lundi 15 novembre 2021

دفء في سقيع شتاء

 

لقد وصلت لتوي إلى غرفتي في ليلة باردة و دائما ما اسأل نفسي لِم الكتابة عندي مرتبطة بالشتاء و عند أغلب الكُتاب القريبين لوجداني , كان نجيب محفوظ لا يكتب سوى في شهور الشتاء و كأن مع كل قطرة ماء تهطل بروح مبدع الكون .

 إذا أخبر نفسك ... ماذا فعلت اليوم ؟ تبدو سعيدًا ... لِم لا تذكر نفسك بما أسعدك ؟
إنها قصة مثل حكايات الإمام يوم الجمعة عن الجنة , يخبرك فيها فتلمع عينك و يغمر قلبك شعور باللهفة .

 الغريب في الأمر , لِم تخفت أي شهوة عندي عندما يتحدثون عن الجنة و نعيمها ؟ لعل الأمر عندي فقط . عليّ أن انتهي من الفيلم الذي كنت بصدد إكماله لإرساله لشركة الإنتاج … لكن دعني أسرد لك كيف مضت تلك الليلة .

جانبني الحظ أنني لم التقِ بتلك الفتاة منذ سنة , لقد تقابلنا في القاهرة وقتما كنت في شركة الانتاج أعرض عليهم مسودة فيلم من تأليفي و قد اختلس اليأس شغفي من تكرار تلك المحاولة , لم اسأم من قدر المحاولات الفاشلة , قدر ما سأمت من كم الجمل التي فقدت معانها ( لا أحد يصل بسهولة , لابد من السعي و الله لا يكافئ شخصًا إلا إذا بذل فوق الجهد جهدًا ) .
تُدعى ( صافي ) , تعمل كعارضة و مصممة أزياء , جميلة و وجهها يشبه زهرة الفل النضرة و خصلات شعرها بين البني و الأسود , و العيون غارقة في الزرقة تشبه سماء المحيط الصافية . كانت هناك في مقر شركة الانتاج لتقوم باختبارات تمثيل لدور في فيلم قصير , و أثناء انتظاري في القاعة , لم يكن هناك سوى مقعدين أحدهم وثير – هو الذي جلست عليه – و الثاني يجاورني مباشرةً و لكنه كان كرسي خشبي يبدو غير مريح .

الوقت يسير ببطء , و السكرتيرة تمر أمام عيني و كلما سألتها متى سأدخل للمسؤول عن تقييم الفيلم و نتحدث في كامل التفاصيل و أنا أهمس لها , كان ردها ( أمهلني فقط خمسة دقائق ) , و كنت أمهلها أكثر مما تحتاج فلقد وجدتها مشغولة على الدوام , فأنا أمهل الحياة فرص لحين مماتي , فلِم لا أعير تلك السكرتيرة بعض الوقت . فالوقت عندي هو أكبر عدو لي , فأنه كالشبح لكنه لا يختفي في الغرفة المظلمة و لا يسكن في الأزقة القديمة أو العمارات العتيقة . إن الوقت هو ظلك , لا تهرب منه و لا يظهر سوى إذا سُلط عليك ضوءًا , الضوء يأتي من يأسك , فكلما يأست ... استضخم ظلك .

فلما مر وقتٌ ليس بقصير قررت أن أدخل لأشرب كوب ماء , فتركت المسودة و رحت لأغسل وجهي و استنشق بعض الهواء و دلفت إلى طرقة حيث يمكنني أن أدخن سيجارتي .

فإذ بي حين رجعت , وجدت صافي , تمسك بالمسودة و هي منهمكة , و قد قرأت عشرة صفحات تقريبا . و حين اقتربت منها , سألتها :

-       ليست سيئة , صحيح ؟

فردت متبسمة :

-       إن كانت سيئة , كنت سأضعها مع أول صفحة من السيناريو , ثم همست لي متسائلةً , هل فعلًا ستقدم هذه المسودة لشركة انتاج مثل هذه ؟

-       ما يجبر المرء على ارتكاب معصية سوى الاحتياج ؟

قالت لي :

-       هذا السطر بديع اكتبه في السيناريو , لكن ليس هكذا تسير الأمور. هل لك معارف في تلك الشركة ؟

-       زوج أختي , هو صديق صاحب الشركة .

-       إذًا لِم جئت من الأساس , مبروك العمل سيقبل .

بهذه الجملة فقد خدشت حائط كبريائي , فنظرت إليها :

-       لا أظن , إذا كان العمل رديء , سيُقبل مهما كانت الوساطة . و أنتِ بنفسك قرأتِ عشرة صفحات تقريبًا , فهذا يعني أنها نالت بعض من إعجابك .

-       لا تخطئ فهمي , يا ... – بعد ما نظرت لغلاف المسودة و قرأت اسمي – يامن , لقد قصدت أن تخطو خطوة بعيدًا عن الوساطة لتعرف فعلًا هل تستحق السيناريو النجاح أم لا.

-       حصل خير ... ثم صمتُ و تركتها لأشرب سيجارة أخرى بعد أن أخبرتني السكرتيرة بنفسها أني سأدخل بعد مودموذيل – هكذا نطقتها – صافي .

فإذ بي افكر فيما قالته لي بجدية , هل استحق تلك الفرصة أم جاءتني بسبب المعارف ؟ و جال بخاطري استحقاق الشخص لأي شيء , منصب , مال , سلطة , صحة ... لتتوقف تلك الاسئلة بإجابة _ تبدو مرضية – إن الله يقسم الرزق بيننا بعدل في الدنيا , بمقياس أدق من مقياس الذهب . فأخذت المسودة , و اعتذرت للسكرتيرة متذرعًا بأن الوقت قد داهمني و أن لدي موعد لا يمكن لي التأخر عنه و لم أتح لها الفرصة حتى الفرصة لكي تسألني عن ميعاد جديد .

رجعتُ , في طريقي إلى قهوة و كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءً , و برد الشتاء في القاهرة جعلني أرتجف و فؤادي لا يكف عن الخوف و قلبي عن الارتعاش .

هاتفي المحمول يرن في جيبي , و أنا أدلف في شارع جانبي لشوارع وسط البلد , فإذ بي أرد لأجد صوتها يقول لي :

-       أستاذ يامن صحيح ؟

-       نعم يا فندم , من معي ؟

-       أنا صافي , لقد رأيت تغادر المكان و لم استطع أن ألحق بك , و لا تسأل من أين جئت برقم هاتفك , بكل سهولة طلبته من السكرتيرة و أعطتني إياه دون أي تردد ... أردت فقط أن أعرف إذا كنت قد قررت الرحيل بسبب ما قلته لك .

-       هل أبدو لكِ بهذه السذاجة ؟ بالطبع لا , الأمر فقط أن عندي مشوار مهم و قد تأخر الوقت فخفت ألا أصل في موعدي .

-       هذا بالضبط ما أخبرتني به السكرتيرة . هل يمكن أن أطلب منك طلبًا يا أ.يامن ؟

-       بالتأكيد

-       أريد أن أكمل قراءة المسودة , فهل لي أن اقابلك و تعطيني نسخة منها اقرأها .

فإذ بي أخبرها أني في قهوة في وسط البلد , فلا ضير من أن تأتي الآن . فوافقت على الفور .

وجهي كان يلتقط الرياح يومها و يدي تستدفئ بالشاي و فمي يتذوق النعناع , فإذ بالرياح تتعطر برائحة صافي فبمجرد قربها مني , أعدلت من رأسي المنكب على المسودة لتعدلها قبل نسخها و إعطائها النسخة المطلوبة . فإذ بها تمد يدها بين راحتي اليمنى و تبتسم و تقول لي :

-       لم اتأخر , فصديق زوج أختك لم يعجبه تمثيلي .

-       لقد رفضوكِ ؟ فعلًا ؟ الصراحة , يبدو أنك ممثلة جيدة و لكن ...

-       لكن ماذا ؟

-       لا تبدين كالمتملقات ... ماذا تعملين و لِم أنتِ هنا أساسًا ؟

-       لقد عرفت من إحدى صديقاتي أن هناك تجارب أداء لدور في فيلم قصير فآتيت عسى أن أشق طريقي في هذا الفن . لكن عملي الأساسي , كمصممة أزياء و عارضة في بعض الأحيان .

-       هل أنتِ مهتمة بفن السينما في المطلق ؟

-       طبعًا , لهذا لم اتمكن من منع فضولي لأقرأ تلك المسودة . هل تعرف هذا الشعور ... أنا حين أمر ببائعي الكتب عند سور الأزبكية أو أيا من تلك المحلات الصغيرة الخاصة بالكتب , أشعر بشهوة ما لاقتناء تلك الكتب , لا لترصص بجانب بعضها بل ليلتهمها عقلي , لو كان الخلود له فائدة واحدة سيكون في أننا عندنا متسع من الوقت لنقرأ كل الكتب و نأتي بأساليب و تراكيب لغوية و أدبية جديدة .

-       تعصف بي تلك الفكرة كثيرًا , لكني حين أفكر في الأمر , الوقت عندي هو البوصلة , بوصلة للمعاناة , متى تبدأ متى تنتهي . تخيلي الحياة دون وقت ؟ الوقت اتخليه كالروح , لا نلمسه لكن نشعر بأثره . آثر الوقت في النسيان , أثره في الحب ... كلما طال تجدد و كلما قصر تبدد .

رأيت نفسي استرسل , فإذ بي اتوقف للحظة , واسألها : كم نسخة تريدين من المسودة ؟

فإذ بها تنفجر ضحكًا , و تخبرني :

-       لقد أبديت إعجابي بالمسودة لكنها لم تصبح من كلاسيكيات السينما بعد . فنسخة واحدة ستكفي .

 

و أنا في طريقي لأقرب محل لتصوير المستندات , جال عقلي بما تقوله عن الشهوة :

( لِم ترتبط الشهوة في عقلي بالجنس و الماديات فقط ... لِم لا اشتهيها حين تحدثت معي و أجعل الحديث ينقلب و تأتي معي لبيتي , فقد مر وقتًا ليس بقليل على آخر مرة أقمت علاقة مع أحد . أجد لذة مختلفة و سامية في التحدث معاها , لقد وجدتني أتفكر أكثر , في محادثة واحدة جال عقلي بعشرات الفِكر و أمام عيني شريط بمشاهد مختلفة من أفلام أعشقها تحدثت عن شغف الإنسان ... مثل جون لوك جودار و آنياس فاردا . و السير الذاتية لبروست و جان جاك روسو و جورج بايرك و قصص تولستوي الواقعية الأليمة و قصة المدينتين لديكنز ... كل تلك الفنون تبدو لي كفناء لي أنا و هي فقط ... )

( تعقيب من صافي على مسودة القصة بخط يميل للانحراف ليتبينه يامِن )

·      حين ذهبت , قلت في نفسي أنك أول من اعجبه بما قال أكثر مما يبدو , لم تكن تلفت نظري و كنت أكثر من العادي , لكن كلماتك جعلتني أريد أن أعرف ما يجول بخلدُك , و هذا الآثر الفعلي للفن , لا يوجد قبح في الفن , حتى القبيح مثل فن الجروتسك يقدم في قالب من شأنه أن يجعلك تثور أو يجعلك تصل لروحك الثقيلة و تطمنها كالطفل المذعور . كنت أشاهدك و أنت تتحدث و لا أرغب أن تنهي كلامك . لسبب ما وضع الله فيك من روحه نعمة الخلق .

رجعت من حيث آتيت , فسألتها :

-       أخبريني ماذا عليّ أن أفعل لكي أنفذ سيناريو مثل هذا ؟

قالت على الفور :

-       مبدأيًا , توثق المسودة لضمان حقوق الملكية الفكرية , و أكيد هذا شيء لا يفوت شخص متمرس مثلك . ثم تقوم بتأجير معدات للتصوير و أنا لدي صلات بمخرجين شباب موهوبين يمكنني أن أصلك بهم , لهذا السبب طلبت منك النسخة , ليس الفضول هو الدافع الوحيد , المخرج سيساعدك على تنفيذ السيناريو و المال ... إذا أعجبني هذا السيناريو , سأكون أن المنتج له و سنرسل الفيلم لمهرجانات عالمية و صدقني لو قُبل العمل و عرض في مهرجان خارج مصر , ستكون هذه بداية مبشرة . أنت في بداية المشوار صحيح ؟

-       صحيح , أنا 36 سنة و بدأت كتابة السيناريو منذ 2015 , هذا يعني حوالي 6 سنوات

-       و ماذا كنت تعمل قبل دخولك هذا المجال ؟

-       اعمل محامي .. خريج دفعة 2009 . لكني تركت العمل في المحاماة حينها كنت أعمل كمحامي صالة .

-       ألم يكن لديك مكتب ؟

-       كان مكتبي في صالة بيتنا .

-       لهذا تسمي نفسك محامي صالة .

ضحكت في أسى و قلت :
- محامي الصالة , يعني أنه محامي بلا موكلين , فقط يقتاد على الغرباء عن المحكمة و على من جاءوا للمحكمة لاستخراج حكم أو انجاز ورق إداري , و يأخذ ما فيه النصيب . هل تعرفين هؤلاء الشباب الكادحين الذي يقفون على ناصية الشارع و يستفسرون هل تريد بدلة يا أستاذ ؟ كم اتذكر نفسي في تلك الصالة الفسيحة لمجمع المحاكم , فكرت وقتها للحظة و أنا أقف أمام القاضي في جلسة إجرائية , في مفهوم المحاكمة , من يُحاسَب و من يُحاسِب ... خطر ببالي محكمة الموتى و هل ستكون الريشة أثقل من قلبي . و فجأة حينها تركت القاضي و القاعة بعد انقضاء الجلسة و قررت أنني لا أريد أن أموت إلا وأنا اكتب , فمنذ 2016 و أنا اكتب و تعلمت فن السيناريو في المعهد العالي للسينما , و كنت اعمل في نفس الوقت في محل فطاطري . 5 سنوات عند عم شندي الفطاطري , جعلتني أحب ذلك الرجل حبًا جمًا , حتى لقى وجه كريم فأغلق المحل بسبب تنازع الأخوة على ميراثهم . إنها كالعادة قصة الغيرة التي أودت بحياة الأخ , طالما سألت نفسي لِم لا نحاسب هابيل على أنه لم يكن حنون على أخيه حين رفض الله منه قربانه ؟ لِم هناك صراع في السينما كأحد أهم عناصر الفيلم , لم يحصل أن خرج الكثيرون عن تلك القاعدة و كأن الحياة خير و شر , موجب و سالب . و الأمر أنها ليست كذلك , اتخيل أن تصور دانتي في رحلته أكثر التصورات الأدبية عمقًا و دقة , فلم يكن هناك نار و جنة فقط ... بل كان هناك مطهر , كجسر يعبر فيه من في النار للجنة , و أردت أنا أن أجعله جسرًا للعكس , لكن حين فكرت فيها تذكرت كلمة أبي ( من شهد نعيم الجنة , لن تمسسه النار أبدًا ).  

كانت عيناها تبتسم و وجهها يخبرني أنها في ذروة نشوتها , فسكت قليلًا , فقالت :

-       لِم تكتب ؟ هذا سؤال يُسأل دومًا لأي كاتب مشهور , فهل تعرف ؟

-       لا أجد من يعبر عني سوى قلمي ... أي فن ... حقيقي .. يجب أن يكون له أبعاد كقطعة الكيوب , تلك الأبعاد تتداخل لتشكل و تنتج مفهوم مختلف . فأنا قد أقول لشخص (أحبك) , لكن حين أكتبها له سيختلف سياقها و معناها سيتطور بتطور فكر القارىء .

-       أظن من يكتب , لا يجب أن يكون له هدف سوى التعبير عن نفسه , فإذا أصبح الكتاب غير شخصي فلن يمس وجدان القارئ و لن نتمكن من تمييزه عن مقال عملي محايد . فكم أكره الحياد , أكرهه حتى في العلم , رغم أن قوانين الكون لو حادت عن كونها غير متغيرة كعلم الرياضات و ثوابت الفيزياء فسنفنى , لهذا العلم يبقى بقوانين أما الفن رغم ارتباطه بالواقعية أحيانًا فلا يمكن أن تجد قانون في السينما . أظن فن السيناريو نفسه الذي درسته بنفسك خير دليل على هذا . ستجد أدوات سرد مختلفة و أفلام يختفي منها الحوار و أفلام بلا أحداث و الحوار هو الحدث ... كذلك اللوحات , لا اتعجب من استغراب الناس لثمن اللوحات الباهظ , رغم أنها في عيونهم مجرد خطوط متعارضة لا يوجد بينها انسجام . ما يعطي تلك اللوحات قيمتها , هو مدى خصوبة اللوحة نقديًا , هل تعرف لِم الروايات الرمزية هي التي تحوذ على إعجاب النقاد ؟ لسبب بسيط لأنها مليئة بالتفسيرات و إن زادت بساطتها زاد تقدير الناس لها , و إن زاد التعقيد زاد تقدير النقاد لها .

حينها أدركت أنني أريد أن أسمع لها أكثر فكلماتها على مسامعي مقطوعة لا تتوقع أي حركة جديدة ستصدرها .

 

lundi 10 décembre 2018

الصمت



يجلس ( عيسى ) أمام أخيه ( يحيى ) على طاولة منزلهما بعد أن باغت الموت أباهما و من قبله أمهما الضريرة . منزلهما الخشبي يقع وسط جزيرة تطل على المحيط الهندي . جزيرة لا يتعدى عدد سكانها المئات . كانا يمكثان في ليلة شتوية , سماء تمطر منذ فجر اليوم حتى المغيب . لم تطل الشمس فأنابت الريح عنها لتحرك ما تبقى من أوراق باردة ذابلة يتيمة فتسقط في الوحل. كان ( عيسى ) قد فرغ لتوه من إطعام حصانهما و حلب بقرتهما جيدًا و أخذ يضع الإناء على نار بحطب متقد لا ينطفئ داخل البيت , أما مهمة ( يحيى ) فكانت تقتصر على عصاه التي أدخل بها غنمه إلى الحظيرة بعد أن أطعمهم .اليوم لم يكف غلاف الأرض عن تسريب المياه , فاضطر أن يذهب بهم إلى مأوى . يؤنس الأخوان بعضهما , فلا يوجد جوارهما سوى بيت مهجور غادره سكانه بعدما توفيا في ظروف غامضة . دخل ( يحيى ) و في يده عصاه الخشبية المكسورة و بضع سمكات قد اصطادها . مكث على الأريكة بعد أن أغلق ورائه الباب و كانت الريح عنيدة كأنها ديك شركسي لا يرغب أن يلقى نحبه أمام غريمه على مرأى من المشاهدين الحمقى .
أخبر ( يحيى ) أخاه ( عيسى ) أنهما سيأكلان اليوم سمكتين مما قد اصطاد هو و بعد ذلك , سيتعين على ( عيسى ) أن يخرج ليتأكد من إغلاق باب الحظيرة في حين سيعتني ( يحيى ) باللبن قبل أن يغلي غليان دماء الشيطان لحظة توبة أحدهما . كانت حياتهما مقسمة بالعدل بينهما , اتفقا على أنهما لن يتزوجان , كان ذلك العهد مقدس بينهما . فقد رُبوا على كون المرأة هي السبب في الفتنة و سبب لعنة الإله لعبيده . كانت وصية والد ( عيسى ) و ( يحيى ) ألا يتخاصما يومًا و ألا يجعلا شيء يفرقهما أيًّا كانت ماهيته و أيًا ما كان السبب . أٌقسما الاثنان لوالدهما على تنفيذ تلك الوصية , و لكنه لم ينصت لهما حينئذ و ظلت عيونه باهتة تنظر إلى سقف المنزل الخشبي مذهولة حتى غفى غفوة أبدية .
كان الدفء يملأ قلبهما و يحيط المنزل من كل جانب . كل منهما أخذ ينظف بطن سمكته بيده و عيون ( يحيى ) مرتبصة بإناء اللبن حتى لا يفور كالبركان قبل فوات آوانه , أما ( عيسى ) فبعدما انتهى من إعداد سمكته , غرس قطعة ألومنيوم في عيون السمكة و تركها أعلى الحطب لتشوى , ثم شرع يرتدي سترة شتوية ليغلق باب الحظيرة منعًا لأي سرقة و يتأكد أن ماشيتهما في أمان و ينعمان بنوم هانئ .
خرج ( عيسى ) تاركًا ( يحيى ) لمهتمه . ظن ( يحيى ) أن أخاه سيطيل الوقت , فلم يلبث أن غادر أخوه حتى سمع طرقًا للباب في خفة تشبه سيمفونية دخول الجنة التي تعزف ابتهاجًا بسكانها الجدد . قام يحيى ليفتح , فإذ به يرى أحدهم يبتسم و يخبره متسائلًا :
- هل أزعجتك ؟
رد ببشاشة يحيى فقال :
- بالطبع لا , تفضل .
كان برد الشتاء قارسًا , فأدخل يحيى هذا الرجل ذا العباءة السوداء و الوجه الذي يشع نورًا كالقديسين . لم يكن حينها أول ما ورد إلى ذهنه أن يعرف من هذا الرجل الغريب . هل هو راهب ؟  لكن كل من على الجزيرة لا يهتم بمثل تلك الأشياء .  في جميع الحالات كرم الضيافة و حسن الاستقبال و سوء الطقس كانت هي العوامل التي ساعدت هذا الرجل بابتسامته غير المريحة ( و إن ألفها يحيى نفسه ) على الولوج إلى البيت مطمئنًا . فإذ بيحيى يجد اللبن على وشك الغليان و سمكة يحيى احترق منها جزءٌ , فتردد حين رأى الرجل يسمع أزيز الإناء و يخبره أن يبعد الإناء قبل أن يفور منه اللبن و يفسد كالسمكة . أجلس الرجل الأبيض ذا الرداء الأسود نفسه على كرسي وثير يتوسط الأريكة و كرسي آخر خشبي يترنح يخص أباهما    ( اتفقا أن يجلس أحدهما يومًا عليه و الآخر يتبعه في اليوم التالي كما أوصاهما أباهما ) . الأم لم توصِ بشيء , فهما لا يعرفان عنها منذ ولدا . صمم الأب ألا يخبرهما عنها , و ألح عليهما أن ينسياها فهي في مكانٍ آخر كما يقول .
هرع يحيى و أبعد اللبن عن النيران لكي يهدأ فلا يثور و رمى سمكة عيسى من النافذة سريعًا قبل أن يهجم عليه السقيع . ثم سأل يحيى الضيف :
- هل أصب لك بعض اللبن ؟
صمت قليلًا كأنه يفكر , ثم أجاب :
- يروقني ذوقك يا يحيى ...  شكرًا , فلست هنا لأشرب اللبن .
فوجدها فرصة جيدة ليعرف حقيقة هذا الضيف و ذلك الرداء الأسود . حينها كف المطر عن الهطول و أخذت الريح تدوي , فيجد الضيف الفرصة ليخبره بهدوء :
- أنا الموت ...
دفع عيسى بيده اليمنى الباب حاملًا في يده جبنًا . فإذ به يدهش بوجود أحدهم و تزداد دهشته حين يرى وجه أخاه مذهولًا . كان يحيى كالحطب يتأكل و النيران تنبعث منه لا تجد من يخمدها فتنهش في روحه ضباع التساؤل و الحيرة .
قطع عيسى ذلك الصمت المطلق و سأل الضيف :
- من تكون يا أنت ؟
رد الرجل و لم يغير حينها من ابتسامته :
- كما أخبرت أخاك يا عيسى ... أنا الموت , فلتظهر لي بعض الترحاب , فليس أمامك الكثير لتفعله . لقد حان وقت أحدهم هنا .
أغلق عيسى الباب بعنف و ضحك مقهقهًا , ثم توجه ناحية الكرسي الذي يجاور يحيى و الضيف , ثم قال :
-  ماذا ستحصد يا أنت ؟ أرواحنا ؟ بئسما تفعل . لسنا صيدًا ثمينًا كما تظن .
فقال الموت مباغتًا :
- إذًا , فأنت لا تريد الحياة . لا يبدو على وجهك الخوف . أظن أنني عثرت على من سيجعل مهمتي سهلة تلك المرة .
فُزع يحيى , فضرب بعصاه كموسى الذي شق البحر , ليعلن قائلًا :
- لا , لا أحد منا يخافك . نحن لم نكتفِ بعد من الحياة .
جلس عيسى و قلبه أخذ يخفق كفؤاد بلبل يتهاوى قبل ارتطامه بالأرض حتى لا يسمعه الموت , ثم توجه بكلامه للضيف و قرر أن يهينه فقال ساخرًا :
- هيئتُك تشبه الشيطان . لا تبدو لي كالموت . فالموت لا يبدو سخيفًا مثلك .
فسأله :
- أخبرني كيف يبدو لك ؟
- الموت لدي بائس . لا يشع نورًا بل يحصد من أرواحنا نورًا أولًا فيخمده بسائلٍ ما يشبه ملح المياه المائع ( كان يشير بسبابته نحو النافذة التي تطل على المحيط المفزع الذي شابه حينها روح يحيى يعلو مضطربًا و تتهاوى أمواجه التي كادت تصل أعنان السماء لكنها تسقط سقوط الملائكة بعد انتحارها ) , الموت لا يبتسم , الموت لا يأتي بغتة سوى في حوادث عارضة . الموت تائه , شريد , لا يجد من يؤنسه .
فتحولت الابتسامة الزائفة إلى وجه صارم ينصت في هدوء و ينتظر المزيد , فإذ بأخوه يحيى يكمل :
- إلم ترمي يا رجل من مجيئك إلى منزلنا الهادئ ؟
- إنه هدفي ... فأنا مثلكم عندي هدف . فإن لم يكن لي هدف , فماذا يثبت وجودي ؟
فانتبه يحيى لكلامه فسأله :
- هذا الهدف ليس من صنعك , لقد خُلقت به . فما الجدوى منه ؟
قال عيسى ليربك الموت متسائلًا :
- و أين ستذهب أرواحنا إن تركناك تسلبها ؟
أخبره على الفور :
- ليست الإجابة عندي ... فأنا هنا لأقبضها .
فخفت الهدوء في روح يحيى فقال :
- لن تأخذنا , فلم يحن موعدنا بعد . أمامنا الكثير لنحياه . الجزيرة مليئة بأناس ينتظرونك , فلِم لا تذهب إليهم ؟
رد عليه عيسى بدلًا من الضيف :
- لأنه لا يحب المباغتة . خسيس كالضبع , لا ينقض على فريسته بنبل , بل ينتظر حتى ينل حصته مما تبقى من أرواحنا .
كان الموت على وجهه علامات المتعة و في قبضة يده نردًا أخرجه لتوه , فأخذ ينظر لهما بعدما أخذا يتكلمان دون توقف , ظننًا منهما أنهما قد يخدعاه و يأخرانه . أخبرهما مقترحًا :
- ليس لي حاجة سوى بقبض روحًا واحدة من هذا المنزل , فهلا تعاونني على هذا ؟
بساذجة و طيبة سأله يحيى  :
- أي روح ستأخذها ؟
عيسى في سكون تام و هو يأرجح كرسيه و نظره متربص بالضيف , يقول :
- سنسلب نحن روحك .
أمعن الضيف النظر في عيسى , ثم انفجر ضحكًا ليقول ساخرًا :
- و من سيحل مكاني ؟ لنفكر سويًا ... هيا فكر يا يحيى , بدلًا من إخفاء الخوف البادي على روحك ! هل تظن أن عيسى قد يتمكن من إيلام أحدهم بحقيقة الموت ؟ فعلى حد علمي , و كما تقولون , أنا الحقيقة الوحيدة الموجودة في تلك الغرفة الآن .
صمت الجميع , ثم نظروا إلى الإناء الذي ينفث هواءً ساخنًا , فقال الموت لهما :
- هل تفضلون أن يختار هذا النرد من سيموت أم يضحي أحدكما لأخيه لينعم بحياة جديدة , يتزوج و ينجب و ينعم بمثل هذا المنزل و تلك الحظيرة الجميلة دون أن يقتسمها مع أحد ؟ الجوع ليس حاجة بل دعوة إلى رذيلة تدّعي العِفة . ما ألذ الطعام المقنّع بوجه العدل ! هذه آخر مرة ستتقاسمان فيها رأيًا , فحاولا أن يكون قراركما سديدًا .
قال يحيى مترددًا :
- لا يمكن لك أن تترك النرد يحكم بنهاية أحد , لأن هذا عبث لا يفسره سببٌ . الوصية تنص على أن نبقى سويًا . سنموت سويًا , هذا ما أوصانا به أبونا , لن ينل منا الموت سوى سويًا . لن يرى أحدنا العالم الآخر سوى مع أخيه . لن يحلم أحدنا بالآخر و يذهب لدجال الجزيرة ليفسر له هذا الحلم . لن نشك. سنعرف فقط حقيقة من كنا و من سنكون . لن تخيّرنا , فأنت نفسك لا تملك من أمرك شيئًا .
ضحك بثقة ثم توجه بلسانه ناظرًا نحو النيران و في يده النرد , ثم قام من جلسته فجأة و ألقى بالنرد في النيران لتلتهمه , ثم أخبرهم :
- إذن لن تدعا الحظ يحكم و ستتركون لنفسك الحق في تحديد مصيركما ؟
زعق عيسى و لكنه كان يمدد ذراعيه على الكرسي الخشبي الذي يتأرجح و لكنه كان يؤلمه بشدة و فوقه كان نور المصباح مضطربًا و إن ظل مسلطًا عليه , حتى يختلط على الناظر المشهد , فلا يعرف إن كان النور يشع من المصباح أم هو قادم من تحت رأسه الذي تتوّجه الشكوك , ليقول :
- الحظ هو الإنصاف بعينه . الظلم قد خمّر حكمك الذي لم يصدر بعد .
فلم يهتم الموت لما يُقال و سألهما :
- من يستحق أن يعيش منكما ؟
خاف يحيى و انطلق منه لسانه مباغتًا عيسى الممد على خشب الكرسي الذي حمله عن أبيه , فقال :
- أنا من أريد أن يعيش ...
بات بكلمة وحيدة خائن . فنظر إليه عيسى و أخذ يبكي فجأة , فأردف يحيى قائلًا في أسى و يأس :
- لا أريده أن يموت ... أرجوك , ليس عليّ أن اختار . أنا لا أخشى الموت , لكن هل تضمن لي أن هناك مكان ما ستحلق فيه روحي ؟
قال الموت عاجزًا :
- لا أضمن لك سوى النهاية . النهاية المُستَحقَة .
عيسى داهمهما فقال و قد خلع عن نفسه رداء التعفف :
- أنا أريد ألا أموت ... لا أرغب في إنهاء حياتي الآن . هناك أشياء , أريد أن أفعلها , أريد أن أغيّر هذا البيت من الخشب إلى الطوب , أريد أن أصمم مدفأة بدلًا من ذلك الحطب الذي سيأتي وقت و ينفذ من تلك الجزيرة . أريد أن أهاجر تلك الجزيرة , و أذهب لقرية , أريد أن أنعم بزوجة أعاشرها و أنجب أبناء يكترثون لأمري أكثر مما يكترث به أخي . لا يهمني ما سيؤول إليه الأمر حين أموت , لكن على الأقل , يجب أن يحيى ... جسدي ثم عقلي . حينها لن أتمرد عليك , حينها لن تحتاج لنرد لتقرر من منا يستحق الموت .
قال يحيى و هو في ثورة عارمة :
- الآن تنسحب و تهرب كالغنم . الآن تهرول قبل حتى أن تسمع صوت الضبع . صدقني أيها الضيف , اذهب به بعيدًا , فمثل تلك الحياة التي يرغب بها , لا يريد منها سوى لذة مؤقتة . اتركني أنا , فأنا أبحث عن خالقي , هل تعلم لِم بعثك الآن ؟ هل يريد مني لقاءه ؟
لم يجبه الموت , فسأله عيسى و هو يستعيد هدوءه بعدما ثار يحيى و أظهر ما أخفاه من نوايا ناحية أخيه :
- إن كان الرب موجود , فما حاجته بك ؟ ما حاجته بي ؟ ما حاجتك بنا ؟ هذا الهزل لا طائل منه .
فرد الضيف بثبات :
- لكنك لن تتمكن من نكران وجوده .
فقال عيسى :
- الرب عندي هو الصمت .
فسأله يحيى :
- لكن للصمت معانٍ جمة . فما هو نوعه ؟
رد الموت عليهما و عيونه تمتلئ بغيوم سوداء تنبعث من الحطب المحترق :
- قد يكون الصمت ... لا مبالاة . قد يكون أسى و شجن . قد يكون ثورة مكبوتة . قد يكون إشفاق لحالنا . قد يكون حتى هذا الصمت ... هو غياب الصمت نفسه . لكن هل يمكن أن تجمع بين علامة الاستفهام و الموت في سؤالٍ ما كما تفعل معي . أنا عن نفسي كادت تنال مني الشفقة رثاءً لحالكم , فالنزاع هذا منذ أن وطأت قدمكم أرض المعاصي وفي النهاية ... ستنعمون بصحبتي مهما حاولتم .
في يأسِ تام , أومأ عيسى برأسه :
- ستأخذني أنا ... فأنا أريد الحياة . أنا الآن ثمرتك المحرمة , ستأخذني لأنني أريد عكس ما ترغب أنت .
الموت بات مرتبكًا . لا يعرف روح من سيحصدها . تمنى لو أنه غير موجود . استغاث بربه فلم يسمع سوى الصمت . أخذ نور وجهه يخفت , أما المصباح فأخذ يشع نورًا خجولًا من فوق عيسى و النيران من خلف يحيى تتمايل برقة و تنهش في الحطب كصقر يهبط ليحلق بفريسته الجريحة . الريح لا تزال تدوي والصمت مطبق . صمتٌ لا يخالجه أزيز الإناء المتجمد الآن . صمت بيتهما يعبقه صمت البيت المهجور ...

vendredi 30 novembre 2018

الحلاق المجنون



أُمسك بين يدايّ رواية لكافكا . اقرأ و أخذت عيوني المرهقة تشتكي حتى كادت تبكي . سواد يطوّق خيالي الخالي . الغرفة ضيقة . أثاث متناثر .. كرسي خشبي غير مريح متسمر أمام طاولة من الحديد المخلوط بنقش نحاسي بخس الثمن , تعلوه قشرة باهتة من الذهب . الكتب مراتصة كالهرم الأكبر فوق بعضها البعض . اللون الأسود يجعل عنوان الكتب مختلط عليّ . أمسك بين يداي رواية لكافكا . يقول المترجم في مقدمته عن الروائي , أنه مثلي , كان طفلًا يعاني من سلطة غاشمة . يضربه أبوه في غلظة و يعنّفه حتى لاذ كافكا بالفرار من الدنيا أخيرًا . لم يشارك المترجم شعور كافكا الذي أوصله لي . كان كافكا يصرخ طيلة الرواية , كالسجين . سجين في المطلق . لا يكف في كل سطر عن إزعاجي . هناك كتب أخرى لهامنجواي . تُرجم اسمه إلى هامنغواي . لا أرى فرقًا . على الناحية الأخرى من الغرفة , تجد كتب متناسقة الألوان متراصة كسور الصين العظيم . تسند بعضها البعض في قوة متناهية . كانت تلك الكتب تغري عيون من يزور غرفتي . تعمدتُ أن اعتني بألوانها خير عناية , فمن سيستعير مني كتاب لن يُجذب إلى كتبي سوداء الغلاف ككتب ديستوفيسكي أو أورويل . الغرفة بها دولاب . يكتظ فيه كتب بالية قديمة , أحرص أشد الحرص على اقتنائها . لن أبيعها , بل سأورثها لابني . أمسك بين يداي رواية لكافكا . سمحت لنفسي بنسخ جملة من الرواية التي اقرأها الآن ... أبحث عن قلم ... ليس لدي سوى هذا القلم فارغ الحب...
جئتُ بقلم جديد . بداية جديدة . سأكتب قصة الآن . سأحمل بين يداي رواية كافكا . أقلدّه . إنه يهوى الصخب . مزعج في روايته . واضح جدًا لحد الغموض . كاف.... إن القلم لا يعمل ... سأبدله الآن . سئمت العيش وحيدًا . لا أملك ابنًا . فقط أمسك رواية لكافكا بين يداي ...
طرق أحدهم باب غرفتي . صوت عذب يقرع الباب و يناديني باسمي ... فرانز . قمت من سريري الحديدي الذي جعل ظهري يشبه هضبة ملساء غير منتظمة . سمعته من هناك .
دخل فقال مباغتًا إياي :
- فرانز ... شاب , أصلع , عيونه خضراء , يملك شارب ملفوفة أطرافه , رث الثياب , تفوح منه رائحة نتنة اعتاد عليها من قلة خروجه من غرفته , طويل القامة , عيونه واسعة مخيفة تشبه نظرات الشيطان الغاضب , خجول , قنوع بما قُسم له , كاذب , لا يملك أسرة إلا أنه غير يتيم , الأب يكرهه , الأم تخاف الأب فتكرهك , ممل ... معتاد ... جبان ... ساخط للأبد .. فقير القلب .
من المفترض في القصة أن أقدم نفسي بنفسي , لكني إن فعلت ذلك سأكون غير منصف .
لن أخرج من غرفتي مهما كان . دخل هو بعدما يأس من إقناعي بالعكس . لم اسأله من هو .
أزاح الكتب السوداء و جلس قبالتي فأسندت رأسي للحائط و لم أعره انتباه و أخذت اقرأ , فسألني على الفور :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
( أخفيت الكتاب فجأة حين سمعت طرق الباب ... لم أجد أحدًا حين فتحته . ربما كان أحد الأطفال يعبث معي كعادتهم . عدتُ لأمسك بين يداي مذكراته ... )
فسألني من جديد :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
فما كان من هذا الشيطان إلا أنه دفعني لداخل الشقة . لم أجد نفسي إلا ملقى على الأرض و لكن لم يسقط من بين يداي الكتاب . كان يبدو على ملامحه الغضب مثلي . سألني :
- لِم هذا الكتاب ؟
- لأنه وقع بين يداي ...
- هل أخبرك قصة ؟
- لا أريد ...
صوته كان مزعجًا . كان صوته يؤرقني كصوت ضميري .
- إذن فلنفترض أني أعزف لك معزوفة لشوستاكوفيسكي ( والتز رقم 2 ) . تلك المقطوعة التي تعزف في بهو قصر بيرمنجهام و قصر فرساي . مقطوعة تسللت إلى أذن ملوك و أمراء غزوا العالم . امبراطور كنابليون يعشق الموسيقى . هوغو ينظم الشعر و كان شديد البراعة . ماذا كان يبرع فيه كافكا ؟ الموت ... حتى في هذا تفوق عليه الكثيرون .
- الخيال .
- كان خياله مزعج و كئيب سوداوي لدرجة مزعجة ... مثل جملتي تلك .
- هكذا كان يرى الدنيا . مثل نيتشه . فقد نالت منه أشد النيل .
مدّ لي يده ليساعدني على النهوض ثم سألني :
- لِم تقرأ له تحديدًا ؟
فرددت ببلاهة :
- و لِم لا ؟
- و لِم نعم ؟
فسألته في غيظ :
- لِم ترهق ذهني ؟
قال الشيطان بعدما وقفت على قدمي في وهن :
- لِم تسألني ؟ لِم فتحت لي من الأصل ؟
- لأنك طرقت الباب و قد خِفت أن تكسره , فيتهيأ لأي أحد أن باستطاعته الإقدام على احتلال هذا البيت , و سرقت ما تحوي غرفتي من كتب .
- قد تبني بعدما أكسره خيرًا منه .
- ليس عندي وقت . فأمامي ألوف الكتب مما لم اقرأها .
- هل يمكنك أن تتذكر أيّ مما قد قرأت ؟
فحاولت ثم نظرت نحوه :
- هناك قصة بعنوان ( الحلاق المجنون ) ... هل تريد سماعها ؟
صمت مقيم , كأننا بتنا في غابة فسيحة مهجورة , لا نسمع سوى حفيف أوراق الكتب بالداخل ...
( ما هذا كله ؟ ماذا يريد هذا المسخ أن يخبرني به  ... هل فعلًا هو مختل كما يقولون ؟ هل انتحر كما يُشاع أم أنه قتل ... ؟ تلك الشقة مريبة , سعرها المنخفض رغم وجودها في مدينة بارعة التألق كبراغ  ... في شارع كارلوفا ... الملتوي المؤدي إلى ميدان المدينة القديمة الذي أخذ شكل متوازي أضلاع مشوّه ... )
حدجني بنظرة يائسة فجأة حين لم أبدِ أي اهتمام بسماع تلك القصة . لقد تخشبت عظامي و تحول لساني لقطعة من رخام آلهة إغريقية دفنت في قاع محيط هادئ .  بعدما دفعني , أخبرني أنني قد تسببت بصمتي هذا في مقتله . لم أفهم و لم اسأل , فكان الجنون يخيم كسحب ديسمبر الثقيلة على عقلي . براغ حينها كانت صامتة . تنتظر مني أن استفهم فلم يكن بمقدوري استبعاد احتمال جنوني . لكن ما أدراني ... ماذا حلّ بي , إنها تلك اللحظة التي يتساوى فيها كل الناس , فلا تجد للجنون و التعقل وجود . إن عقلي بات مفتوحًا على مصرعيه مثل نوافذ غرفتي . شيءٌ ما يمنع إدراكي لتيقن ما إن كنت أحلُم أم أنني أهلوس . صوت مقطوعة أخرى , أوبرا تحكي ملحمة أوديب , عويل من هنا و هناك . أذني قد علق بها صوت الشيطان الذي خرج لتوه و تركني أكمل الورق . الآن الموسيقى تتسارع ... تجري جريان الدماء في عقلي الذي أخذ يستعيد همته و قلمي أخذ يجري على الورق الفارغ . وجداني حينها لم يكن موجودًا , سالت منه العاطفة حتى صُفيت كدماء البوهيميين في معركة الجبل الأبيض على أطراف مدينة براغ . أمسك بين يداي برواية لكافكا . لاستلقي بها على سريري , اقرأها و أنا في حيرة بين ماسأة , تهكمه عليها , صفحه عمن يؤذيه ,  سخطه المنصب على نفسه الهزيلة التي لا تبرأ ذاتها مما قد فعلته بها ظروف الحياة الطاحنة . فتشعر للحظة أنه يستحق ما آل إليه . الموسيقى لا تنقطع من المنزل . أخرجت رأسي من نافذة غرفتي و ما زال كافكا بين يداي . رأيته ... رأيت الشيطان من جديد . ينظر نحوي و في يده نصل يلمع كلمعان عيون آدم حين رأى الشجرة المحرمة . لا يحالفني الفضول اليوم , لكنني آثرت أن أعرف ماذا يحمل هذا الشيطان وراء عيون اللامعة الخادعة . جسدي يرتجف مثل الساعة الفلكية و لكنه كان خاشعًا مثل منحوتات الرسل الذين حملوا بعد المسيح آلامه . الشيطان ينتظرني في لهفة . سأنزل له الآن ... سأعود بعد قليل لأدون ما قاله لي ... لعل القلم يتحمل ما سيكتب .
( نزل فرانز و كانت الساعة الأولى بعد انتصاف الليل , براغ في العادة مدينة خائفة , كالمتحف لا يريد سوى زوار فلا يقطنه سوى من يعتني به و لا يتجرأ أن يعبث بإحدى محفوظاته . استيقظت من غفوته مع كافكا و لكنه لم يترك الكتاب , قطع جزءًا من آخر صفحة قرأها في الرواية ليعرف أين كان يقف .... حين رأه الشيطان ابتسم و أخذا الاثنان يتمشيان في ألفة غير مبررة , كأنهما أبرما هدنة مدى الحياة ... هدنة وقع عليها هابيل و شيطان قابيل ... آدم و إبليس ... رسل المسيح الاثني عشر مع الروم قبل عشائهم الأخير ... )
لقد أخبرني أننا سننزل من جديد ليريني متحف كافكا , الذي لم أكف عن التحدث عنه طيلة الليل . قال لي هذا الشيطان فجأة :
- سأدعك تكمل ما تحكيه لكن ألم أثر في نفسك الفضول لمعرفة قصة ( الحلاق المجنون ) ؟
قلت في وجل كطفل يحلم بقصة ساذجة خيالية ذات نهاية مرضية :
- طبعًا , لكني كنت أحمل بين يداي رواية لكافكا ... يمكنني الآن أن احمل عنك عناء إصرارك هذا و استمع في إنصات تام لقصة ...
كان كل ذرة أكسجين تحبس بين أنفي المتجمد ترفض الخروج حين انقبض وجه الشيطان . بدأ يحكي فإذ به يقول :
- في يومٍ ما , كان هناك حلاق يقطن تشيكيا , و تحديدًا تلك المدينة براغ خلال ولاية ردولف الثاني  , سعيدًا عكسك و عكسي . لديه مكانة إجتماعية متوسطة لكنها اتاحت له أن يحظى بحب الطبقة العليا من الناس و جشعه جعله يطمع في المزيد , فنال من قلب الورع الطموح و اختلس الطمع منه زهده بسبب أنه لم يكن يحصل على ما يكفيه منه مال ليصل إلى أوساط أغنياء حي المدينة القديمة . ففي يومٍ من الأيام , تعرف على خيميائي قرر وقتها أن يحلق له هذا الحلاق , كان هذا الخيميائي قد تمكن من إقناعه أنه بين ليلة و ضحاها سيغدو من أغنياء أوروبا كلها بل و العالم القديم بأسره . لمعت الفكرة في عقل هذا الحلاق فصفى أعماله و أغلق حانوته الذي يدر له دخلًا لا بأس به . حوّل منزله لمصنع لخلق الذهب . في بادئ الأمر , تمكن هذا الخيمائي و الحلاق من أن يحصلا على ذهبًا خالصًا بأساليب محفورة في مخطوطات غريبة الشكل قد آتى بها الخيميائي تشبه تعاويذ تحضير الجن و شياطين جحيم دانتي . بث هذا الرعب في قلوب بناته الثلاثة و امرأته , فلم يكن يقتنعن بما يفعله هذا الحلاق الخرف , الذي وقع على وثيقة تجعل منه عبدًا بصيغة ما للخيمائي . باع نفسه لشيطانه . سرق منهن كل ما يمتلكن في سبيل تحضير مزيد من الذهب , فلم تعد الصيغة تعمل كما كانت ذي قبل . حينها باع المنزل بناءً على تعليمات من الخيمائي طمعًا منهما أن يشتريا مخطوطات من بلاد الهند ستعينهما على تحضير الذهب , فعندما رفضت زوجته , سدد لها اللكمات حتى كاد يفقدها للأبد . باع المنزل , و طردهن منه و أعطى المال بأكمله للخيمائي و توسل إليه كالمدمنين ليرجع له ما فقد . لم يكن يعلم أنه حينها لم يعد يمتلك حتى نفسه ليبيعها . بعد مرور بعض الأيام , جاءه الخيمائي و أخبره أنه عليه التصرف في المزيد من المال , فمن سيعطيهم الصيغة النهائية يطلب منه نقودًا , و لم يستطع أن يناقشه في تلك المسألة فالمكسب الذي سيعود عليهما سيعوضه عما قد قامر به طيلة حياته و أزهقه . باع الحلاق زوجته و بناته الثلاثة في سوق النخاسة , بسعر زهيد و لكنه كان يفي بالغرض . الآن لم يعد يملك شيئًا , انتظر الحلاق الخيمائي في موعد قد حدده الأخير في شارع كارلوفا , و تحديدًا  أمام هذا المنزل . لم يظهر ذلك الخيمائي أبدًا , حتى جنُ جنون الحلاق , عندما علم انتحار زوجته و بناته من أعلى سور في براغ و انتهى بهن البؤس بدماء لازالت عالقة أسفل هذا الجسر ... شاهد الحلاق بناته ملقيات كقطط شاردة و زوجته بوجهها الأبيض تعبث بها غربان جائعة تنهش في جسدها الذي مزقه الزبائن في سوق الرقيق . رجع الحلاق بعد انتصاف الليل و في يده لا يحمل سوى نصله الحديدي الحاد , أخذ يطلب من المارة و عشاق المدينة يوميًا أن يعطوه ما يكفيه ليأكل ... كسرة خبز ... و مع الوقت لم يعد أحد يعطيه حتى الماء , فهزل جسده حتى بلغ مس منه شيطانه و شرع بنصله يؤذي كل من يتمشى في شارع كارلوفا . حتى بلغ عنه و جاءت مجموعة من قوات الشرطة و لقى نحبه على يديهم . ظلت عيونه رغم موته لا تنغلق , عيون شيطان متيقن من عذابه متلذذ بما فعل , ملقى على ظهره و ينظر إلى السماء في سكون ...
( حينها أخرج النصل الخاص به و أخذت أدقق فيه لأعرف ... أنه عرفني , عرف أنه أنا ... أنا الحلاق المجنون الذي قتله . فستجدني انتظرك كما انتظرته في شارع كارلوفا , فلن ترحل من ذلك الشارع دون أن اتملك روحك كما فعل الخيمائي معي ... ها أنا أكمل ما دونه هذا الشاب الساذج الحزين ... براغ سيدة ترتدي السواد لتبدو أنيقة لكن ما تظهره ليس سوى الجمال الذي يخفي ورائه شراهة الناظر و لهفة المنظور إليه ... )

dimanche 14 octobre 2018

لا أعرف !



إنها الخامسة صباحًا , وجدتُه ميتًا , مُلقى على بطنه كحيوان نافق  في إحدى الأزقة  , يعبث به كل من شاء . شتاء ببرد قارس و سماء ملبدة بغيوم متكاسلة ثقيلة , طريق مزدحم , صفارات الشرطة تحيط بأذني من كل اتجاه .
هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة باسئلتها . فغالبًا , الحقيقة هي القصة الأكثر إقناعًا .
ذهبت و صرت أسير , دون وجهة . اتذكر الآن , شكل الجثة . يخرج منها رائحة عفنة لا تقدر أنف بشر أن تتحملها . يحيطها بركة من الدماء اللزجة , المتجمدة . على الأرجح , لقد مات هذا الرجل منذ وقت ليس بالقليل . أمر الآن وسط وجوه لا تطالعني . أصبحت وحيدًا . للحظة أشك أني الجاني . لم يتملكني الجوع . أصبحت شرهًا لمعرفة الحقيقة , لكني خائف و للغاية . هل كان يخشى هذا الرجل الموت حين قُتل مثلي الآن ؟ ماذا يخشى الموتى بعد وفاتهم ... الجحيم ؟ و ماذا يخشى أهل الجحيم بعد نيران تعذيبهم ... الخلود ؟ و لِم لا نعتاد الخلود في العذاب ... إن كنا معذبين في الأرض أًصلًا ... عذابٍ عبثي ؟
بعد مسيرة نصف الساعة . دلفت إلى حانة , كانت يداي ترتعشان . كانت الحانة مكتظة بالناس , وجوه عابسة  مثل الصخور و الأشجار و الثلوج . كانت هناك فتاة حمقاء لا تكف عن النحيب , و ظل صوتها مزعجًا لحين غادرت  . و لكن مع الوقت , اعتادت أذني النحيب و تجاهلها عقلي . قفز إلى ذهني , أنني احتاج إلى كأسٍ من الخمر , أسدل به الستار على ما ممرت به لتوي . جلست فوجدتها أمامي , فتاة في الثلاثين , شقراء , مثقوبة حلقة أنفها , يلف الخلخال كعبيها , ترتدي بنطال رياضي أبيض مسطور على جانبيه خطين أسودين , و قميص يشف محاسنها . كانت براعة الحسن و عيونها تشع طاقة . صبت لي كأسًا فسألتني :
- هذا الوجه الذي ترتديه ... وجه خوف , لن يجعلك تستمتع بكأسك الأول .
فرمقتها بنظرة لا تنم عن شيء و قلت :
- لقد رأيتُ جثة نافقة لتوي ... في الزقاق المقابل .
فردت قائلة :
- هل أنت من قتلها ؟
فقلت :
- هل أبدو لكِ قاتلًا ؟
فشربت كأسي الأول و قالت و هي تصب كأسي الأول و كأسها الثاني :
- هل تظن أن القتلة تحمل أيديهم الدماء ؟ القاتل هو الشخص الوحيد الذي يملك يدين تشبه أيادي الملائكة .
- إذن فإنكِ تظنيين أنني فاعلها ؟
- لا يهم ما أظن , الأهم هو أنك واثق من حقيقة نفسك .
كان شيء ما بداخلي , يجعلني أريد أن أكمل حديثي معها . فخير من تحدثه , يكون من لا تتوقع من أين تأتي أفكاره .
شربت من الكأس قبل أن تشربه هي , فما إن انتهيت . ذهبت لتصب كؤوس أخرى .
كان يمكث جواري , شاب في مثل عمري , حوالي الأربعين . سألني :
- هل ستشاهد مباراة اليوم ؟
- لست من هواة الكرة . بوجهٍ شاحب و ذهن مضطرب أخبرته .
صمت للحظة و قال :
- حاول أن تجد فيها المتعة , صدقني هكذا هي الحياة . إنها قد لا تفهم لكن هناك سحر بها يأسرك و يوفر لك الدافع لمعرفة المزيد .
فجأة شعرت أن هناك شيءٌ مريب من حولي . لِم أشعر فجأة أنني محاط بفلاسفة و عرافين ... يرون ما لا أرى . هل رأوا الجثة المتعفنة ؟ كان هناك غصة في صدري . هذا السر لا أقدر أن أبوح به لهم , فقد يتهمونني أنني القاتل و بصمتي سأكون أنا القاتل الجبان أو المتذاكي الأحمق . ماذا أفعل الآن ؟
ما زال أمامي خيار أن  اتيقن من عدم ارتكابي لتلك الجريمة . هذا سيتم عبر تذكري أين كنت قبل الساعة المشؤومة .
لن أقدر أن أعود أدراجي الآن , فالزقاق يقع جوار منزلي . و إن عدت يجب أن أملك سيناريو محبك جيدًا في حال سألتني الشرطة .
بدأ رواد الحانة في الانصراف . كانت الفتاة المشغولة , تذهب و تجيء بين الفينة و الأخرى .
كنت أنا بمفردي , شربت حتى كدت أثمل . لا أثمل بسهولة بالمناسبة . امتلئت مثانتي و قررت أن أفرغ ما فيها .
الساعة على الحائط كانت الخامسة !
نظرت إلى ساعة يدي , فكانت العقارب متوقفة عند الخامسة .
دلفت إلى دورة المياه , كانت الرائحة كريهة لدرجة لا تحتمل , فالغائط يغطي أرضية الحمام . كانت الصنابير صدئة , يصعب فتحها , كحفرة المجاري يعبث فيها من القوارض من كل نوع كما شاءت .
هناك شيءٌ ما جعلني أدلف للداخل و أن اتحمل هذا كله . الفضول و الرغبة في المعرفة قد يدفع بنا إلى حافة جبل من جمر لا يكف عن الاشتعال .
دلفت و تقيأت ما في جوفي , ومن ظهري فجأة قبضت يد غليظة على رأسي المحشوة و عقلي الفارغ و أخذت تضربني بلا هوادة بعد أن أفقدتني الوعي . لم أقاوم , لم استطع ... لم أبالِ .
 بدأت عيوني في التفتح كزهرة خجولة تنظر لتلقى الفتاة الشقراء تحمل رأسي الدامية . كانت تبسم لي , و لم تبنث بكلمة , مدت لي يد العون حتى استقمت و شد عودي و سرت معها كطفل تخلص لتوه من الحبو . كانت ملابسي عفنة إثر الواقعة , اختلط بها البول مع فضلات البشر و بعض الطيور النافقة و لكن لم تتمكن مني الحشرات , إلا إذا نظر أحدهم إلى حالي سيرمقني بنظرة إشفاق و تقزز دون أدني شك .
كانت الحانة على وشك الإغلاق . أجلستني و أخبرتني أنها ستذهب لتعطني ثياب نظيفة و عليّ القدوم غدًا إعادتها لأنها تخص زميلها في العمل , الذي يبدأ عمله في العاشرة  من صباح الغد .
لم انتبه لما قالت و اكتفيت بتبديل ملابسي و لم انتبه إذا ما كان هناك من يراني أم أن الجميع قد رحل . فاختلس سواد عيوني نظرة دون إرادة مني , فلم أجد سواها في المكان . تركتني و راحت تنظف الطاولة المجاورة . قلت لها :
- هل رأيتي أحد يدلف إلى دورة المياه بعدي ؟
كانت منهمكة في عملها و يدها تعبث كما يتوجب عليها لتمسح الكراسي , لتخبرني بسخرية :
- دورة المياه مغلقة للإصلاحات . ألم ترى اللافتة ؟
فسألتها من جديد بلهجة بها بعض الحدة و الجدية :
- هل سمعتِ ما قلت ؟ اسألك ما إن رأيتِ أحدهم يدخل إلى تلك الغرفة القذرة بعدي ؟
نظرت إليّ فجأة و انقطع عملها و مالت نحوي بجذعها و بفمها المضموم و شفاهها الوردية التي اختطفت عيناي , قالت :
- لم يدخل بعدك سواك .
- إذًا أنا من ضربني على رأسي ؟ تظنيني مجنون ؟
- لا , لست هنا لأحكم . أنا هنا لأساعد إن طُلبت مني و أظن أن بارتادك تلك الملابس التي أعطيتها لك  , فإنك على ما يبدو تطلب المساعدة . على أي حال يا صديقي , كلنا بحاجة للمساعدة .

لم اتردد تلك المرة و فقبلت منها أن تمد إلي يد العون . كانت يدها خشنة تشبه أيادي عمال التراحيل أو رجال المناجم . لعلها تمتهن عملًا أخر غير تقديم كؤوس الخمر للزبائن في تلك الحانة الصغيرة القذرة .
قالت لي فجأة :
- لكن أولًا علينا التخلص من الفوضى التي أحدثتها
انقبض قلبي و راحت أنفي تتذكر رائحة العفن المختلطة بفضلات بني آدم و بعض الطيور النافقة , فسألتها على الفور :
- لا تعنين بهذا أننا سندخل لننظف دورة المياه , صحيح ؟
- بالطبع , لا . فتلك غير قابلة للنظافة , تمامًا مثل آثم أدم و شهوته المؤقتة التي نعاقب عليها حتى الآن .
لم أفهم ماذا تقصد . فإن كانت حينها تعني القصة السخيفة المذكورة في الكتب السماوية , فهذا لا يعنيني , فهذا لا يعنيني في شيء . أنا لا أؤمن بشيء . أؤمن فقط بكوني أشك في كل ما حولي . نظرت تجاهها و سررت لأنني لن أدخل تلك المقبرة من جديد و نبهتني أن أنظف مكان المقاعد و ألتقط بعصا خشبية في آخرها قطعة من الحديد , الزجاجات الصفيحية و أضعها في كيس أسود يشبه الكحل الذي تضعه حول عيونها الأسيوية الذابلة .
انحىى ظهري و شرعت بالعمل و خفت الخوف و إن لم يكف قلبي عن الخفقان . عيوني تراقب الأرض التي نال منها البلل و رائحة البيرة التي كانت تملئ فمي و إن لم تمس عقلي بسوء . كان عقلي مقدس , مهما شربت لا أغيب عن وعي و لو للحظة . تصورت أنها قد تغلق الباب خلفها و ستريني مفاتنها , فنظرات الإعجاب و سعيها لمساعدتي , خيّلا لي أنها فتنت لمظهري , رغم أنني كنت رث الثياب و رأسي تقطر منه دماء و إن كانت غير غزيرة و لكن مقززة . كنت أضغط عليها بمنديل و لا أكف عن الشرب حتى يحمي النبيذ الآلم . النبيذ كالحلم , يحميك من ضراوة واقعك , لكنه يفتك بك تو استيقاظك ليخبرك أن عليك تحمُل بدل الآلم آلام لا حصر لها .
انتهيت من دوري و عُدت أجلس على مقعد خشبي من البلاستيك مجاور للباب . كانت قد فرغت من عملها و أغلقت الحانة و اقتفت آثري و كانت قد سألتني عن مكان الجثة . لم يمر الكثير من الوقت و لكني لم أرد أن أعود ثانيةً , فعادت الساعة تدق في يدي و تخبرني أنها الساعة الخامسة صباحًا . ها هي الشمس تلوح في الأفق , و لكن كان الشارع ما زال مثل نفسي لا يكف عن الصمت .
ها نحن قد وصلنا ... رأيت الجثة ممددة على وجهها و لا يوجد آثر للشرطة . موت عبثي لشخص لا يآبه به أحدٌ في تلك المدينة المنشغلة ليل نهار .
سمعتُ من بعيد همس أحدهم , كان شابًا مفتول العضلات , يعاني من عرج بسيط , في وجهه ندبة كادت تصل بين عينه اليسرى و فتحة مناخره , كان أصلع و عيونه تشع غضبًا عندما رآني , لم أعرفه قط . لكنني كنت حينها أمام الجثة و لم أفقه من سبيلي سوى الهروب . كانت الشقراء تحاول أن تعثر على دليل واحد لتاريخ هذا الميت ... حافظة ... بطاقة شخصية ... أو حتى صورة له مع أحد أحبائه . لكن الوقت لم يسعفنا . فاشتد خوفي . كان يسير نحونا الرجل ذات الندبة و فجأة بدأ يهرول ناحيتي و أنا لا أفهم من هذا و لِم قد اختارني لتلك المطاردة . كان يهرول ورائي . كنت سيزيف بلا حجر , أهرول و لا التفت ورائي ... لاأريد أن انظر كأوديب ... لا أبالي كغريب كامو ... لكنني كنت خائفًا تمامًا رغم ذلك . لم أفكر أنني بصحبة إحداهن , نسيت و كدنا نفترق إلا أنها لم تسمح لي و رافقتني دون أن تعرفني . كنت ألهث كالكلب الضار الفار من شرطة الحيوانات الضالة . فجأة توقفت . أخذت اتنفس بصعوبة و كانت الجميلة تسألني عن هذا الشخص الذي فقد آثرنا بفضل الأزقة الضيقة و هذا الصندوق الخشبي الذي سمح لنا بالاختباء ورائه .
سألتني بعد ما تمالكت أعصابها :
- لِم يسع هذا الرجل خلفك ؟
- لا أعرفه ... صدقيني .
- لا تعرف ؟ إذن لِم هرولت ؟
- لأنه كما كنت ترين , يسعى ورائي .
- و لِم يسعَ المرء وراء شيء في ظنَك ؟
- لأنه يريده .
- و لِم قد يريدك ؟
- لا أعرف . لعل يريد قتلي .
- كيف لي أن اتيقن من هذا ؟
- لن يمكنك سوى تصديقي .
- لا استطيع .
- إذن عودي من حيث جئتِ .
- لا أريد . فهناك في داخلي ما يدعوني لتصديقك . لكن ماذا سنفعل الآن ؟
- لا أعرف ... لتفكري أنتِ .
- ألستُ أنتَ القاتل ؟ ألا تتذكر من الحادث شيئًا ؟
- أقسم لكِ بكل ما أوتيت من صحة , أنني لا يمكنني حتى أن أقتل الآلم بداخلي , فكيف لي أن اقتل شخصًا لم أره قط .
أخبرتني أن أسير نحو منزلها , فمنزلي ليس بأمان بالتأكيد الآن . سأقضي هذا اليوم هناك و سأغادر متى شئت . فلن يشعر أحد بالراحة سوى حين ينام .
لم يكن يبعد منزلها عن مكان الحادث سوى بعض الشوارع . كانت تقطن شقة متوسطة الحجم , غير نظيفة , دخلنا فوجدت هرتها تجلس على الأريكة لا تتزحزح قيد أنملة و كانت تنظر نحوي في غيظ كالرجل ذات الندبة . كانت سمينة بيضاء , عيونها الخضراء تشبه الصبار , مغرية و مؤذية .
دخلت لتبدل ثيابها و أخبرتني أنني يجب أن أغتسل و أعطتني ثيابًا من عندها . دلفت إلى الحمام الصغير و تخلصت من ملابسي و وضعتها على حافة حوض الماء و أنزلت جسدي تحت شلال المياه الدافئ و أغمضت عيني فعاودت رؤية هذا الرجل العنيف و هو يجري نحوي , و خِفتُ ألا ينجلي من عقلي , فروّضته بلجام جسد الشقراء و وجهها الذي لا يشع سوى نورًا و تخيلتها معي تحت الماء . تمر الماء بين أجسادنا في عبث . نلتصق و لا نوُجد للفراغ مكانًا . كنت حينها أفكر , هل يكون هذا الالتحام بدافع الحب ؟ هل حين كنت أنام جوار العاهرة الروسية و أمرها أن تخبرني بالإنجليزية أنها تحبي و أنها تريدني أن أقبّلها ... هل حاجتي للحب أكثر إلحاحًا من حاجتي المؤقتة للمس جسدها العاري و تصوراتي المراهقة مغلوطة للجنس الآخر ؟
لعلها ليس معجبة بي من الأساس . هل هيأ لي أنها تتبسم لي ؟  و إن كان هذا صحيحًا , لِم قد تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تنتزعني من غفوتي و ارتباكي ؟
دائمًا ما تعبث داخلي اسئلة , سرعان ما تفتح لي أبواب لا تنغلق سوى بالإجابة المعروف لي ( لا أعرف ) . شيطانٌ فقط من قال أنه يعرف . لا أحد على دراية من أمره شيئًا . نقنع أنفسنا بما نريد الاقتناع به . نشبه من يشبهنا , نرفض أن نواجه أنفسنا بما يعيبنا . تمامًا مثلما أفعل الآن , ليت تلك الماء ينكر حقيقة قتل هذا الرجل البرئ !
ليت هناك ذنب يُغتفر , إنني لا أؤمن بقوى أعلى . أحسد هؤلاء المؤمنين بديانات سماوية , أحسد عباد البقر و الشمس ... أحسد من لقى في نفسه إلهًا كفرعون و الإسكندر الأكبر ابن آمون . أحسدهم لأنهم لديهم من يغفر لهم . من يخبروني أنفسهم أنه سيستقبلهم بالتوبة و المغفرة , أنا و شيطانهم سيان , لا يفرقني عنهم سوى سعيه المهدر في محاولة إرضاء من حوله ... إن صحت الرواية السخيفة . لِم قد يتلذذ إلههم بعقاب من عصاه و هو الأعلى شأنًا ؟  و إن كنا دمى يعبث بها القدر كيفما شاء , ما المتعة في مشاهدة ما رُسم مسبقًا ؟
فرغت من اغتسالي و خرجت محملًا بآثام السؤال دون صكوك غفران إجابات مُرضية . خرجت بعد أن ارتديت قميصًا و بنطال لا يناسباني مقاسي . قالت النادلة أنها تخص أحد الرجال الذين نامت معهم من يومين . فسألتها على الفور :
- و كيف خرج ؟
قالت و هي تضحك :
- بقميص و بنطال من جاء قبله .
فلم اهتم و جلست بجوار القط السمين الذي لا يزال صامتًا . فارغ النظرات , لا يبالِ , لا أخشى سوى أنه قد يعرف حقيقتي . حقيقة أنني متورط في جريمة , و قد أكون مرتكبها .
سألتني و قد ارتدت ثياب فضفاضة و شفافة تبرز ما وقر تحتها , لكني كنت مشتت الذهن , فلم تثيرني . سألتني :
- فلنخبر الشرطة .
قلت دون تفكير :
- لا طبعًا .
- و لِم لا ؟ أنت تقول أنك لم تقتله ... هل تكذب عليّ ؟
- نعم هذا ما اعتقده .
- لا يوجد هنا اعتقاد ... هناك حقيقة واحدة , أن هذا الرجل قد قتل  و لم ينتحر , و أنك لست قاتله . هذه هي القصة التي ستسردها للشرطة , أليس كذلك ؟
- بلى , لكنني رغم ذلك لست على يقين من ذلك .
- إذن , اسرد لي أين كنت قبل قدومك للحانة .
شرعت لأخبرها أني أعمل في أحد المتاجر الكبيرة في المدينة التي تعمل 24 ساعة في اليوم , طوال الأسبوع و عملي يبدأ من الثامنة مساءًا لانتهي في الرابعة صباحًا , ثم أعود أدراجي لأنام بعد مسيرة حوالي الساعة لأرفه عن نفسي , فليس لدي ما أقوم به غير ذلك . لست متزوجًا , فالزواج عندي إثم لا يغتفر و يولد هلاك لتلك البشرية التي ينبغي أن نضع حد لجرائمها في حق نفسها . لا أملك سوى تلفاز قديم , أعيش في شقة ورثتها عن أبي , أعيش مع سلحفاتي . فأنا لا أحب الكلاب و إن كانت وافية . السلحفاة هي أقرب الحيوانات إلى قلبي . ليس لدي دخل في حياة من حولي في العقار , أسكن متى يغادرون و أغادر متى يسكنون . أعشق كوني وحيدًا . دخلي يكفيني وحدي . لست شرهًا في الأكل و تتجلى شوهتي في الجنس . فلابد لي أن امارسه مع إحداهن في بيتي , على الأقل مرتين في الأسبوع و في الإجازات يكون الأسبوع مكتظًا و في أماكن مختلفة عبر المدينة أقصد بيوت العاهرات . لست من هواة الارتباط , فقط تنتهي العلاقة بيني و بين الفتاة مع آخر قبلة أطبعها على كتفها و أترك لها النقود على الطاولة و أذهب للحمام لاغتسل و أخبرها أن تخلي البيت قبل خروجي . لكنني كريم للغاية بالمناسبة . أنا نباتي لا أعشق سوى الجزر و الخيار . لست لأني أؤمن بحرمانية ذبح و تعذيب الحيوانات , لكني لا أحب اللحم و الدجاج . أنا أؤمن بشيء واحد : ألا أؤمن بشيء واحد . اتعامل مع الجميع على قدر من المساواة , لا بالعدل . فالعدل مفهوم لا يدعو للمساواة . اخبريني ما العدل في معاقبة مجرم ؟
تاهت فيما أقول و قالت بعد أن قطعت شرود ذهنها بسؤالي :
- أنه مجرم ... سارق ... قاتل ... مغتصب . ارتكب جريمة .
- هل سيكف حين توقع عليه عقوبة بمليون سنة حتى ؟
- هكذا اخبرونا .
ضحكت منها و أردفت قائلًا :
- سأكون صريحًا معكِ . كل ما يعنيني ألا أُعدم لذنب لم أقترفه ... على ما أظن .
- إن ظنك هذا هو ما سيجعلك تسكن المهالك .
كانت تعد الحساء لكلينا و قبلها وضعت للهرة المتكاسلة طعامًا و بجاوره إناء لبن بارد .
أخذت أشرب و أمسكت بالطبق في يدي و كان دافئًا لا بأس به و إن لم يكن ساخنًا بدرجة كافيًا و لكنه يفي بالغرض و على أي حال لم أكن جائعًا .
أخذت تخبرني عن حياتها و إن لم أكن مهتمًا , قائلة باهتمام و عيون تشع نشاطًا :
- ... بالإضافة إلى كوني أرملة و كنت أم لطفلة جميلة , أجهضتها بسبب إهمالي لنفسي . كان لابد لي أن اتخلص منها . فأنا كما قلت لم أكمل تعليمي , و لم أرَ بُدًا سوى أن اعمل كراقصة عارية و كان العمل لمن يحملن غير مسموح به في الملهى الذي اشتراه رجل أعمال سلوفاكي , شهير يمتلك نصف الملاهي في المدينة . كانت أشد اللحظات قسوة في حياتي . أن تفقد حتى الحق في الرفض , فإن أبديت رفضي سأموت , لن يقتلني مثل أفلام العصابات , بل كانت سيتركني حتى أموت . و تعرف أن في انتظار الموت , موت غير رحيم بالمرة ...
كانت ثرثارة . كنت حينها أفكر فيما سأفعل . ليتني امتلك من أمري شيئًا . سرت أبدي اهتمامًا خارجيًا و أهز رأسي موافقًا أحيانًا , متعاطفًا أحيانًا , بالكاد انصت لما تقول .
كنت أريد حساءً أخر , فاستأذنتها للذهاب للمطبخ لأضع المزيد . فلم تمانع . سألتني :
- هل توصلت إلي ما ستفعله ؟ رأيي أن الوقت حان للذهاب لمركز الشرطة . إن صحّ ما قلت فلن يتهموك . و لكن هروبك من هذا , لن يجعلك تعرف حقيقتك و لا حقيقة من يجري و يسعى للقبض عليه . لعله هو القاتل , ألم تفكر في هذا ؟ لم تشاهد تلك الندبة العميقة التي حفرت في وجهه العابس ؟ بالتأكيد أن الشرطة ستميل لروايتك إذا ما وصفت لهم هذا الرجل و لعل له سوابق جنائية .
فكرت و أنا أصب حساء الخضار المائل للأخضر بسبب كثرة وضعها للبزلاء التي لم تكن محببة لقلبي و لكن مع كل حبة بزلاء تنقذني قطع البطاطس بطعمها اللذيذ . سمعت وقع أقدام خلفي و فجأة ذراع ضخم و يدين تشبهنا رأس الطرقة تطبق على رأسي الصغير التافه . لم أسمعها تدوي صخبًا , لعله خدّرها , فهو كما تقول أشبه بالمجرمين . كان يقول بصوت يشبه زئير أسد غاضب من رعاياه في الغابة :
- لقد قتلته و ستقتل على يدي . لن أسمح لك أن تحيا هانئًا أبدًا .
كان أحاول أن أضربه برأسي و لكن كل ما أشاهده في التلفاز الصدئ لم يجدِ نفعًا . فكالعادة , لا يذيعون في التلفاز سوى ما يرضي الخيال , أما الواقع فلا يجب أن يكون ذو نهاية سعيدة . كنت أنادي بصوت زاعق :
- ياااا أنتِ .... ساعديني .... من تكون أيها الرجل ؟ لم أقتل أحدًا ؟
حاولت أن أصيبه بقدمي , فضرب بحذائه الضخم العظم الذي يربط بين ركبتي اليمنى و فخذتي . كنت أتوه و لكنه أخرسني بيده و إن تمكنت من التنفس بأنفي الصغير . كنت في يده كالأرنب في يد الساحر , كالأضحية التي تقدم للإله طلبًا لرحمته . نغسل أثامنا بالدماء ... يا لها من مفارقة !
في النهاية كدت أرى الظلام و أموت نهائيًا . لكنه تركني , و كانت الشقراء أمامي , تنظر إلي و تضحك ضحكة غربية ... و قالت لي و في يدها سكين ظننت أنها قتلت به المجرم :
- أنتَ المجرم , ستموت و أنت تظن هذا . لقد حملت لك الحقيقة . لقد قتلت زوجي و هو الجثة الهامدة في الشارع الآن . الحقيقة التي أمليها عليك هي المطلقة . لست مؤمنًا بشيئًا , فلتؤمن بشيءٍ واحد فقط , أن تؤمن بكل شيء . لن تجد في موتك حتى راحة .
غرست في بطني السكين في برود , و كان الرجل ذات الندبة يقيدني و لم اتمكن من الافلات :
- ألم ترد نهاية لذلك العبث ؟ لك هذا . و لكن هذه هي حقيقتك ... أنت قاتل , و ستظل . لقد أدعيت ما أدعيت , و لكن جسدك يأبى الكذب  كما يأبى الحياة الآن . سلامًا يا هذا ...
نشرة أخبار الخامسة عصرًا بعد هذا اليوم بشهرين :
( قبضت اليوم شرطة مدينتنا على السيدة م. مايلز البالغة من العمر 28 سنةً و عشيقها ب.مايكل المجرم الهارب من عقوبة بالحبس 15 سنة , بجريمة قتل سيدين , الأول و هو زوج المتهمة الأولى و الذي عُثر عليه مقتولًا في إحدى الأزقة و بتحريات من جميع الأجهزة تمكنا من التوصل إلى الجناة و بالتحقيق معهم , تبين أن هناك قتيل آخر ملقى جانب صندوق خشبي لا يبعد الكثير عن مكان الحادث بعدما شككنا أنه انتحر في بداية التحقيقات .... و أثبتت التحريات أن القتل بهدف الاستيلاء على حقيبة حملها الزوج المتهمة و كان يحمل بها تنازل كامل عن كافة ممتلكاته لابنته الوحيدة من زوجته المتوفاة و كان عشيق المتهمة قد ساعدها للايقاع و توريط الضحية الأخرى بإقحام بصماته على السكين المستخدم في الانتحار و قبلها عملية قتل الزوج ....)
 تبدو لكم القصة غير مقنعة ... حاولوا ألا تلقوا مصير هذا العابس الذي مات عبثًا و كفوا عن التفكير .


jeudi 26 juillet 2018

أعداء السماء



ملقاة على جانب الطريق , جثة هامدة دون حتى أن يلتفت إليها أيٌ من المارة . كانت ليلة في شتاءٍ مستبد يحكم بسوطه البارد , أحد أهم ألد أعداء سمائنا هي الشمس التي لم تمر بمدينتنا منذ عشرات السنوات . فالنجم المشتعل على الدوام لم يكف يومًا عن معاندة السماء لدينا .
فلم تستقبل عيوني خيط دافئ واحد منذ ولدت . المدينة لا يباغتها رغم ذلك قطرة ندى حتى .
 فالليل عندنا مقيم و لا يغرب عن أزقتنا الظلام .
مدينة متناقضة كالميت , جسد تلمسه دون روح تعبث بها و لها و معها . لا ألم في الجسد المتصلب ولا يقين منا للروح و لا من الروح لمسارها .
كنت حينها اشتري علبة من الشمع لأشعل بها دياري . فأنا بخيل , لا احتاج الكهرباء في منزلي , مجرد بضع الشمعات أوقد بها لنفسي أثناء القراءة . لم ألقِ الشمع من يدي حينها و لكني وجدتها سيدة مثقوبة الرأس في يدها اليمنى المتجمدة سكين و اليد الأخرى تنطوي تحت جسدها الذي يشبه عود الكبريت المقصوف . كان الفضول يداعبني , فجلست و أجلست الشمع جواري , في وقت لم يمر فيه أحدٌ .
تسللت بالجثة بهدوء ناحية زقاق و كأني الجاني . لم يساورني الخوف حينئذ و لكن سيطر عليّ الفضول .
كانت تحمل حقيبة يد سوداء غير مغلقة , كأن يد اللص التافه
عالقة بها حتى الآن . كانت تبتسم و هي تموت . نظرت إليها و لم أجد داخلي سوى هذا الظلام الذي يحيط بنا . كنت أشعر بأني كذرة الهواء ... هل تعرف كيف هذا الشعور ؟ ... الخفة و الرفعة , هذا ما تظنون ؟  لا , بل إنه شعور اللاشيء . فالهواء مجرد عابر سبيل , يدلف عبر فم شخص يتثاوب ليخرج منه و هو يسعل , دون هدف. لِم من الأساس يوجد هواء ؟ لِم لا نتنفس تفاحًا ؟ أنا أحب التفاح .
هل تحبين التفاح أيتها الجثة ؟ لا تأكليها و أنتِ في الجنة ...
يستمر البحث و لا اسمع حولي سوى صوت الفئران العالقة في سراديب المنازل و على أسقف صناديق القمامة , و بعض الكلاب تعوي , ليثبت هذا الكلب القذر أنه بمقدوره أن يهزم هذا الضعيف . مع من يجب أن اتعاطف ؟ مع القوي الذي لا يعيبه سوى غروره , أم مع الضعيف الذي لا يميزه سوى وضعاته ؟
لم أجد في الحقيبة سوى المزيد من الأوراق الفارغة ... لا يمكنني قراءة ما سطر عليها . كانت هناك ورقة واحدة فقط , استطعت قراءتها . إنها رسالة .
قرأت الرسالة  ( اقتل نفسك بهذا السكين ... )
سألت نفسي حينها , لِم قد أفعل هذا ؟
فوجدت ردًا جاهزًا , و لِم لا تفعل ؟
فأخذتُ السكين من يدها و قتلتني , كانت ميتة سخيفة , فقد شققت رأسي من الخلف . تمدد جسدي جوارها . خرجت بخفة من جثتي الثقيلة و نظرت جواري لأرى المرأة التي ماتت حية تنظر نحوي و تتأملني و على وجهها علامات أثارت في ذاتي التخوف و الحظر .
لم تعرفني بنفسها , قالت لي على الفور بنبرة عملية :
- سنذهب الآن إلى بيتي ... هناك ستعرف ما سبب وجودك هنا .
قلت لها :
- هل دومًا يلزم أن يكون لوجودي سبب ؟
قالت لي :
- هنا على الأقل , هناك سبب . صدقني , سترى السعادة في عيونك التي لم تغادرها الظلمة في لحظات .
لم أرد حينها .. شعرت أنها امرأة ممسوسة . لم اعبأ حتى بسؤالها عما إن كنت في الجنة أو النار .
سألتني في الطريق :
- هل قرأت رسالاتي التي تركتها في الحقيبة ؟
- لا , لم تسطري فيها كلمة واحدة . فكيف لأحد قراءتها ؟
- لكنك قرأت الرسالة الأهم على أي حال ...
- ماذا تحوي تلك الرسائل الفارغة ؟
- كل شيء بذلته في حياته ... قصائد شعر , أغنيات ألفتها , خرافات و حكايات لأناس قد ماتوا ... أضغاث أحلامي التافهة لهم ... تواريخ وفاة أحبابي و ميلاد أعدائي ... أسماء كلاب اقتنيتها ... عدد السيارات التي ركبتها ... جميع المسرحيات التي عرفتها ... عنوانين الكتب ... مجموع ما دفعته على طاولات المطاعم ... لون حذائي المفضل ... مدى كرهي لأختي حين تستعير مني فستاني المفضل ... عدد القبلات التي طابعها المنافقين على وجنتي ... مجموع الساعات التي أهدرتها في التفكير فيما سأقول ... عدد الحماقات التي ارتكبتها ... عدد من أحبوني و لم يتمكن قلبي من حبهم ... عدد من يجبر بخواطر غيره في حياتي ... عدد الحسنات و عدد السيئات التي تمكنت من حصرها ... كم مرة أخبرت من أحب أنني أعشقه ... كم مرة نافقت من أكره و لم أخبره ... كيف تبدو الجنة في خيالي ... كيف أحلم ... بمَ أحلم ... عدد أنفاسي ... و في النهاية ذكرت كم مدينة زرت قبل أن أزور تلك المدينة السوداء .
- و في النهاية متِ كأي شخص تافه ...
شعرت بالسذاجة فيما تقول , فسألتني :
- ماذا تحمل الورقة التي في جيبك قبل أن تأتي لهنا ؟
- قلت ... فارغة , الجانب الظاهر فارغ ... أما الجانب الخفي فهو الجانب الأكثر فراغًا .
وصلنا إلى بيتها , دخلت هي أمامي . لم يهمني تفاصيل البيت إلا أنني رأيت ما اسموه النور لأول مرة في حياتي القصيرة . كما تقول الأسطورة بالضبط , خيوط بيضاء متجمعة في حزمة تحيطك من كل الجوانب , تحاصرك لتخرج من جسدك صورة يتأملها كل ناظر , تكشف قلبك لك ثم لمن يجاورك , تكشف الحقيقة . خيوط رفيعة هشة لا يوجد منها مهرب , لا بداية لها و لكنها تنتهي في خفوت و تحتضر حين يغزو اللاشيء روحك . النور هي الشيء إن غاب حل محله الفارغ . نحن أعداء السماء في مدينتنا .
ثلاث أشخاص يحملون في أيديهم ورق و قلم . قالت لي السيدة الميتة أن لي الاختيار الآن .
هناك ذلك المَلِك الطاعن في السن , ذلك سيهبك الخلود هنا و فقط .
تلك الفتاة ستهبك ما تحتاجه من نور , لنفسك و لتضيء المدينة و لكنك سترجعك للحياة المظلمة من جديد , لكن حين تغادر لا مجال للتراجع , و قد تموت في لحظة ما هناك .
تلك السيدة السمينة , ستهبك النشوة دون ملل , شغف لا يقتله سأم ... فهي قاتلة الاعتياد .
ذلك الشاب , يجعلك لا تندم على شيء , فهو يمكنه أن يعيدك إلى وقتما تريد مرارًا و تكرارًا ... لكنك لن تموت هناك حينها ... ستظل حبيس هذا .
ما هذا العبث ؟ , هكذا كنتُ أخبرها و أنا مشتت .
لا أريد الاختيار . فالاختيار هو الاختيار الوحيد الاجباري أمامي الآن .
و إلا عانيت من كل هذا , من الخلود ... من النور ... من النشوة ... من التكرار ... عدم الندم .
إنها قصة مزعجة , و ستقف عند هذا الحد ... اختاروا لأنفسكم خيار واحد و إلا أخفقتم في هذا الامتحان .