لقد وصلت لتوي إلى غرفتي في ليلة
باردة و دائما ما اسأل نفسي لِم الكتابة عندي مرتبطة بالشتاء و عند أغلب الكُتاب
القريبين لوجداني , كان نجيب محفوظ لا يكتب سوى في شهور الشتاء و كأن مع كل قطرة
ماء تهطل بروح مبدع الكون .
إذا أخبر نفسك ... ماذا فعلت اليوم ؟ تبدو
سعيدًا ... لِم لا تذكر نفسك بما أسعدك ؟
إنها قصة مثل حكايات الإمام يوم الجمعة عن الجنة , يخبرك فيها فتلمع عينك و يغمر
قلبك شعور باللهفة .
الغريب في الأمر , لِم تخفت أي شهوة عندي عندما
يتحدثون عن الجنة و نعيمها ؟ لعل الأمر عندي فقط . عليّ أن انتهي من الفيلم الذي
كنت بصدد إكماله لإرساله لشركة الإنتاج … لكن دعني أسرد لك كيف مضت تلك الليلة .
جانبني الحظ أنني لم التقِ بتلك
الفتاة منذ سنة , لقد تقابلنا في القاهرة وقتما كنت في شركة الانتاج أعرض عليهم
مسودة فيلم من تأليفي و قد اختلس اليأس شغفي من تكرار تلك المحاولة , لم اسأم من
قدر المحاولات الفاشلة , قدر ما سأمت من كم الجمل التي فقدت معانها ( لا أحد يصل
بسهولة , لابد من السعي و الله لا يكافئ شخصًا إلا إذا بذل فوق الجهد جهدًا ) .
تُدعى ( صافي ) , تعمل كعارضة و مصممة أزياء , جميلة و وجهها يشبه زهرة الفل
النضرة و خصلات شعرها بين البني و الأسود , و العيون غارقة في الزرقة تشبه سماء المحيط
الصافية . كانت هناك في مقر شركة الانتاج لتقوم باختبارات تمثيل لدور في فيلم قصير
, و أثناء انتظاري في القاعة , لم يكن هناك سوى مقعدين أحدهم وثير – هو الذي جلست عليه
– و الثاني يجاورني مباشرةً و لكنه كان كرسي خشبي يبدو غير مريح .
الوقت يسير ببطء , و السكرتيرة تمر
أمام عيني و كلما سألتها متى سأدخل للمسؤول عن تقييم الفيلم و نتحدث في كامل
التفاصيل و أنا أهمس لها , كان ردها ( أمهلني فقط خمسة دقائق ) , و كنت أمهلها أكثر
مما تحتاج فلقد وجدتها مشغولة على الدوام , فأنا أمهل الحياة فرص لحين مماتي ,
فلِم لا أعير تلك السكرتيرة بعض الوقت . فالوقت عندي هو أكبر عدو لي , فأنه كالشبح
لكنه لا يختفي في الغرفة المظلمة و لا يسكن في الأزقة القديمة أو العمارات العتيقة
. إن الوقت هو ظلك , لا تهرب منه و لا يظهر سوى إذا سُلط عليك ضوءًا , الضوء يأتي
من يأسك , فكلما يأست ... استضخم ظلك .
فلما مر وقتٌ ليس بقصير قررت أن أدخل
لأشرب كوب ماء , فتركت المسودة و رحت لأغسل وجهي و استنشق بعض الهواء و دلفت إلى طرقة
حيث يمكنني أن أدخن سيجارتي .
فإذ بي حين رجعت , وجدت صافي , تمسك
بالمسودة و هي منهمكة , و قد قرأت عشرة صفحات تقريبا . و حين اقتربت منها , سألتها
:
-
ليست سيئة , صحيح ؟
فردت متبسمة
:
-
إن كانت سيئة , كنت سأضعها مع أول صفحة من السيناريو ,
ثم همست لي متسائلةً , هل فعلًا ستقدم هذه المسودة لشركة انتاج مثل هذه ؟
-
ما يجبر المرء على ارتكاب معصية سوى الاحتياج ؟
قالت
لي :
-
هذا السطر بديع اكتبه في السيناريو , لكن ليس هكذا تسير
الأمور. هل لك معارف في تلك الشركة ؟
-
زوج أختي , هو صديق صاحب الشركة .
-
إذًا لِم جئت من الأساس , مبروك العمل سيقبل .
بهذه
الجملة فقد خدشت حائط كبريائي , فنظرت إليها :
-
لا أظن , إذا كان العمل رديء , سيُقبل مهما كانت الوساطة
. و أنتِ بنفسك قرأتِ عشرة صفحات تقريبًا , فهذا يعني أنها نالت بعض من إعجابك .
-
لا تخطئ فهمي , يا ... – بعد ما نظرت لغلاف المسودة و قرأت
اسمي – يامن , لقد قصدت أن تخطو خطوة بعيدًا عن الوساطة لتعرف فعلًا هل تستحق السيناريو
النجاح أم لا.
-
حصل خير ... ثم صمتُ و تركتها لأشرب سيجارة أخرى بعد أن
أخبرتني السكرتيرة بنفسها أني سأدخل بعد مودموذيل – هكذا نطقتها – صافي .
فإذ بي
افكر فيما قالته لي بجدية , هل استحق تلك الفرصة أم جاءتني بسبب المعارف ؟ و جال
بخاطري استحقاق الشخص لأي شيء , منصب , مال , سلطة , صحة ... لتتوقف تلك الاسئلة
بإجابة _ تبدو مرضية – إن الله يقسم الرزق بيننا بعدل في الدنيا , بمقياس أدق من
مقياس الذهب . فأخذت المسودة , و اعتذرت للسكرتيرة متذرعًا بأن الوقت قد داهمني و
أن لدي موعد لا يمكن لي التأخر عنه و لم أتح لها الفرصة حتى الفرصة لكي تسألني عن
ميعاد جديد .
رجعتُ
, في طريقي إلى قهوة و كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءً , و برد الشتاء في
القاهرة جعلني أرتجف و فؤادي لا يكف عن الخوف و قلبي عن الارتعاش .
هاتفي
المحمول يرن في جيبي , و أنا أدلف في شارع جانبي لشوارع وسط البلد , فإذ بي أرد لأجد
صوتها يقول لي :
-
أستاذ يامن صحيح ؟
-
نعم يا فندم , من معي ؟
-
أنا صافي , لقد رأيت تغادر المكان و لم استطع أن ألحق بك
, و لا تسأل من أين جئت برقم هاتفك , بكل سهولة طلبته من السكرتيرة و أعطتني إياه
دون أي تردد ... أردت فقط أن أعرف إذا كنت قد قررت الرحيل بسبب ما قلته لك .
-
هل أبدو لكِ بهذه السذاجة ؟ بالطبع لا , الأمر فقط أن
عندي مشوار مهم و قد تأخر الوقت فخفت ألا أصل في موعدي .
-
هذا بالضبط ما أخبرتني به السكرتيرة . هل يمكن أن أطلب
منك طلبًا يا أ.يامن ؟
-
بالتأكيد
-
أريد أن أكمل قراءة المسودة , فهل لي أن اقابلك و تعطيني
نسخة منها اقرأها .
فإذ بي
أخبرها أني في قهوة في وسط البلد , فلا ضير من أن تأتي الآن . فوافقت على الفور .
وجهي كان يلتقط الرياح يومها و يدي
تستدفئ بالشاي و فمي يتذوق النعناع , فإذ بالرياح تتعطر برائحة صافي فبمجرد قربها
مني , أعدلت من رأسي المنكب على المسودة لتعدلها قبل نسخها و إعطائها النسخة
المطلوبة . فإذ بها تمد يدها بين راحتي اليمنى و تبتسم و تقول لي :
-
لم اتأخر , فصديق زوج أختك لم يعجبه تمثيلي .
-
لقد رفضوكِ ؟ فعلًا ؟ الصراحة , يبدو أنك ممثلة جيدة و
لكن ...
-
لكن ماذا ؟
-
لا تبدين كالمتملقات ... ماذا تعملين و لِم أنتِ هنا
أساسًا ؟
-
لقد عرفت من إحدى صديقاتي أن هناك تجارب أداء لدور في
فيلم قصير فآتيت عسى أن أشق طريقي في هذا الفن . لكن عملي الأساسي , كمصممة أزياء
و عارضة في بعض الأحيان .
-
هل أنتِ مهتمة بفن السينما في المطلق ؟
-
طبعًا , لهذا لم اتمكن من منع فضولي لأقرأ تلك المسودة .
هل تعرف هذا الشعور ... أنا حين أمر ببائعي الكتب عند سور الأزبكية أو أيا من تلك
المحلات الصغيرة الخاصة بالكتب , أشعر بشهوة ما لاقتناء تلك الكتب , لا لترصص
بجانب بعضها بل ليلتهمها عقلي , لو كان الخلود له فائدة واحدة سيكون في أننا عندنا
متسع من الوقت لنقرأ كل الكتب و نأتي بأساليب و تراكيب لغوية و أدبية جديدة .
-
تعصف بي تلك الفكرة كثيرًا , لكني حين أفكر في الأمر ,
الوقت عندي هو البوصلة , بوصلة للمعاناة , متى تبدأ متى تنتهي . تخيلي الحياة دون
وقت ؟ الوقت اتخليه كالروح , لا نلمسه لكن نشعر بأثره . آثر الوقت في النسيان ,
أثره في الحب ... كلما طال تجدد و كلما قصر تبدد .
رأيت نفسي
استرسل , فإذ بي اتوقف للحظة , واسألها : كم نسخة تريدين من المسودة ؟
فإذ
بها تنفجر ضحكًا , و تخبرني :
-
لقد أبديت إعجابي بالمسودة لكنها لم تصبح من كلاسيكيات
السينما بعد . فنسخة واحدة ستكفي .
و أنا
في طريقي لأقرب محل لتصوير المستندات , جال عقلي بما تقوله عن الشهوة :
( لِم
ترتبط الشهوة في عقلي بالجنس و الماديات فقط ... لِم لا اشتهيها حين تحدثت معي و
أجعل الحديث ينقلب و تأتي معي لبيتي , فقد مر وقتًا ليس بقليل على آخر مرة أقمت
علاقة مع أحد . أجد لذة مختلفة و سامية في التحدث معاها , لقد وجدتني أتفكر أكثر ,
في محادثة واحدة جال عقلي بعشرات الفِكر و أمام عيني شريط بمشاهد مختلفة من أفلام
أعشقها تحدثت عن شغف الإنسان ... مثل جون لوك جودار و آنياس فاردا . و السير
الذاتية لبروست و جان جاك روسو و جورج بايرك و قصص تولستوي الواقعية الأليمة و قصة
المدينتين لديكنز ... كل تلك الفنون تبدو لي كفناء لي أنا و هي فقط ... )
( تعقيب
من صافي على مسودة القصة بخط يميل للانحراف ليتبينه يامِن )
·
حين ذهبت , قلت في نفسي أنك أول من اعجبه بما قال أكثر مما
يبدو , لم تكن تلفت نظري و كنت أكثر من العادي , لكن كلماتك جعلتني أريد أن أعرف
ما يجول بخلدُك , و هذا الآثر الفعلي للفن , لا يوجد قبح في الفن , حتى القبيح مثل
فن الجروتسك يقدم في قالب من شأنه أن يجعلك تثور أو يجعلك تصل لروحك الثقيلة و
تطمنها كالطفل المذعور . كنت أشاهدك و أنت تتحدث و لا أرغب أن تنهي كلامك . لسبب
ما وضع الله فيك من روحه نعمة الخلق .
رجعت من
حيث آتيت , فسألتها :
-
أخبريني ماذا عليّ أن أفعل لكي أنفذ سيناريو مثل هذا ؟
قالت
على الفور :
-
مبدأيًا , توثق المسودة لضمان حقوق الملكية الفكرية , و
أكيد هذا شيء لا يفوت شخص متمرس مثلك . ثم تقوم بتأجير معدات للتصوير و أنا لدي
صلات بمخرجين شباب موهوبين يمكنني أن أصلك بهم , لهذا السبب طلبت منك النسخة , ليس
الفضول هو الدافع الوحيد , المخرج سيساعدك على تنفيذ السيناريو و المال ... إذا أعجبني
هذا السيناريو , سأكون أن المنتج له و سنرسل الفيلم لمهرجانات عالمية و صدقني لو قُبل
العمل و عرض في مهرجان خارج مصر , ستكون هذه بداية مبشرة . أنت في بداية المشوار صحيح
؟
-
صحيح , أنا 36 سنة و بدأت كتابة السيناريو منذ 2015 ,
هذا يعني حوالي 6 سنوات
-
و ماذا كنت تعمل قبل دخولك هذا المجال ؟
-
اعمل محامي .. خريج دفعة 2009 . لكني تركت العمل في المحاماة
حينها كنت أعمل كمحامي صالة .
-
ألم يكن لديك مكتب ؟
-
كان مكتبي في صالة بيتنا .
-
لهذا تسمي نفسك محامي صالة .
ضحكت
في أسى و قلت :
- محامي الصالة , يعني أنه محامي بلا موكلين , فقط يقتاد على الغرباء عن المحكمة و
على من جاءوا للمحكمة لاستخراج حكم أو انجاز ورق إداري , و يأخذ ما فيه النصيب .
هل تعرفين هؤلاء الشباب الكادحين الذي يقفون على ناصية الشارع و يستفسرون هل تريد
بدلة يا أستاذ ؟ كم اتذكر نفسي في تلك الصالة الفسيحة لمجمع المحاكم , فكرت وقتها
للحظة و أنا أقف أمام القاضي في جلسة إجرائية , في مفهوم المحاكمة , من يُحاسَب و
من يُحاسِب ... خطر ببالي محكمة الموتى و هل ستكون الريشة أثقل من قلبي . و فجأة
حينها تركت القاضي و القاعة بعد انقضاء الجلسة و قررت أنني لا أريد أن أموت إلا وأنا
اكتب , فمنذ 2016 و أنا اكتب و تعلمت فن السيناريو في المعهد العالي للسينما , و
كنت اعمل في نفس الوقت في محل فطاطري . 5 سنوات عند عم شندي الفطاطري , جعلتني أحب
ذلك الرجل حبًا جمًا , حتى لقى وجه كريم فأغلق المحل بسبب تنازع الأخوة على
ميراثهم . إنها كالعادة قصة الغيرة التي أودت بحياة الأخ , طالما سألت نفسي لِم لا
نحاسب هابيل على أنه لم يكن حنون على أخيه حين رفض الله منه قربانه ؟ لِم هناك
صراع في السينما كأحد أهم عناصر الفيلم , لم يحصل أن خرج الكثيرون عن تلك القاعدة
و كأن الحياة خير و شر , موجب و سالب . و الأمر أنها ليست كذلك , اتخيل أن تصور
دانتي في رحلته أكثر التصورات الأدبية عمقًا و دقة , فلم يكن هناك نار و جنة فقط ...
بل كان هناك مطهر , كجسر يعبر فيه من في النار للجنة , و أردت أنا أن أجعله جسرًا
للعكس , لكن حين فكرت فيها تذكرت كلمة أبي ( من شهد نعيم الجنة , لن تمسسه النار أبدًا
).
كانت
عيناها تبتسم و وجهها يخبرني أنها في ذروة نشوتها , فسكت قليلًا , فقالت :
-
لِم تكتب ؟ هذا سؤال يُسأل دومًا لأي كاتب مشهور , فهل
تعرف ؟
-
لا أجد من يعبر عني سوى قلمي ... أي فن ... حقيقي .. يجب
أن يكون له أبعاد كقطعة الكيوب , تلك الأبعاد تتداخل لتشكل و تنتج مفهوم مختلف .
فأنا قد أقول لشخص (أحبك) , لكن حين أكتبها له سيختلف سياقها و معناها سيتطور
بتطور فكر القارىء .
-
أظن من يكتب , لا يجب أن يكون له هدف سوى التعبير عن
نفسه , فإذا أصبح الكتاب غير شخصي فلن يمس وجدان القارئ و لن نتمكن من تمييزه عن
مقال عملي محايد . فكم أكره الحياد , أكرهه حتى في العلم , رغم أن قوانين الكون لو
حادت عن كونها غير متغيرة كعلم الرياضات و ثوابت الفيزياء فسنفنى , لهذا العلم يبقى
بقوانين أما الفن رغم ارتباطه بالواقعية أحيانًا فلا يمكن أن تجد قانون في السينما
. أظن فن السيناريو نفسه الذي درسته بنفسك خير دليل على هذا . ستجد أدوات سرد
مختلفة و أفلام يختفي منها الحوار و أفلام بلا أحداث و الحوار هو الحدث ... كذلك
اللوحات , لا اتعجب من استغراب الناس لثمن اللوحات الباهظ , رغم أنها في عيونهم مجرد
خطوط متعارضة لا يوجد بينها انسجام . ما يعطي تلك اللوحات قيمتها , هو مدى خصوبة
اللوحة نقديًا , هل تعرف لِم الروايات الرمزية هي التي تحوذ على إعجاب النقاد ؟ لسبب
بسيط لأنها مليئة بالتفسيرات و إن زادت بساطتها زاد تقدير الناس لها , و إن زاد
التعقيد زاد تقدير النقاد لها .
حينها
أدركت أنني أريد أن أسمع لها أكثر فكلماتها على مسامعي مقطوعة لا تتوقع أي حركة جديدة
ستصدرها .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire