lundi 10 décembre 2018

الصمت



يجلس ( عيسى ) أمام أخيه ( يحيى ) على طاولة منزلهما بعد أن باغت الموت أباهما و من قبله أمهما الضريرة . منزلهما الخشبي يقع وسط جزيرة تطل على المحيط الهندي . جزيرة لا يتعدى عدد سكانها المئات . كانا يمكثان في ليلة شتوية , سماء تمطر منذ فجر اليوم حتى المغيب . لم تطل الشمس فأنابت الريح عنها لتحرك ما تبقى من أوراق باردة ذابلة يتيمة فتسقط في الوحل. كان ( عيسى ) قد فرغ لتوه من إطعام حصانهما و حلب بقرتهما جيدًا و أخذ يضع الإناء على نار بحطب متقد لا ينطفئ داخل البيت , أما مهمة ( يحيى ) فكانت تقتصر على عصاه التي أدخل بها غنمه إلى الحظيرة بعد أن أطعمهم .اليوم لم يكف غلاف الأرض عن تسريب المياه , فاضطر أن يذهب بهم إلى مأوى . يؤنس الأخوان بعضهما , فلا يوجد جوارهما سوى بيت مهجور غادره سكانه بعدما توفيا في ظروف غامضة . دخل ( يحيى ) و في يده عصاه الخشبية المكسورة و بضع سمكات قد اصطادها . مكث على الأريكة بعد أن أغلق ورائه الباب و كانت الريح عنيدة كأنها ديك شركسي لا يرغب أن يلقى نحبه أمام غريمه على مرأى من المشاهدين الحمقى .
أخبر ( يحيى ) أخاه ( عيسى ) أنهما سيأكلان اليوم سمكتين مما قد اصطاد هو و بعد ذلك , سيتعين على ( عيسى ) أن يخرج ليتأكد من إغلاق باب الحظيرة في حين سيعتني ( يحيى ) باللبن قبل أن يغلي غليان دماء الشيطان لحظة توبة أحدهما . كانت حياتهما مقسمة بالعدل بينهما , اتفقا على أنهما لن يتزوجان , كان ذلك العهد مقدس بينهما . فقد رُبوا على كون المرأة هي السبب في الفتنة و سبب لعنة الإله لعبيده . كانت وصية والد ( عيسى ) و ( يحيى ) ألا يتخاصما يومًا و ألا يجعلا شيء يفرقهما أيًّا كانت ماهيته و أيًا ما كان السبب . أٌقسما الاثنان لوالدهما على تنفيذ تلك الوصية , و لكنه لم ينصت لهما حينئذ و ظلت عيونه باهتة تنظر إلى سقف المنزل الخشبي مذهولة حتى غفى غفوة أبدية .
كان الدفء يملأ قلبهما و يحيط المنزل من كل جانب . كل منهما أخذ ينظف بطن سمكته بيده و عيون ( يحيى ) مرتبصة بإناء اللبن حتى لا يفور كالبركان قبل فوات آوانه , أما ( عيسى ) فبعدما انتهى من إعداد سمكته , غرس قطعة ألومنيوم في عيون السمكة و تركها أعلى الحطب لتشوى , ثم شرع يرتدي سترة شتوية ليغلق باب الحظيرة منعًا لأي سرقة و يتأكد أن ماشيتهما في أمان و ينعمان بنوم هانئ .
خرج ( عيسى ) تاركًا ( يحيى ) لمهتمه . ظن ( يحيى ) أن أخاه سيطيل الوقت , فلم يلبث أن غادر أخوه حتى سمع طرقًا للباب في خفة تشبه سيمفونية دخول الجنة التي تعزف ابتهاجًا بسكانها الجدد . قام يحيى ليفتح , فإذ به يرى أحدهم يبتسم و يخبره متسائلًا :
- هل أزعجتك ؟
رد ببشاشة يحيى فقال :
- بالطبع لا , تفضل .
كان برد الشتاء قارسًا , فأدخل يحيى هذا الرجل ذا العباءة السوداء و الوجه الذي يشع نورًا كالقديسين . لم يكن حينها أول ما ورد إلى ذهنه أن يعرف من هذا الرجل الغريب . هل هو راهب ؟  لكن كل من على الجزيرة لا يهتم بمثل تلك الأشياء .  في جميع الحالات كرم الضيافة و حسن الاستقبال و سوء الطقس كانت هي العوامل التي ساعدت هذا الرجل بابتسامته غير المريحة ( و إن ألفها يحيى نفسه ) على الولوج إلى البيت مطمئنًا . فإذ بيحيى يجد اللبن على وشك الغليان و سمكة يحيى احترق منها جزءٌ , فتردد حين رأى الرجل يسمع أزيز الإناء و يخبره أن يبعد الإناء قبل أن يفور منه اللبن و يفسد كالسمكة . أجلس الرجل الأبيض ذا الرداء الأسود نفسه على كرسي وثير يتوسط الأريكة و كرسي آخر خشبي يترنح يخص أباهما    ( اتفقا أن يجلس أحدهما يومًا عليه و الآخر يتبعه في اليوم التالي كما أوصاهما أباهما ) . الأم لم توصِ بشيء , فهما لا يعرفان عنها منذ ولدا . صمم الأب ألا يخبرهما عنها , و ألح عليهما أن ينسياها فهي في مكانٍ آخر كما يقول .
هرع يحيى و أبعد اللبن عن النيران لكي يهدأ فلا يثور و رمى سمكة عيسى من النافذة سريعًا قبل أن يهجم عليه السقيع . ثم سأل يحيى الضيف :
- هل أصب لك بعض اللبن ؟
صمت قليلًا كأنه يفكر , ثم أجاب :
- يروقني ذوقك يا يحيى ...  شكرًا , فلست هنا لأشرب اللبن .
فوجدها فرصة جيدة ليعرف حقيقة هذا الضيف و ذلك الرداء الأسود . حينها كف المطر عن الهطول و أخذت الريح تدوي , فيجد الضيف الفرصة ليخبره بهدوء :
- أنا الموت ...
دفع عيسى بيده اليمنى الباب حاملًا في يده جبنًا . فإذ به يدهش بوجود أحدهم و تزداد دهشته حين يرى وجه أخاه مذهولًا . كان يحيى كالحطب يتأكل و النيران تنبعث منه لا تجد من يخمدها فتنهش في روحه ضباع التساؤل و الحيرة .
قطع عيسى ذلك الصمت المطلق و سأل الضيف :
- من تكون يا أنت ؟
رد الرجل و لم يغير حينها من ابتسامته :
- كما أخبرت أخاك يا عيسى ... أنا الموت , فلتظهر لي بعض الترحاب , فليس أمامك الكثير لتفعله . لقد حان وقت أحدهم هنا .
أغلق عيسى الباب بعنف و ضحك مقهقهًا , ثم توجه ناحية الكرسي الذي يجاور يحيى و الضيف , ثم قال :
-  ماذا ستحصد يا أنت ؟ أرواحنا ؟ بئسما تفعل . لسنا صيدًا ثمينًا كما تظن .
فقال الموت مباغتًا :
- إذًا , فأنت لا تريد الحياة . لا يبدو على وجهك الخوف . أظن أنني عثرت على من سيجعل مهمتي سهلة تلك المرة .
فُزع يحيى , فضرب بعصاه كموسى الذي شق البحر , ليعلن قائلًا :
- لا , لا أحد منا يخافك . نحن لم نكتفِ بعد من الحياة .
جلس عيسى و قلبه أخذ يخفق كفؤاد بلبل يتهاوى قبل ارتطامه بالأرض حتى لا يسمعه الموت , ثم توجه بكلامه للضيف و قرر أن يهينه فقال ساخرًا :
- هيئتُك تشبه الشيطان . لا تبدو لي كالموت . فالموت لا يبدو سخيفًا مثلك .
فسأله :
- أخبرني كيف يبدو لك ؟
- الموت لدي بائس . لا يشع نورًا بل يحصد من أرواحنا نورًا أولًا فيخمده بسائلٍ ما يشبه ملح المياه المائع ( كان يشير بسبابته نحو النافذة التي تطل على المحيط المفزع الذي شابه حينها روح يحيى يعلو مضطربًا و تتهاوى أمواجه التي كادت تصل أعنان السماء لكنها تسقط سقوط الملائكة بعد انتحارها ) , الموت لا يبتسم , الموت لا يأتي بغتة سوى في حوادث عارضة . الموت تائه , شريد , لا يجد من يؤنسه .
فتحولت الابتسامة الزائفة إلى وجه صارم ينصت في هدوء و ينتظر المزيد , فإذ بأخوه يحيى يكمل :
- إلم ترمي يا رجل من مجيئك إلى منزلنا الهادئ ؟
- إنه هدفي ... فأنا مثلكم عندي هدف . فإن لم يكن لي هدف , فماذا يثبت وجودي ؟
فانتبه يحيى لكلامه فسأله :
- هذا الهدف ليس من صنعك , لقد خُلقت به . فما الجدوى منه ؟
قال عيسى ليربك الموت متسائلًا :
- و أين ستذهب أرواحنا إن تركناك تسلبها ؟
أخبره على الفور :
- ليست الإجابة عندي ... فأنا هنا لأقبضها .
فخفت الهدوء في روح يحيى فقال :
- لن تأخذنا , فلم يحن موعدنا بعد . أمامنا الكثير لنحياه . الجزيرة مليئة بأناس ينتظرونك , فلِم لا تذهب إليهم ؟
رد عليه عيسى بدلًا من الضيف :
- لأنه لا يحب المباغتة . خسيس كالضبع , لا ينقض على فريسته بنبل , بل ينتظر حتى ينل حصته مما تبقى من أرواحنا .
كان الموت على وجهه علامات المتعة و في قبضة يده نردًا أخرجه لتوه , فأخذ ينظر لهما بعدما أخذا يتكلمان دون توقف , ظننًا منهما أنهما قد يخدعاه و يأخرانه . أخبرهما مقترحًا :
- ليس لي حاجة سوى بقبض روحًا واحدة من هذا المنزل , فهلا تعاونني على هذا ؟
بساذجة و طيبة سأله يحيى  :
- أي روح ستأخذها ؟
عيسى في سكون تام و هو يأرجح كرسيه و نظره متربص بالضيف , يقول :
- سنسلب نحن روحك .
أمعن الضيف النظر في عيسى , ثم انفجر ضحكًا ليقول ساخرًا :
- و من سيحل مكاني ؟ لنفكر سويًا ... هيا فكر يا يحيى , بدلًا من إخفاء الخوف البادي على روحك ! هل تظن أن عيسى قد يتمكن من إيلام أحدهم بحقيقة الموت ؟ فعلى حد علمي , و كما تقولون , أنا الحقيقة الوحيدة الموجودة في تلك الغرفة الآن .
صمت الجميع , ثم نظروا إلى الإناء الذي ينفث هواءً ساخنًا , فقال الموت لهما :
- هل تفضلون أن يختار هذا النرد من سيموت أم يضحي أحدكما لأخيه لينعم بحياة جديدة , يتزوج و ينجب و ينعم بمثل هذا المنزل و تلك الحظيرة الجميلة دون أن يقتسمها مع أحد ؟ الجوع ليس حاجة بل دعوة إلى رذيلة تدّعي العِفة . ما ألذ الطعام المقنّع بوجه العدل ! هذه آخر مرة ستتقاسمان فيها رأيًا , فحاولا أن يكون قراركما سديدًا .
قال يحيى مترددًا :
- لا يمكن لك أن تترك النرد يحكم بنهاية أحد , لأن هذا عبث لا يفسره سببٌ . الوصية تنص على أن نبقى سويًا . سنموت سويًا , هذا ما أوصانا به أبونا , لن ينل منا الموت سوى سويًا . لن يرى أحدنا العالم الآخر سوى مع أخيه . لن يحلم أحدنا بالآخر و يذهب لدجال الجزيرة ليفسر له هذا الحلم . لن نشك. سنعرف فقط حقيقة من كنا و من سنكون . لن تخيّرنا , فأنت نفسك لا تملك من أمرك شيئًا .
ضحك بثقة ثم توجه بلسانه ناظرًا نحو النيران و في يده النرد , ثم قام من جلسته فجأة و ألقى بالنرد في النيران لتلتهمه , ثم أخبرهم :
- إذن لن تدعا الحظ يحكم و ستتركون لنفسك الحق في تحديد مصيركما ؟
زعق عيسى و لكنه كان يمدد ذراعيه على الكرسي الخشبي الذي يتأرجح و لكنه كان يؤلمه بشدة و فوقه كان نور المصباح مضطربًا و إن ظل مسلطًا عليه , حتى يختلط على الناظر المشهد , فلا يعرف إن كان النور يشع من المصباح أم هو قادم من تحت رأسه الذي تتوّجه الشكوك , ليقول :
- الحظ هو الإنصاف بعينه . الظلم قد خمّر حكمك الذي لم يصدر بعد .
فلم يهتم الموت لما يُقال و سألهما :
- من يستحق أن يعيش منكما ؟
خاف يحيى و انطلق منه لسانه مباغتًا عيسى الممد على خشب الكرسي الذي حمله عن أبيه , فقال :
- أنا من أريد أن يعيش ...
بات بكلمة وحيدة خائن . فنظر إليه عيسى و أخذ يبكي فجأة , فأردف يحيى قائلًا في أسى و يأس :
- لا أريده أن يموت ... أرجوك , ليس عليّ أن اختار . أنا لا أخشى الموت , لكن هل تضمن لي أن هناك مكان ما ستحلق فيه روحي ؟
قال الموت عاجزًا :
- لا أضمن لك سوى النهاية . النهاية المُستَحقَة .
عيسى داهمهما فقال و قد خلع عن نفسه رداء التعفف :
- أنا أريد ألا أموت ... لا أرغب في إنهاء حياتي الآن . هناك أشياء , أريد أن أفعلها , أريد أن أغيّر هذا البيت من الخشب إلى الطوب , أريد أن أصمم مدفأة بدلًا من ذلك الحطب الذي سيأتي وقت و ينفذ من تلك الجزيرة . أريد أن أهاجر تلك الجزيرة , و أذهب لقرية , أريد أن أنعم بزوجة أعاشرها و أنجب أبناء يكترثون لأمري أكثر مما يكترث به أخي . لا يهمني ما سيؤول إليه الأمر حين أموت , لكن على الأقل , يجب أن يحيى ... جسدي ثم عقلي . حينها لن أتمرد عليك , حينها لن تحتاج لنرد لتقرر من منا يستحق الموت .
قال يحيى و هو في ثورة عارمة :
- الآن تنسحب و تهرب كالغنم . الآن تهرول قبل حتى أن تسمع صوت الضبع . صدقني أيها الضيف , اذهب به بعيدًا , فمثل تلك الحياة التي يرغب بها , لا يريد منها سوى لذة مؤقتة . اتركني أنا , فأنا أبحث عن خالقي , هل تعلم لِم بعثك الآن ؟ هل يريد مني لقاءه ؟
لم يجبه الموت , فسأله عيسى و هو يستعيد هدوءه بعدما ثار يحيى و أظهر ما أخفاه من نوايا ناحية أخيه :
- إن كان الرب موجود , فما حاجته بك ؟ ما حاجته بي ؟ ما حاجتك بنا ؟ هذا الهزل لا طائل منه .
فرد الضيف بثبات :
- لكنك لن تتمكن من نكران وجوده .
فقال عيسى :
- الرب عندي هو الصمت .
فسأله يحيى :
- لكن للصمت معانٍ جمة . فما هو نوعه ؟
رد الموت عليهما و عيونه تمتلئ بغيوم سوداء تنبعث من الحطب المحترق :
- قد يكون الصمت ... لا مبالاة . قد يكون أسى و شجن . قد يكون ثورة مكبوتة . قد يكون إشفاق لحالنا . قد يكون حتى هذا الصمت ... هو غياب الصمت نفسه . لكن هل يمكن أن تجمع بين علامة الاستفهام و الموت في سؤالٍ ما كما تفعل معي . أنا عن نفسي كادت تنال مني الشفقة رثاءً لحالكم , فالنزاع هذا منذ أن وطأت قدمكم أرض المعاصي وفي النهاية ... ستنعمون بصحبتي مهما حاولتم .
في يأسِ تام , أومأ عيسى برأسه :
- ستأخذني أنا ... فأنا أريد الحياة . أنا الآن ثمرتك المحرمة , ستأخذني لأنني أريد عكس ما ترغب أنت .
الموت بات مرتبكًا . لا يعرف روح من سيحصدها . تمنى لو أنه غير موجود . استغاث بربه فلم يسمع سوى الصمت . أخذ نور وجهه يخفت , أما المصباح فأخذ يشع نورًا خجولًا من فوق عيسى و النيران من خلف يحيى تتمايل برقة و تنهش في الحطب كصقر يهبط ليحلق بفريسته الجريحة . الريح لا تزال تدوي والصمت مطبق . صمتٌ لا يخالجه أزيز الإناء المتجمد الآن . صمت بيتهما يعبقه صمت البيت المهجور ...