mardi 19 juillet 2016

الهروب نحو الآسر


الهروب نحو الآسر

أعطت لنفسها الحق في تسمية ذاتها ناي , أما من يسير كظلها فقد أدعى أن اسمه داوود . لم يعرفا الفراق و عيون كل منهما لا ترى سوى بعضهما . الصدفة أطاحت بعيشتهم الرغدة فقط ليتلقيان . ناي اليوم , ستحتفل بعيد ميلادها السادس عشر , أما داوود فلا يعلم يوم ميلاد . لذا قرر أن يكون توأم ناي و اختار من لحظة إدراكه نطق الكلام . الغريب أنه لم يعنيه حينها اسئلة شغلت ناي كثيرًا و هي صغيرة .. من هي أمها ؟ هل لقت ربها بعد أن أنزلتها ؟ أم هي كالأفلام العربية التي تشاهدها في تلفاز الدار فتصبح بنت الخطيئة و تكون هي الضحية ؟
لم تنل تلك التساؤلات أبدًا من داوود , و حين كانا يتسامران ليلًا في الشرفة الواسعة , التي يقسمها سياج حديدي ليفصل بين الصبية و الفتيات , هذا الصبي لم يعبأ بتاتًا سوى بحديثها معه , و هي بالكاد تنطق جملتها ينظر فيحمد الله على نعمة يتمه هذا .
البداية في أي قصة تكون حزينة فتقود لنهاية مبهجة و العكس صحيح , أما في حال تواجدك في الدار فلا مفر من قصة غير مكتملة . ناي منذ صغرها و هي تذهب لمدام سعاد مديرة الدار فلا تجد ردًا يرضيها , ظلت تسألها كل يوم و طبعًا نفس الاجابات و هذا لم يكن دليل على ذكاء سعاد قدر ما يدل على سذاجة ناي .
ناي الطفلة , الآن قد بلغت و نضج جسدها , و اليوم ترتدي فستانًا صنعته سُعاد خصيصًا لها , تملك ناي من الجمال ما جعل الزائرون للدار سنويًا يفضلون حملها عن بقية الصبية , مما أكسبها عداوة أخوانها دون قصد . شعرها مضطرب متناثر الأطراف لا يتم تمشيط باستمرار و إن بدى عليها فقط بديعًا , أنفها متناهي الصغر الغائر في وجهها المنير إنارة ملائكة الفردوس , عيونها تغازل من يتأملها و إن كانت في كون آخر دون قصد , ابتسامتها تجعل فاهها المضموم يتسع مفسحًا المجال لوجنتيها للتورد . جاء داوود بعد أن طلب من سعاد , أن يُحضِر الكعكة بنفسه , فهذا النهار من شروق شمسه لغروبها يكرس ذاته لخدمة ناي . بعيونه الرمادية تتفحص ناي كل ثانية , و بيديه المرتعشتين يهرول نحو طاولة , استدار ثم توقف و قال محمسًا أخوانه عابسين الوجه القاعدين على كراسيهم منتظرين نصيبهم من الكعكة : يلا أكيد ناي مش حتعرف تطفي كل الشمع لوحدها .
قام بعضًا منهم منعًا لتسبب في إحراج داوود الذي على عكس ناي , كان يلقى استحسان أخواله , انحنت ناي حين أنتهوا من غناء أغنية ( كل سنة و أنت طيب .. و من قلبي قريب ) و في ظل هذا الحماس , أنطفأت الأنوار فجأة , و ظلت الشموع هي الوحيدة المضيئة . وسط همسات من بنات الدار و قهقهات مكتومة و كأن ناي طوال عمرها فقرية , في لحظة عاد التيار و لكن بعد فوات الأوان فكل الشمع كان قد أنطفأ . صمت حاصر المكان كله , قطعه تصفيقة من داوود الذي لم يرد أن ينتهي اليوم في ذاكرة ناي بسخرية البنات الحاقدات . و لكن كالعادة دقت الساعة العاشرة , صاحت سُعاد : يلا كله على أوضته .. العشاء النهار ده حيجلكم على الأوض و حيبقي تورتة بس .
أنقبض وجه الجميع , و حينها نال الحزن من قلب داوود الذي ينتظر تلك اللحظة منذ أسبوعين , فهو يُحضر كلامًا سيتلوه على ناي و هم يتعشون . لعن داوود للمرة الألفين سعاد التي تتلذذ بمعاناة هؤلاء السجناء . قال أحد الصبية : طب و الفيلم اللي في التلفزيون ؟ رمقته السيدة بنظرة مفعمة بالقسوة قائلة : مش حكرر كلامي تاني .
فعلًا تشتت الجمع , و أنطفأت ناي و فُتر قلب داوود .
عاد إلى غرفته , و أخذ يكلم خليله و من أقرب أخوته في الدار و يفضي بما حاواه قلبه دون تردد أو تلعثم في الكلام :
- هو أنا ليه مش حزين زي ناي كدا .. أنا مليش أب و لا أم , رغم كدا متعود على كوني لوحدي .
- عشان هي بنت و البنات تافهين و بيحبوا يتسهوكوا .
- لا الموضوع ملوش علاقة بالسهوكة , يمكن تكون عارفة أبوها و أمها فين بس في حاجة منعها مثلًا أنها تروح لهم .
- مش فارقة النتيجة واحدة يا عم .
- لا مش واحدة طبعًا . لو عارفة أبوها و أمها مين و فين يبقى أديني سبب واحد تخليها تقعد معنا هنا في السجن دا .
- مش عارف , بس أنت فجأة كده بقيت تشك في أن أبوها و أمها عايشيين .
- أصل احنا رغم أننا قريبين من سن بعض , أنا أكبر منها بسنة إلا أني كل سنة بشوف دموعها بتكتر في اليوم دا بالذات رغم أني بتشلقب عشان أشوفها فرحانة .
- و أنت يهمك في ايه بقى ماضيها و لا مين أبوها و ليها أصلًا أم و لا لأ ؟
- مش أنت اللي تقول كدا يا مرعي , أنت عارف كويس ناي بالنسبة لي ايه .
- ما هو عشان عارف و خايف عليك منها بقولك متشغلش دماغك بيها . اللي بنعوزه دلوقتي بعد 3 دقايق ممكن تكون أكتر حاجة مش محتاجينها يا داوود .
أحس داوود في صوت مرعي ببعض المرارة , و لم يكن يعلم إن كان هذا بسبب خوفه عليه حقًا من مصيره مع اسئلة لن تنفع بل ستضره أم حكايته مع تلك الفتاة التي زارت الدار لتعطف على الأيتام في عيدهم بالهدايا . كانت تكبره بحوالي سنتين , هذا ما قالته لمرعي حينها و هي تهبه الهدية مع أمها , حينها خشي من تعلق عيونه بعيونها و في ذات الوقت تمنى لو جاءت مرة أخرى بمفردها . و بالفعل , عادت مجددًا تلك الفتاة ليراها بالصدفة و هي في مكتب سعاد تحدثها عن امكانية مساعدة طلبة المدارس للدار و الترفيه عن نزلائه . و في ليلتها كان يحكي مرعي لداوود عما دار حين أوقفها في ساحة الدار و يُسلم عليها . بصوت فيه رقة ردت تحيته بسلامها عليه :
- و عليكم السلام .. ازيك ؟
- أنا الحمد لله كويس .. ازاي حضرتك ؟ حضرتك منورة دارنا الحقيرة و الله .
ضحكت و انفرج ثغر فمها و قالت :
- في حد يقول على بيته حقير ؟
- بس دا مش بيتي .
صمتت و لم تعلم كيف تجيبه خشية أن تجرحه بكلمة تخرج منها تلقائية فآثرت السكوت أما هو فباغتها :
- أنا عرفت بيتي و أهلي خلاص .
- بجد ؟ طب و قاعد هنا ليه ؟ تحب أكلم لك مدام سعاد .
- لا أصله مش بعيد مني بس بعيد عليا .
أستعجبت من نظرته لها أكثر من كلماته التي لا يمكن لمراهق غيره أن يعرف طريقة إلقائها مثله ثم قالت :
- لا دي مش فاهمها .
- يعني زي ما حضرتك تقولي كده كوباية ماية جنب واحد صايم , أو كاس نبيذ قدام عيون إمام مسجد مثلًا .. على فكرة اللي مانعه مش أنه مش حابب يشرب لا دا عشان مينفعش .
- لا أنت بتعرف تتكلم أهو يا ...
- مرعي .. اللي مش حتلاقي اتنين من نوعي .
أحمرت خدودها و أذناها و هي تراه يداعبها بطريقة كلامه و حركة يده التي لا تتوقف و هو في غاية السعادة . أرادت دون رغبة أن تغادر فأبيها ينتظرها في الخارج , فأخبرته بأن عليها الذهاب و أنها سعيدة بمقابلة مرعي و أنها ستأتي مجددًا إن سنحت لها الفرصة .
حين جاءت ثاني مرة , أعيد المشهد مرة أخرى و لم يأخذ أكثر من خمسة دقائق و إن تبادلا فيهما الحديث و لكن المرة هذه نال مرعي تصريح من الفتاة التي أذابت قلبه و عقله في بوتقة حديثها معه , عندما أتفقا على موعد للالتقاء خارج الدار , في كازينو في منطقة لا تبعد عن المدرسة كثيرًا و عندها تنازل عن وجبة غذائه ليلقاها و طالب من أخوانه أن يغطوه في حين إحصاء عدد الصبية في الغداء و يتذرعون لسعاد بأي شيء و فعلًا قدر الله أن تمرض يومها سعاد و يكتفي عتمان بطبخ السبانخ للصبية و حصرهم من بعيد و بالتأكيد لن يلحظ تغيب مرعي .
في الموعد المحدد تقابلا بعد أن نفذ خطته بإحكام و بتسهيل من ربنا و قدرة خاصة على اعتلاء سور الدار القصير , أخذ يتربع على كرسيه و يطلب مانجا بشليموه أما هي فتطلبت مليك شيك بالكارميل و أخذ يرتشف من كوب عبر الماصة ناظرًا إلى كوب العصير الآخر فضحكت رضوى و قالت :
- مش أنا قلت لك تجيب زيي ؟
- ما هو أنا قلت اللي تعرفه مفيش أحسن منه .. بس أنا حبلغهم في الدار يعملوا زبادي خلاط .
ضحكت ثم قربت منه كوبها و طلبت منه أن يجرب , فشرب القليل جدًا تأففًا حتى لا يبدو شرهًا ليفاجأها بقوله :
- على فكرة بقى أنا لقيت صرصار صغير .. الجرسون و هو جاي سحبه بايده و رامه و حضرتك بلاعة محستيش بطعم غريب .
- و أنت مقلتش ليه عشان أرجعه في ساعتها .
- أنا افتكرتك بتحبيه بالصراصير .. زي لينا و مسعود كدا .
- مين دول ؟
- المسرحية بتاعت المتزوجون . أنتوا معندكوش تلفزيون في بيتكم ؟
- لا عارفاه , بس الاسم مش في دماغي , و بتشوف ايه كمان ؟
- لا أنا موسوعة في الأفلام و المسلسلات و المسرحيات . أنا ان شاء الله لما أكبر حبقى ممثل , بس تفتكري حياخدوني في دور اللقيط بس ؟
ضحك هو أما هي فافتعلت بسمة لم تبدو صادقة , لا يترك فرصة هذا الصبي إلا و ينال من ماضيه و حاضره أملًا خير في مستقبله . ثم أخذ من جديد يشرب من كوبها و يشاهدها بجوهرتيه فأشتعل نار الانفعال و حرقت مياه التردد و التخوف لينفلت من لسانه كلمات يذوق مرارتها حتى الآن :
- هو أنا ممكن دلوقتي أقولك أني بحب أشوفك كل ثانية في يومي , ممكن طيب أبلغك أني بزعل أوي يوم لما محلمش بيكِ , ممكن أديكِ خبر أني على استعداد أكون ظلك كدا ملوش لازمة غير أنه جمبك , ممكن طب أسمع منك كلام .. أي كلام مش مهم في ايه , حتى لو كان عن حد تاني بس أسمع صوتك دايما .. ممكن أكون جزء من حياتك و أنتِ حياتي كلها ؟
أذهلها هذا الحديث , فعلًا لقد أتقن من كثرة مشاهدته للأفلام و المسرحيات فن الكلام . قرب منها يده و لكن كلما قربها أبتعدت ليس خجلًا بل رفقًا بقلبه  الضعيف .
حسمت الأمر و جمعت شتات نفسها التي تبعثرت بعد كلماته الرائقة و قالت بنبرة قاسية و إن بدت خافتة :
- مش ممكن , للأسف . أنت نفسك قلت إمام المسجد عمره ما حيشرب كاس النبيذ , أنت حد أكبر من حبك ليا ده , أنت لسه قدامك حاجات كتير أهم تعملها , يوم لما تطلع من الدار حتعمل ايه , ممكن تفكر في نفسك , ممكن تنسى الأفلام اللي بتتفرج عليها , ممكن تعيش على أرض الواقع , ممكن تعرف أن لا يمكن بابا يرضى أن بنته تحب واحد ... دا إن افترضنا أني بحبك الحب اللي أنت بتحبه لي .
- طب و قابلتيني ليه و الفترة اللي فاتت اللي كنتِ بتكلميني بيها كويس غير كل العيال في الدار ؟
- العقل لما بيعوز حاجة بيهيأ لنفسه أنها بتاعته بس و أنا مش بتاعتك يا مرعي .. ممكن نمشي ؟
- ممكن , بس عندي سؤال أخير ؟
- طبعًا .
- مين حيحاسب ؟
صامتًا تركها مع كوبين فارغين , و أدار ظهره لها و عاد من حيث جاء و امتزج حينها شعوره بالندم و الغضب و خيبة الأمل و الانكسار و الانتصار و البكاء و الضحك الهستيري و النوم و اليقظة و التذكر و النسيان . منذ هذا الحين لم يغادر مرعي الدار و إن بدى أكثر قوة و بأس في الدارفقط .. يخشاه من بالداخل أما من في الخارج فلا يعلم أحد سوى رضوى بوجوده .
صبيحة ثاني يوم , عاد داوود ليستقبل مزيد من روتين الدار , سيفطر و ينسى ما حل بعيد الميلاد . نال صحنًا فارغًا و أخذ عتمان الطباخ يصب الفول من قدرته و يعطي الصبية منابهم من الجبن و العيش و اللبن . جلس داوود ساهِم حتى جاورته ناي و جلس أمامه مرعي و قررت يومها أن تخبره شيئًا ما وسط همهمات الجالسين فتهمس في أذنه :
- أحنا هنهرب من الدار النهارده .
صُدم و كأنه سمع منها كلمة خارج حدود المعقول .. الهروب كلمة محرمة في الدار , فمن يهرب من واجب غسل الاسنان كان يُعاقب بخرزانة سعاد النحيلة التي تنزل بها على مؤخرة أحدهم فتحرز من الآلم ما يكفي قلب العصاه .
- نهرب ؟ مين أحنا ؟ و ازاي ؟ و ليه ؟ و فين ؟
كلها اسئلة دارت في خلده و همس به بشفايفه في أذن ناي , فجأة من لا يعرف الاسئلة أصبحت تنهال عليه بغتةً .
- أيوه حنمشي .. أنا و أنت بس , حنروح لأي مكان غير هنا , احنا في سجن و أنا مش ناوية أفضل محبوسة طول حياتي و أسيب حد يحدد حياتي , ربنا مش بينسى حد حتى لو الحد ده نسى نفسه , حندور على شغل و نعافر سوا , ازاي دي بتاعتي أنا . 
أول مرة يخشاها داوود هكذا , فالاصرار في عينها كشرارة النار قد تلتهم أي قشاية أمامها لتتضخم و تلتهم أي شيء أمامها . رغم هذا قرر أن يكون معجزة إبراهيم و يدخل بنفسه للتهلكة وسط نيران مشتعلة لا يبدو أنها ستهدأ نهائيًا .
ساعدهم على الخطة مرعي و بعض صديقات ناي اللاتي وجدن في رحيلها سرور قابع في أفئدتهم الخبيثة .
بعد أن نالا ما استحقوه من وداع من أخوانهم و أخواتهم .. فروا كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام نحو لا شيء . ليس أمامهم هدفًا سوى أن يتحرروا من عبودية و يتمتعون بحريتهم المطلقة في تقرير مصيرهم . طريقة تحقيق هذا الهدف عشوائية مندفعة و متهورة .. و ما قد حدث ما حدث .
منذ فجر ذلك اليوم و لم يملك داوود في جبيه سوى عشرة جنيهات , وهبها لهم أخواتهم في الملجأ . و مع إطلالة خيوط الشمس و حضور قرص الشمس بات شعور في قلب داوود بالخوف و كأن الشمس تعاتبهم على ما اقترفوه من ذنب لا يغتفر من خالقها .
فقال الصبي في حدة :
- سمعت و أطعت , حنعمل ايه دلوقتي يا ناي ؟
-  معرفش ..
- مين اللي يعرف طب ؟ أمي الميتة ؟
- محدش أجبرك تيجي معايا .. عايز ترجع السجن تاني أرجع .
- لو كنت عايز أرجع , كنت عملت كدا . و على فكرة في حد أجبرني على أني أجي معاكِ .
- مين دا و أنا أقتله ؟
- خوفي على نفسي و أنا لوحدي .
- و دا وقت كلام حلو .. طب تعالى نفكر حنعمل ايه بالعشرة جنيه دي .
- بُصِ أحنا نروح ندور على شغل كدا في مطعم , في أي حاجة .
- يا ترى بس حيرضوا يشغلونا و حيدونا كام , طب و حنام فين ؟
- بطل خوف بقى , و سيبنا نجرب حاجة واحدة في حياتنا .
- أنا مش خايف بس لازم نعمل حسابنا , اللي عملناه ده مش سهل نرجع فيه و رجعنا الدار مش حنعرف حتى نخرج من الأوضة تاني .
- مين قال أننا حنرجع . يلا بس منضيعش وقت .
صراحةً كل الأبواب غُلقت أمام وجوههم و كلما دخلوا مكان إما طُردوا منه بالذوق إما سدد له صاحب المكان لكمات باستفساره عن أبوهما أو حياتهما . الأيام تتكرر و كانوا ينامون تحت كوبري في ظل صقيع ينال منهم و يجعل أجسادهم ترتجف , يوم ما ألقت سيارة بلحاف ألتحفوا به من شدة برودة الليل . اليأس قد تمكن من داوود إلا أن مثابرة ناي و إصرارها على عدم الرجوع كأن في عودتها موت محتم , زادت من الفتى على الصبر فقط ليكون بجوارها . و بعد جهد جهيد , حازت ناي على عمل في محل ملابس جاهزة للمحجبات كانت مسئولة عن التنظيف , على العكس كان داوود ساخطًا لا ينام معاتبًا نفسه على الإذعان لاقتراح ناي و تحريض قلبه على إقتراف ذنب عواقبه وخيمة و صك غفرانه باهظ الثمن . لم يعثر على عمل كناي و كان قد سأم من التجول بلا فائدة و وجد نفسه وحيدًا تحت كوبري دون حتى أخوانه في الدار .. حينها أحس أن أحياناً السجن أرحم من العتق . لا يعلم هل يفرح و يشارك ناي فرحتها بأول مرتب قبضته يمكنها من حيازة أوضة صغيرة دلتها عليها صاحبة المحل , هي غرفة  تكفي  بها سرير وحيد و لن يشغل صاحبها الكهل من يسكنها ما دام يدفع إيجارها الذي بإمكان ناي سداده . النشوة ملأت روحها و كانت متشوقة لترى حجم سرور داوود بهذا النبأ , فهما الآن يملكان سقفًا غير خرسانة الكوبري و سينعمون بليلة هادئة دون صرخات السيارات .
قالت له مستعجبة من رد فعله الباهت :
- مش مبسوط .. ليه ؟ إحنا كل اللي عاوزناه حصل و أخيرًا بقى لينا بيت بتاعنا , ممكن نبنيه مع بعض و أنت بتدور و أكيد حتلاقي حاجة تناسبك يا داوود .
- أكيد .. مبروك يا ناي . تصبحي على خير .
أغلق جفنيه و لم يستطع أن يغلق باب أفكاره المتطاحنة .
 في الصباح , حملت ناي حقبيتها لأنها بعد العمل ستحصل على الغرفة تلك , أما داوود فوعدها أنه سيحصلها بعد أن ينتهي من جولته في البحث عن عمل .
كانت أخر كذبة كذبها داوود على ناي و على نفسه التي بدأت تتلوى و تزوم بسبب طعنات توالت في تلك الليلة حتى طلوع الشمس .
عاد من حيث جاء . مرعي يشرب اللبن , فإذ بداوود أمامه يبتسم و فجأة يهرول ناحيته مرعي ليحيطه بذراعيه قبل أن توبخه سعاد و تستوجبه عن ناي .
الطيور في السماء تغرد و الصبية و الفتيات فرحون بعودة الابن الضال الذي لم يضل طويلًا و هداه فؤاده للسبيل القديم .
أما ناي فقد أدعى أنها تركت له رسالة تقول فيها أنها بمحض إرادتها ستترك المدينة و الدنيا و ستنتحر متعللة بأنها ستجد حريتها في اختيارها للعقاب .
صمت داوود لم يُرِح مرعي . ثلاثة أيام لم ينطق بحرف . يأكل ثم يشرب ثم يقضي حاجته ثم ينام و هكذا حتى بدى كالطير الأبكم المحبوس في قفص دون باب . حينها أراد أن يزيح عنه مرعي فداعبه :
- شوفت بقى الدنيا بره حلوة ازاي .. شوفت بقى قد ايه الميلك شيك غالي و طعمه وحش .
- عارف أنت أن ناي دي أشجع من أي حد قابلته في حياتك .
- و أنا قبلت مين في حياتي غير ناس واطية باستثناء أنت و ناي طبعًا .
- الدنيا واسعة أوي يا مرعي .. طلعت كبيرة أوي عليا .. توهتني لدرجة أني مبقتش عارف طب أتنفس و لا أكل و لا أجري و لا أنام .
- أنسى يا داوود اليومين دول .
- دول لو اتنسوا عمري ما حرجع هنا تاني .
- هي صحيح ناي انتحرت ؟
- ناي قتلت الدنيا دي كلها في عيني و سابتني في ركن صغير في الأوضة الضالمة بتاعتي .
- يا داوود هو أنت حتفضل يعني في الدار على طول ما أنت مسيرك حتتجوز و تعيش لوحدك و تخلف عيل متخلف زيك .
- حتى لو طلعنا من هنا .. حيفضل السجن جوايا .
- نفسي مرة أشوف حد طلع برا الدار و رجع مجبور الخاطر , الدنيا دي سبب كسر قلوب عالم كتير أوي . على رأي اللي قال من خرج من داره أتقل مقداره .
عندما لم يجد طائل من تغيير ما في خاطر داوود , استسلم و رضى بالأمر الواقع و نام نوم عميق , أما داوود فظل يتسامر مع ظله في الحائط حتى طلوع الشمس .
ناي , لم تمتلك من الوقت كي تشعر بالوحدة , تلهث وراء عملها لتدفع إيجار شقتها حتى لا تعود أسفل الكوبري ثانيةً . في يوم ما , آتت لها سيدة حسناء تبلغ من العمر أرزله و إن بدت رغم كهولتها مفعمة بالحياة , تعتقد ناي أنها تعرف صاحبة المحل و لهذا اقترحت السيدة عليها أن تعمل لديها في المنزل فهي سيدة أرملة و أولادها في الخارج و لم تعد تقوى على فعل شيء و ستتقاضي راتب مجزي و على الأقل ستعثر على فراش خاص بها تستلقي عليه . لم تفكر مليًا في الأمر , فهي لم تعد تخشى على شيء , كل ما أكترثت له هرب .  

lundi 4 juillet 2016

كلماتي للقمر


لم تتأخر كثيراً ، كعادتها تآتيني مبتسمة مبتهجة . ألقي عليها تحية المساء ، و ما أتعس هذا المساء و هو ينتظرها . قد ترقرق سطح الكون هذه الليلة بدموع الاتتظار البغيض . لم يستبد بي هذا الشعور منذ فترة ... لا أعرف لم أصبحتي دون سابق انذار جزء لا يتجزأ من ليلتي .
كالمريض الذي لا يُشفى دون دواء تواجدك ، دواء كلامك الفاتن ، دواء إستماعي لتنهدات من روحك المصقولة بالندوب العتيقة . نادتني باسمي ، و ما احلى لفظ اسمي من قائله ... و ردت هي التحية بأبهى الكلام . ليست على ما يرام ، هناك ما يتناقص .. شيء يتضاءل رويداً رويداً . إقترابها مني كان كفيضان جارف يحمل طيه كم هائل من المشاعر التي لا حصر و لا وصف لها . لكني تمنتعت ، لم ؟ لا أعرف ...
في لحظة عدت أحبو كالاطفال .. أتعلم الحروف واحد تلو الاخر ببطء شديد .. حاء الحيرة و باء البراءة في التعامل .
لم أشاهد نفسي حينها ، فقط آثرت أن اتأمل ملكوتها و عالمها الآسر ... مجرد ساعات تمر أسرع من نسمة منعشة تنتشي بها قلوب تحترق من نار شوق و اشتياق .
حاولت إستدراجها لتدلي بعباراتها الساحرة ، ففشلت و لم أجد صدى لما سعيت لأجله . القمر يمر بخسوف الآن ، فلا يحتاج من العباد سوى التأمل ... الستار أسدلته قبل أن ينتهي العرض و لم تُتح لي الفرصة لاصفق لها حتى .
لعلها سئمت مني .. لا اعرف . لكني لم أرغب عنها بعد .. على العكس أني اريدها أكثر من أي وقت . ليلتي ظلماء ، بلا نجوم بلا دليل ، فقط القمر هو سبيلي الوحيد للإهتداء لارض الصفاء و الراحة الآبدية .
حاولت مراراً أن ألقي بحجر في مياه روحها الراكدة .. فتمنع الماء و لم أرى له امواج ثائرة . تحدثنا دون قيود .. و أفضيت بما حاوه قلبي و إن لم تكن هي بحاجة لسماع هذا الهراء . انتظرت هي سحر كلماتي فوجدتني مبتدئ معها .. تحسرت و عدت اسأل نفسي .. ما حاجة القمر بنور خافت منبعث من راهب عابد هائم يبحث عن إلهه .
إن القمر خُلق ليتُأمل ، ليُحمد ، لنعرف ماهية جمال خالقه . تسامرنا طويلاً و وجد الوقت بينا قتيلاً ، ضحية للذة الحديث مع قمري . في اللاوقت هذا توقف دوران الكون و فضّل ان يرها و هي تبتسم .. و هي تروي .. وهي قلقة مني ... و هي مستكينة .. و هي خلابة .. و أنا آسيرها .
ابتسم أخيرا القمر المتبقي في ملكوتك يا آلهي .. أتسعت الدنيا بعد أن كادت تضيق .. وعدتني أنها لن تفرط فيما تبقى في جوف كوب الشغف . أردت أن أخبرها شيئاً  ..... مهما غاب القمر و طُمس سيظل عباده يقدسونه .. نعم يقدسونه .. يا إلهتي !