواك .
- إذًا أنا من ضربني على رأسي ؟ تظنيني مجنون ؟
- لا , لست هنا لأحكم . أنا هنا لأساعد إن طُلبت مني و أظن أن بارتادك تلك الملابس التي أعطيتها لك  , فإنك على ما يبدو تطلب المساعدة . على أي حال يا صديقي , كلنا بحاجة للمساعدة .

لم اتردد تلك المرة و فقبلت منها أن تمد إلي يد العون . كانت يدها خشنة تشبه أيادي عمال التراحيل أو رجال المناجم . لعلها تمتهن عملًا أخر غير تقديم كؤوس الخمر للزبائن في تلك الحانة الصغيرة القذرة .
قالت لي فجأة :
- لكن أولًا علينا التخلص من الفوضى التي أحدثتها
انقبض قلبي و راحت أنفي تتذكر رائحة العفن المختلطة بفضلات بني آدم و بعض الطيور النافقة , فسألتها على الفور :
- لا تعنين بهذا أننا سندخل لننظف دورة المياه , صحيح ؟
- بالطبع , لا . فتلك غير قابلة للنظافة , تمامًا مثل آثم أدم و شهوته المؤقتة التي نعاقب عليها حتى الآن .
لم أفهم ماذا تقصد . فإن كانت حينها تعني القصة السخيفة المذكورة في الكتب السماوية , فهذا لا يعنيني , فهذا لا يعنيني في شيء . أنا لا أؤمن بشيء . أؤمن فقط بكوني أشك في كل ما حولي . نظرت تجاهها و سررت لأنني لن أدخل تلك المقبرة من جديد و نبهتني أن أنظف مكان المقاعد و ألتقط بعصا خشبية في آخرها قطعة من الحديد , الزجاجات الصفيحية و أضعها في كيس أسود يشبه الكحل الذي تضعه حول عيونها الأسيوية الذابلة .
انحىى ظهري و شرعت بالعمل و خفت الخوف و إن لم يكف قلبي عن الخفقان . عيوني تراقب الأرض التي نال منها البلل و رائحة البيرة التي كانت تملئ فمي و إن لم تمس عقلي بسوء . كان عقلي مقدس , مهما شربت لا أغيب عن وعي و لو للحظة . تصورت أنها قد تغلق الباب خلفها و ستريني مفاتنها , فنظرات الإعجاب و سعيها لمساعدتي , خيّلا لي أنها فتنت لمظهري , رغم أنني كنت رث الثياب و رأسي تقطر منه دماء و إن كانت غير غزيرة و لكن مقززة . كنت أضغط عليها بمنديل و لا أكف عن الشرب حتى يحمي النبيذ الآلم . النبيذ كالحلم , يحميك من ضراوة واقعك , لكنه يفتك بك تو استيقاظك ليخبرك أن عليك تحمُل بدل الآلم آلام لا حصر لها .
انتهيت من دوري و عُدت أجلس على مقعد خشبي من البلاستيك مجاور للباب . كانت قد فرغت من عملها و أغلقت الحانة و اقتفت آثري و كانت قد سألتني عن مكان الجثة . لم يمر الكثير من الوقت و لكني لم أرد أن أعود ثانيةً , فعادت الساعة تدق في يدي و تخبرني أنها الساعة الخامسة صباحًا . ها هي الشمس تلوح في الأفق , و لكن كان الشارع ما زال مثل نفسي لا يكف عن الصمت .
ها نحن قد وصلنا ... رأيت الجثة ممددة على وجهها و لا يوجد آثر للشرطة . موت عبثي لشخص لا يآبه به أحدٌ في تلك المدينة المنشغلة ليل نهار .
سمعتُ من بعيد همس أحدهم , كان شابًا مفتول العضلات , يعاني من عرج بسيط , في وجهه ندبة كادت تصل بين عينه اليسرى و فتحة مناخره , كان أصلع و عيونه تشع غضبًا عندما رآني , لم أعرفه قط . لكنني كنت حينها أمام الجثة و لم أفقه من سبيلي سوى الهروب . كانت الشقراء تحاول أن تعثر على دليل واحد لتاريخ هذا الميت ... حافظة ... بطاقة شخصية ... أو حتى صورة له مع أحد أحبائه . لكن الوقت لم يسعفنا . فاشتد خوفي . كان يسير نحونا الرجل ذات الندبة و فجأة بدأ يهرول ناحيتي و أنا لا أفهم من هذا و لِم قد اختارني لتلك المطاردة . كان يهرول ورائي . كنت سيزيف بلا حجر , أهرول و لا التفت ورائي ... لاأريد أن انظر كأوديب ... لا أبالي كغريب كامو ... لكنني كنت خائفًا تمامًا رغم ذلك . لم أفكر أنني بصحبة إحداهن , نسيت و كدنا نفترق إلا أنها لم تسمح لي و رافقتني دون أن تعرفني . كنت ألهث كالكلب الضار الفار من شرطة الحيوانات الضالة . فجأة توقفت . أخذت اتنفس بصعوبة و كانت الجميلة تسألني عن هذا الشخص الذي فقد آثرنا بفضل الأزقة الضيقة و هذا الصندوق الخشبي الذي سمح لنا بالاختباء ورائه .
سألتني بعد ما تمالكت أعصابها :
- لِم يسع هذا الرجل خلفك ؟
- لا أعرفه ... صدقيني .
- لا تعرف ؟ إذن لِم هرولت ؟
- لأنه كما كنت ترين , يسعى ورائي .
- و لِم يسعَ المرء وراء شيء في ظنَك ؟
- لأنه يريده .
- و لِم قد يريدك ؟
- لا أعرف . لعل يريد قتلي .
- كيف لي أن اتيقن من هذا ؟
- لن يمكنك سوى تصديقي .
- لا استطيع .
- إذن عودي من حيث جئتِ .
- لا أريد . فهناك في داخلي ما يدعوني لتصديقك . لكن ماذا سنفعل الآن ؟
- لا أعرف ... لتفكري أنتِ .
- ألستُ أنتَ القاتل ؟ ألا تتذكر من الحادث شيئًا ؟
- أقسم لكِ بكل ما أوتيت من صحة , أنني لا يمكنني حتى أن أقتل الآلم بداخلي , فكيف لي أن اقتل شخصًا لم أره قط .
أخبرتني أن أسير نحو منزلها , فمنزلي ليس بأمان بالتأكيد الآن . سأقضي هذا اليوم هناك و سأغادر متى شئت . فلن يشعر أحد بالراحة سوى حين ينام .
لم يكن يبعد منزلها عن مكان الحادث سوى بعض الشوارع . كانت تقطن شقة متوسطة الحجم , غير نظيفة , دخلنا فوجدت هرتها تجلس على الأريكة لا تتزحزح قيد أنملة و كانت تنظر نحوي في غيظ كالرجل ذات الندبة . كانت سمينة بيضاء , عيونها الخضراء تشبه الصبار , مغرية و مؤذية .
دخلت لتبدل ثيابها و أخبرتني أنني يجب أن أغتسل و أعطتني ثيابًا من عندها . دلفت إلى الحمام الصغير و تخلصت من ملابسي و وضعتها على حافة حوض الماء و أنزلت جسدي تحت شلال المياه الدافئ و أغمضت عيني فعاودت رؤية هذا الرجل العنيف و هو يجري نحوي , و خِفتُ ألا ينجلي من عقلي , فروّضته بلجام جسد الشقراء و وجهها الذي لا يشع سوى نورًا و تخيلتها معي تحت الماء . تمر الماء بين أجسادنا في عبث . نلتصق و لا نوُجد للفراغ مكانًا . كنت حينها أفكر , هل يكون هذا الالتحام بدافع الحب ؟ هل حين كنت أنام جوار العاهرة الروسية و أمرها أن تخبرني بالإنجليزية أنها تحبي و أنها تريدني أن أقبّلها ... هل حاجتي للحب أكثر إلحاحًا من حاجتي المؤقتة للمس جسدها العاري و تصوراتي المراهقة مغلوطة للجنس الآخر ؟
لعلها ليس معجبة بي من الأساس . هل هيأ لي أنها تتبسم لي ؟  و إن كان هذا صحيحًا , لِم قد تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تنتزعني من غفوتي و ارتباكي ؟
دائمًا ما تعبث داخلي اسئلة , سرعان ما تفتح لي أبواب لا تنغلق سوى بالإجابة المعروف لي ( لا أعرف ) . شيطانٌ فقط من قال أنه يعرف . لا أحد على دراية من أمره شيئًا . نقنع أنفسنا بما نريد الاقتناع به . نشبه من يشبهنا , نرفض أن نواجه أنفسنا بما يعيبنا . تمامًا مثلما أفعل الآن , ليت تلك الماء ينكر حقيقة قتل هذا الرجل البرئ !
ليت هناك ذنب يُغتفر , إنني لا أؤمن بقوى أعلى . أحسد هؤلاء المؤمنين بديانات سماوية , أحسد عباد البقر و الشمس ... أحسد من لقى في نفسه إلهًا كفرعون و الإسكندر الأكبر ابن آمون . أحسدهم لأنهم لديهم من يغفر لهم . من يخبروني أنفسهم أنه سيستقبلهم بالتوبة و المغفرة , أنا و شيطانهم سيان , لا يفرقني عنهم سوى سعيه المهدر في محاولة إرضاء من حوله ... إن صحت الرواية السخيفة . لِم قد يتلذذ إلههم بعقاب من عصاه و هو الأعلى شأنًا ؟  و إن كنا دمى يعبث بها القدر كيفما شاء , ما المتعة في مشاهدة ما رُسم مسبقًا ؟
فرغت من اغتسالي و خرجت محملًا بآثام السؤال دون صكوك غفران إجابات مُرضية . خرجت بعد أن ارتديت قميصًا و بنطال لا يناسباني مقاسي . قالت النادلة أنها تخص أحد الرجال الذين نامت معهم من يومين . فسألتها على الفور :
- و كيف خرج ؟
قالت و هي تضحك :
- بقميص و بنطال من جاء قبله .
فلم اهتم و جلست بجوار القط السمين الذي لا يزال صامتًا . فارغ النظرات , لا يبالِ , لا أخشى سوى أنه قد يعرف حقيقتي . حقيقة أنني متورط في جريمة , و قد أكون مرتكبها .
سألتني و قد ارتدت ثياب فضفاضة و شفافة تبرز ما وقر تحتها , لكني كنت مشتت الذهن , فلم تثيرني . سألتني :
- فلنخبر الشرطة .
قلت دون تفكير :
- لا طبعًا .
- و لِم لا ؟ أنت تقول أنك لم تقتله ... هل تكذب عليّ ؟
- نعم هذا ما اعتقده .
- لا يوجد هنا اعتقاد ... هناك حقيقة واحدة , أن هذا الرجل قد قتل  و لم ينتحر , و أنك لست قاتله . هذه هي القصة التي ستسردها للشرطة , أليس كذلك ؟
- بلى , لكنني رغم ذلك لست على يقين من ذلك .
- إذن , اسرد لي أين كنت قبل قدومك للحانة .
شرعت لأخبرها أني أعمل في أحد المتاجر الكبيرة في المدينة التي تعمل 24 ساعة في اليوم , طوال الأسبوع و عملي يبدأ من الثامنة مساءًا لانتهي في الرابعة صباحًا , ثم أعود أدراجي لأنام بعد مسيرة حوالي الساعة لأرفه عن نفسي , فليس لدي ما أقوم به غير ذلك . لست متزوجًا , فالزواج عندي إثم لا يغتفر و يولد هلاك لتلك البشرية التي ينبغي أن نضع حد لجرائمها في حق نفسها . لا أملك سوى تلفاز قديم , أعيش في شقة ورثتها عن أبي , أعيش مع سلحفاتي . فأنا لا أحب الكلاب و إن كانت وافية . السلحفاة هي أقرب الحيوانات إلى قلبي . ليس لدي دخل في حياة من حولي في العقار , أسكن متى يغادرون و أغادر متى يسكنون . أعشق كوني وحيدًا . دخلي يكفيني وحدي . لست شرهًا في الأكل و تتجلى شوهتي في الجنس . فلابد لي أن امارسه مع إحداهن في بيتي , على الأقل مرتين في الأسبوع و في الإجازات يكون الأسبوع مكتظًا و في أماكن مختلفة عبر المدينة أقصد بيوت العاهرات . لست من هواة الارتباط , فقط تنتهي العلاقة بيني و بين الفتاة مع آخر قبلة أطبعها على كتفها و أترك لها النقود على الطاولة و أذهب للحمام لاغتسل و أخبرها أن تخلي البيت قبل خروجي . لكنني كريم للغاية بالمناسبة . أنا نباتي لا أعشق سوى الجزر و الخيار . لست لأني أؤمن بحرمانية ذبح و تعذيب الحيوانات , لكني لا أحب اللحم و الدجاج . أنا أؤمن بشيء واحد : ألا أؤمن بشيء واحد . اتعامل مع الجميع على قدر من المساواة , لا بالعدل . فالعدل مفهوم لا يدعو للمساواة . اخبريني ما العدل في معاقبة مجرم ؟
تاهت فيما أقول و قالت بعد أن قطعت شرود ذهنها بسؤالي :
- أنه مجرم ... سارق ... قاتل ... مغتصب . ارتكب جريمة .
- هل سيكف حين توقع عليه عقوبة بمليون سنة حتى ؟
- هكذا اخبرونا .
ضحكت منها و أردفت قائلًا :
- سأكون صريحًا معكِ . كل ما يعنيني ألا أُعدم لذنب لم أقترفه ... على ما أظن .
- إن ظنك هذا هو ما سيجعلك تسكن المهالك .
كانت تعد الحساء لكلينا و قبلها وضعت للهرة المتكاسلة طعامًا و بجاوره إناء لبن بارد .
أخذت أشرب و أمسكت بالطبق في يدي و كان دافئًا لا بأس به و إن لم يكن ساخنًا بدرجة كافيًا و لكنه يفي بالغرض و على أي حال لم أكن جائعًا .
أخذت تخبرني عن حياتها و إن لم أكن مهتمًا , قائلة باهتمام و عيون تشع نشاطًا :
- ... بالإضافة إلى كوني أرملة و كنت أم لطفلة جميلة , أجهضتها بسبب إهمالي لنفسي . كان لابد لي أن اتخلص منها . فأنا كما قلت لم أكمل تعليمي , و لم أرَ بُدًا سوى أن اعمل كراقصة عارية و كان العمل لمن يحملن غير مسموح به في الملهى الذي اشتراه رجل أعمال سلوفاكي , شهير يمتلك نصف الملاهي في المدينة . كانت أشد اللحظات قسوة في حياتي . أن تفقد حتى الحق في الرفض , فإن أبديت رفضي سأموت , لن يقتلني مثل أفلام العصابات , بل كانت سيتركني حتى أموت . و تعرف أن في انتظار الموت , موت غير رحيم بالمرة ...
كانت ثرثارة . كنت حينها أفكر فيما سأفعل . ليتني امتلك من أمري شيئًا . سرت أبدي اهتمامًا خارجيًا و أهز رأسي موافقًا أحيانًا , متعاطفًا أحيانًا , بالكاد انصت لما تقول .
كنت أريد حساءً أخر , فاستأذنتها للذهاب للمطبخ لأضع المزيد . فلم تمانع . سألتني :
- هل توصلت إلي ما ستفعله ؟ رأيي أن الوقت حان للذهاب لمركز الشرطة . إن صحّ ما قلت فلن يتهموك . و لكن هروبك من هذا , لن يجعلك تعرف حقيقتك و لا حقيقة من يجري و يسعى للقبض عليه . لعله هو القاتل , ألم تفكر في هذا ؟ لم تشاهد تلك الندبة العميقة التي حفرت في وجهه العابس ؟ بالتأكيد أن الشرطة ستميل لروايتك إذا ما وصفت لهم هذا الرجل و لعل له سوابق جنائية .
فكرت و أنا أصب حساء الخضار المائل للأخضر بسبب كثرة وضعها للبزلاء التي لم تكن محببة لقلبي و لكن مع كل حبة بزلاء تنقذني قطع البطاطس بطعمها اللذيذ . سمعت وقع أقدام خلفي و فجأة ذراع ضخم و يدين تشبهنا رأس الطرقة تطبق على رأسي الصغير التافه . لم أسمعها تدوي صخبًا , لعله خدّرها , فهو كما تقول أشبه بالمجرمين . كان يقول بصوت يشبه زئير أسد غاضب من رعاياه في الغابة :
- لقد قتلته و ستقتل على يدي . لن أسمح لك أن تحيا هانئًا أبدًا .
كان أحاول أن أضربه برأسي و لكن كل ما أشاهده في التلفاز الصدئ لم يجدِ نفعًا . فكالعادة , لا يذيعون في التلفاز سوى ما يرضي الخيال , أما الواقع فلا يجب أن يكون ذو نهاية سعيدة . كنت أنادي بصوت زاعق :
- ياااا أنتِ .... ساعديني .... من تكون أيها الرجل ؟ لم أقتل أحدًا ؟
حاولت أن أصيبه بقدمي , فضرب بحذائه الضخم العظم الذي يربط بين ركبتي اليمنى و فخذتي . كنت أتوه و لكنه أخرسني بيده و إن تمكنت من التنفس بأنفي الصغير . كنت في يده كالأرنب في يد الساحر , كالأضحية التي تقدم للإله طلبًا لرحمته . نغسل أثامنا بالدماء ... يا لها من مفارقة !
في النهاية كدت أرى الظلام و أموت نهائيًا . لكنه تركني , و كانت الشقراء أمامي , تنظر إلي و تضحك ضحكة غربية ... و قالت لي و في يدها سكين ظننت أنها قتلت به المجرم :
- أنتَ المجرم , ستموت و أنت تظن هذا . لقد حملت لك الحقيقة . لقد قتلت زوجي و هو الجثة الهامدة في الشارع الآن . الحقيقة التي أمليها عليك هي المطلقة . لست مؤمنًا بشيئًا , فلتؤمن بشيءٍ واحد فقط , أن تؤمن بكل شيء . لن تجد في موتك حتى راحة .
غرست في بطني السكين في برود , و كان الرجل ذات الندبة يقيدني و لم اتمكن من الافلات :
- ألم ترد نهاية لذلك العبث ؟ لك هذا . و لكن هذه هي حقيقتك ... أنت قاتل , و ستظل . لقد أدعيت ما أدعيت , و لكن جسدك يأبى الكذب  كما يأبى الحياة الآن . سلامًا يا هذا ...
نشرة أخبار الخامسة عصرًا بعد هذا اليوم بشهرين :
( قبضت اليوم شرطة مدينتنا على السيدة م. مايلز البالغة من العمر 28 سنةً و عشيقها ب.مايكل المجرم الهارب من عقوبة بالحبس 15 سنة , بجريمة قتل سيدين , الأول و هو زوج المتهمة الأولى و الذي عُثر عليه مقتولًا في إحدى الأزقة و بتحريات من جميع الأجهزة تمكنا من التوصل إلى الجناة و بالتحقيق معهم , تبين أن هناك قتيل آخر ملقى جانب صندوق خشبي لا يبعد الكثير عن مكان الحادث بعدما شككنا أنه انتحر في بداية التحقيقات .... و أثبتت التحريات أن القتل بهدف الاستيلاء على حقيبة حملها الزوج المتهمة و كان يحمل بها تنازل كامل عن كافة ممتلكاته لابنته الوحيدة من زوجته المتوفاة و كان عشيق المتهمة قد ساعدها للايقاع و توريط الضحية الأخرى بإقحام بصماته على السكين المستخدم في الانتحار و قبلها عملية قتل الزوج ....)
 تبدو لكم القصة غير مقنعة ... حاولوا ألا تلقوا مصير هذا العابس الذي مات عبثًا و كفوا عن التفكير .