vendredi 30 novembre 2018

الحلاق المجنون



أُمسك بين يدايّ رواية لكافكا . اقرأ و أخذت عيوني المرهقة تشتكي حتى كادت تبكي . سواد يطوّق خيالي الخالي . الغرفة ضيقة . أثاث متناثر .. كرسي خشبي غير مريح متسمر أمام طاولة من الحديد المخلوط بنقش نحاسي بخس الثمن , تعلوه قشرة باهتة من الذهب . الكتب مراتصة كالهرم الأكبر فوق بعضها البعض . اللون الأسود يجعل عنوان الكتب مختلط عليّ . أمسك بين يداي رواية لكافكا . يقول المترجم في مقدمته عن الروائي , أنه مثلي , كان طفلًا يعاني من سلطة غاشمة . يضربه أبوه في غلظة و يعنّفه حتى لاذ كافكا بالفرار من الدنيا أخيرًا . لم يشارك المترجم شعور كافكا الذي أوصله لي . كان كافكا يصرخ طيلة الرواية , كالسجين . سجين في المطلق . لا يكف في كل سطر عن إزعاجي . هناك كتب أخرى لهامنجواي . تُرجم اسمه إلى هامنغواي . لا أرى فرقًا . على الناحية الأخرى من الغرفة , تجد كتب متناسقة الألوان متراصة كسور الصين العظيم . تسند بعضها البعض في قوة متناهية . كانت تلك الكتب تغري عيون من يزور غرفتي . تعمدتُ أن اعتني بألوانها خير عناية , فمن سيستعير مني كتاب لن يُجذب إلى كتبي سوداء الغلاف ككتب ديستوفيسكي أو أورويل . الغرفة بها دولاب . يكتظ فيه كتب بالية قديمة , أحرص أشد الحرص على اقتنائها . لن أبيعها , بل سأورثها لابني . أمسك بين يداي رواية لكافكا . سمحت لنفسي بنسخ جملة من الرواية التي اقرأها الآن ... أبحث عن قلم ... ليس لدي سوى هذا القلم فارغ الحب...
جئتُ بقلم جديد . بداية جديدة . سأكتب قصة الآن . سأحمل بين يداي رواية كافكا . أقلدّه . إنه يهوى الصخب . مزعج في روايته . واضح جدًا لحد الغموض . كاف.... إن القلم لا يعمل ... سأبدله الآن . سئمت العيش وحيدًا . لا أملك ابنًا . فقط أمسك رواية لكافكا بين يداي ...
طرق أحدهم باب غرفتي . صوت عذب يقرع الباب و يناديني باسمي ... فرانز . قمت من سريري الحديدي الذي جعل ظهري يشبه هضبة ملساء غير منتظمة . سمعته من هناك .
دخل فقال مباغتًا إياي :
- فرانز ... شاب , أصلع , عيونه خضراء , يملك شارب ملفوفة أطرافه , رث الثياب , تفوح منه رائحة نتنة اعتاد عليها من قلة خروجه من غرفته , طويل القامة , عيونه واسعة مخيفة تشبه نظرات الشيطان الغاضب , خجول , قنوع بما قُسم له , كاذب , لا يملك أسرة إلا أنه غير يتيم , الأب يكرهه , الأم تخاف الأب فتكرهك , ممل ... معتاد ... جبان ... ساخط للأبد .. فقير القلب .
من المفترض في القصة أن أقدم نفسي بنفسي , لكني إن فعلت ذلك سأكون غير منصف .
لن أخرج من غرفتي مهما كان . دخل هو بعدما يأس من إقناعي بالعكس . لم اسأله من هو .
أزاح الكتب السوداء و جلس قبالتي فأسندت رأسي للحائط و لم أعره انتباه و أخذت اقرأ , فسألني على الفور :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
( أخفيت الكتاب فجأة حين سمعت طرق الباب ... لم أجد أحدًا حين فتحته . ربما كان أحد الأطفال يعبث معي كعادتهم . عدتُ لأمسك بين يداي مذكراته ... )
فسألني من جديد :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
فما كان من هذا الشيطان إلا أنه دفعني لداخل الشقة . لم أجد نفسي إلا ملقى على الأرض و لكن لم يسقط من بين يداي الكتاب . كان يبدو على ملامحه الغضب مثلي . سألني :
- لِم هذا الكتاب ؟
- لأنه وقع بين يداي ...
- هل أخبرك قصة ؟
- لا أريد ...
صوته كان مزعجًا . كان صوته يؤرقني كصوت ضميري .
- إذن فلنفترض أني أعزف لك معزوفة لشوستاكوفيسكي ( والتز رقم 2 ) . تلك المقطوعة التي تعزف في بهو قصر بيرمنجهام و قصر فرساي . مقطوعة تسللت إلى أذن ملوك و أمراء غزوا العالم . امبراطور كنابليون يعشق الموسيقى . هوغو ينظم الشعر و كان شديد البراعة . ماذا كان يبرع فيه كافكا ؟ الموت ... حتى في هذا تفوق عليه الكثيرون .
- الخيال .
- كان خياله مزعج و كئيب سوداوي لدرجة مزعجة ... مثل جملتي تلك .
- هكذا كان يرى الدنيا . مثل نيتشه . فقد نالت منه أشد النيل .
مدّ لي يده ليساعدني على النهوض ثم سألني :
- لِم تقرأ له تحديدًا ؟
فرددت ببلاهة :
- و لِم لا ؟
- و لِم نعم ؟
فسألته في غيظ :
- لِم ترهق ذهني ؟
قال الشيطان بعدما وقفت على قدمي في وهن :
- لِم تسألني ؟ لِم فتحت لي من الأصل ؟
- لأنك طرقت الباب و قد خِفت أن تكسره , فيتهيأ لأي أحد أن باستطاعته الإقدام على احتلال هذا البيت , و سرقت ما تحوي غرفتي من كتب .
- قد تبني بعدما أكسره خيرًا منه .
- ليس عندي وقت . فأمامي ألوف الكتب مما لم اقرأها .
- هل يمكنك أن تتذكر أيّ مما قد قرأت ؟
فحاولت ثم نظرت نحوه :
- هناك قصة بعنوان ( الحلاق المجنون ) ... هل تريد سماعها ؟
صمت مقيم , كأننا بتنا في غابة فسيحة مهجورة , لا نسمع سوى حفيف أوراق الكتب بالداخل ...
( ما هذا كله ؟ ماذا يريد هذا المسخ أن يخبرني به  ... هل فعلًا هو مختل كما يقولون ؟ هل انتحر كما يُشاع أم أنه قتل ... ؟ تلك الشقة مريبة , سعرها المنخفض رغم وجودها في مدينة بارعة التألق كبراغ  ... في شارع كارلوفا ... الملتوي المؤدي إلى ميدان المدينة القديمة الذي أخذ شكل متوازي أضلاع مشوّه ... )
حدجني بنظرة يائسة فجأة حين لم أبدِ أي اهتمام بسماع تلك القصة . لقد تخشبت عظامي و تحول لساني لقطعة من رخام آلهة إغريقية دفنت في قاع محيط هادئ .  بعدما دفعني , أخبرني أنني قد تسببت بصمتي هذا في مقتله . لم أفهم و لم اسأل , فكان الجنون يخيم كسحب ديسمبر الثقيلة على عقلي . براغ حينها كانت صامتة . تنتظر مني أن استفهم فلم يكن بمقدوري استبعاد احتمال جنوني . لكن ما أدراني ... ماذا حلّ بي , إنها تلك اللحظة التي يتساوى فيها كل الناس , فلا تجد للجنون و التعقل وجود . إن عقلي بات مفتوحًا على مصرعيه مثل نوافذ غرفتي . شيءٌ ما يمنع إدراكي لتيقن ما إن كنت أحلُم أم أنني أهلوس . صوت مقطوعة أخرى , أوبرا تحكي ملحمة أوديب , عويل من هنا و هناك . أذني قد علق بها صوت الشيطان الذي خرج لتوه و تركني أكمل الورق . الآن الموسيقى تتسارع ... تجري جريان الدماء في عقلي الذي أخذ يستعيد همته و قلمي أخذ يجري على الورق الفارغ . وجداني حينها لم يكن موجودًا , سالت منه العاطفة حتى صُفيت كدماء البوهيميين في معركة الجبل الأبيض على أطراف مدينة براغ . أمسك بين يداي برواية لكافكا . لاستلقي بها على سريري , اقرأها و أنا في حيرة بين ماسأة , تهكمه عليها , صفحه عمن يؤذيه ,  سخطه المنصب على نفسه الهزيلة التي لا تبرأ ذاتها مما قد فعلته بها ظروف الحياة الطاحنة . فتشعر للحظة أنه يستحق ما آل إليه . الموسيقى لا تنقطع من المنزل . أخرجت رأسي من نافذة غرفتي و ما زال كافكا بين يداي . رأيته ... رأيت الشيطان من جديد . ينظر نحوي و في يده نصل يلمع كلمعان عيون آدم حين رأى الشجرة المحرمة . لا يحالفني الفضول اليوم , لكنني آثرت أن أعرف ماذا يحمل هذا الشيطان وراء عيون اللامعة الخادعة . جسدي يرتجف مثل الساعة الفلكية و لكنه كان خاشعًا مثل منحوتات الرسل الذين حملوا بعد المسيح آلامه . الشيطان ينتظرني في لهفة . سأنزل له الآن ... سأعود بعد قليل لأدون ما قاله لي ... لعل القلم يتحمل ما سيكتب .
( نزل فرانز و كانت الساعة الأولى بعد انتصاف الليل , براغ في العادة مدينة خائفة , كالمتحف لا يريد سوى زوار فلا يقطنه سوى من يعتني به و لا يتجرأ أن يعبث بإحدى محفوظاته . استيقظت من غفوته مع كافكا و لكنه لم يترك الكتاب , قطع جزءًا من آخر صفحة قرأها في الرواية ليعرف أين كان يقف .... حين رأه الشيطان ابتسم و أخذا الاثنان يتمشيان في ألفة غير مبررة , كأنهما أبرما هدنة مدى الحياة ... هدنة وقع عليها هابيل و شيطان قابيل ... آدم و إبليس ... رسل المسيح الاثني عشر مع الروم قبل عشائهم الأخير ... )
لقد أخبرني أننا سننزل من جديد ليريني متحف كافكا , الذي لم أكف عن التحدث عنه طيلة الليل . قال لي هذا الشيطان فجأة :
- سأدعك تكمل ما تحكيه لكن ألم أثر في نفسك الفضول لمعرفة قصة ( الحلاق المجنون ) ؟
قلت في وجل كطفل يحلم بقصة ساذجة خيالية ذات نهاية مرضية :
- طبعًا , لكني كنت أحمل بين يداي رواية لكافكا ... يمكنني الآن أن احمل عنك عناء إصرارك هذا و استمع في إنصات تام لقصة ...
كان كل ذرة أكسجين تحبس بين أنفي المتجمد ترفض الخروج حين انقبض وجه الشيطان . بدأ يحكي فإذ به يقول :
- في يومٍ ما , كان هناك حلاق يقطن تشيكيا , و تحديدًا تلك المدينة براغ خلال ولاية ردولف الثاني  , سعيدًا عكسك و عكسي . لديه مكانة إجتماعية متوسطة لكنها اتاحت له أن يحظى بحب الطبقة العليا من الناس و جشعه جعله يطمع في المزيد , فنال من قلب الورع الطموح و اختلس الطمع منه زهده بسبب أنه لم يكن يحصل على ما يكفيه منه مال ليصل إلى أوساط أغنياء حي المدينة القديمة . ففي يومٍ من الأيام , تعرف على خيميائي قرر وقتها أن يحلق له هذا الحلاق , كان هذا الخيميائي قد تمكن من إقناعه أنه بين ليلة و ضحاها سيغدو من أغنياء أوروبا كلها بل و العالم القديم بأسره . لمعت الفكرة في عقل هذا الحلاق فصفى أعماله و أغلق حانوته الذي يدر له دخلًا لا بأس به . حوّل منزله لمصنع لخلق الذهب . في بادئ الأمر , تمكن هذا الخيمائي و الحلاق من أن يحصلا على ذهبًا خالصًا بأساليب محفورة في مخطوطات غريبة الشكل قد آتى بها الخيميائي تشبه تعاويذ تحضير الجن و شياطين جحيم دانتي . بث هذا الرعب في قلوب بناته الثلاثة و امرأته , فلم يكن يقتنعن بما يفعله هذا الحلاق الخرف , الذي وقع على وثيقة تجعل منه عبدًا بصيغة ما للخيمائي . باع نفسه لشيطانه . سرق منهن كل ما يمتلكن في سبيل تحضير مزيد من الذهب , فلم تعد الصيغة تعمل كما كانت ذي قبل . حينها باع المنزل بناءً على تعليمات من الخيمائي طمعًا منهما أن يشتريا مخطوطات من بلاد الهند ستعينهما على تحضير الذهب , فعندما رفضت زوجته , سدد لها اللكمات حتى كاد يفقدها للأبد . باع المنزل , و طردهن منه و أعطى المال بأكمله للخيمائي و توسل إليه كالمدمنين ليرجع له ما فقد . لم يكن يعلم أنه حينها لم يعد يمتلك حتى نفسه ليبيعها . بعد مرور بعض الأيام , جاءه الخيمائي و أخبره أنه عليه التصرف في المزيد من المال , فمن سيعطيهم الصيغة النهائية يطلب منه نقودًا , و لم يستطع أن يناقشه في تلك المسألة فالمكسب الذي سيعود عليهما سيعوضه عما قد قامر به طيلة حياته و أزهقه . باع الحلاق زوجته و بناته الثلاثة في سوق النخاسة , بسعر زهيد و لكنه كان يفي بالغرض . الآن لم يعد يملك شيئًا , انتظر الحلاق الخيمائي في موعد قد حدده الأخير في شارع كارلوفا , و تحديدًا  أمام هذا المنزل . لم يظهر ذلك الخيمائي أبدًا , حتى جنُ جنون الحلاق , عندما علم انتحار زوجته و بناته من أعلى سور في براغ و انتهى بهن البؤس بدماء لازالت عالقة أسفل هذا الجسر ... شاهد الحلاق بناته ملقيات كقطط شاردة و زوجته بوجهها الأبيض تعبث بها غربان جائعة تنهش في جسدها الذي مزقه الزبائن في سوق الرقيق . رجع الحلاق بعد انتصاف الليل و في يده لا يحمل سوى نصله الحديدي الحاد , أخذ يطلب من المارة و عشاق المدينة يوميًا أن يعطوه ما يكفيه ليأكل ... كسرة خبز ... و مع الوقت لم يعد أحد يعطيه حتى الماء , فهزل جسده حتى بلغ مس منه شيطانه و شرع بنصله يؤذي كل من يتمشى في شارع كارلوفا . حتى بلغ عنه و جاءت مجموعة من قوات الشرطة و لقى نحبه على يديهم . ظلت عيونه رغم موته لا تنغلق , عيون شيطان متيقن من عذابه متلذذ بما فعل , ملقى على ظهره و ينظر إلى السماء في سكون ...
( حينها أخرج النصل الخاص به و أخذت أدقق فيه لأعرف ... أنه عرفني , عرف أنه أنا ... أنا الحلاق المجنون الذي قتله . فستجدني انتظرك كما انتظرته في شارع كارلوفا , فلن ترحل من ذلك الشارع دون أن اتملك روحك كما فعل الخيمائي معي ... ها أنا أكمل ما دونه هذا الشاب الساذج الحزين ... براغ سيدة ترتدي السواد لتبدو أنيقة لكن ما تظهره ليس سوى الجمال الذي يخفي ورائه شراهة الناظر و لهفة المنظور إليه ... )