jeudi 26 juillet 2018

أعداء السماء



ملقاة على جانب الطريق , جثة هامدة دون حتى أن يلتفت إليها أيٌ من المارة . كانت ليلة في شتاءٍ مستبد يحكم بسوطه البارد , أحد أهم ألد أعداء سمائنا هي الشمس التي لم تمر بمدينتنا منذ عشرات السنوات . فالنجم المشتعل على الدوام لم يكف يومًا عن معاندة السماء لدينا .
فلم تستقبل عيوني خيط دافئ واحد منذ ولدت . المدينة لا يباغتها رغم ذلك قطرة ندى حتى .
 فالليل عندنا مقيم و لا يغرب عن أزقتنا الظلام .
مدينة متناقضة كالميت , جسد تلمسه دون روح تعبث بها و لها و معها . لا ألم في الجسد المتصلب ولا يقين منا للروح و لا من الروح لمسارها .
كنت حينها اشتري علبة من الشمع لأشعل بها دياري . فأنا بخيل , لا احتاج الكهرباء في منزلي , مجرد بضع الشمعات أوقد بها لنفسي أثناء القراءة . لم ألقِ الشمع من يدي حينها و لكني وجدتها سيدة مثقوبة الرأس في يدها اليمنى المتجمدة سكين و اليد الأخرى تنطوي تحت جسدها الذي يشبه عود الكبريت المقصوف . كان الفضول يداعبني , فجلست و أجلست الشمع جواري , في وقت لم يمر فيه أحدٌ .
تسللت بالجثة بهدوء ناحية زقاق و كأني الجاني . لم يساورني الخوف حينئذ و لكن سيطر عليّ الفضول .
كانت تحمل حقيبة يد سوداء غير مغلقة , كأن يد اللص التافه
عالقة بها حتى الآن . كانت تبتسم و هي تموت . نظرت إليها و لم أجد داخلي سوى هذا الظلام الذي يحيط بنا . كنت أشعر بأني كذرة الهواء ... هل تعرف كيف هذا الشعور ؟ ... الخفة و الرفعة , هذا ما تظنون ؟  لا , بل إنه شعور اللاشيء . فالهواء مجرد عابر سبيل , يدلف عبر فم شخص يتثاوب ليخرج منه و هو يسعل , دون هدف. لِم من الأساس يوجد هواء ؟ لِم لا نتنفس تفاحًا ؟ أنا أحب التفاح .
هل تحبين التفاح أيتها الجثة ؟ لا تأكليها و أنتِ في الجنة ...
يستمر البحث و لا اسمع حولي سوى صوت الفئران العالقة في سراديب المنازل و على أسقف صناديق القمامة , و بعض الكلاب تعوي , ليثبت هذا الكلب القذر أنه بمقدوره أن يهزم هذا الضعيف . مع من يجب أن اتعاطف ؟ مع القوي الذي لا يعيبه سوى غروره , أم مع الضعيف الذي لا يميزه سوى وضعاته ؟
لم أجد في الحقيبة سوى المزيد من الأوراق الفارغة ... لا يمكنني قراءة ما سطر عليها . كانت هناك ورقة واحدة فقط , استطعت قراءتها . إنها رسالة .
قرأت الرسالة  ( اقتل نفسك بهذا السكين ... )
سألت نفسي حينها , لِم قد أفعل هذا ؟
فوجدت ردًا جاهزًا , و لِم لا تفعل ؟
فأخذتُ السكين من يدها و قتلتني , كانت ميتة سخيفة , فقد شققت رأسي من الخلف . تمدد جسدي جوارها . خرجت بخفة من جثتي الثقيلة و نظرت جواري لأرى المرأة التي ماتت حية تنظر نحوي و تتأملني و على وجهها علامات أثارت في ذاتي التخوف و الحظر .
لم تعرفني بنفسها , قالت لي على الفور بنبرة عملية :
- سنذهب الآن إلى بيتي ... هناك ستعرف ما سبب وجودك هنا .
قلت لها :
- هل دومًا يلزم أن يكون لوجودي سبب ؟
قالت لي :
- هنا على الأقل , هناك سبب . صدقني , سترى السعادة في عيونك التي لم تغادرها الظلمة في لحظات .
لم أرد حينها .. شعرت أنها امرأة ممسوسة . لم اعبأ حتى بسؤالها عما إن كنت في الجنة أو النار .
سألتني في الطريق :
- هل قرأت رسالاتي التي تركتها في الحقيبة ؟
- لا , لم تسطري فيها كلمة واحدة . فكيف لأحد قراءتها ؟
- لكنك قرأت الرسالة الأهم على أي حال ...
- ماذا تحوي تلك الرسائل الفارغة ؟
- كل شيء بذلته في حياته ... قصائد شعر , أغنيات ألفتها , خرافات و حكايات لأناس قد ماتوا ... أضغاث أحلامي التافهة لهم ... تواريخ وفاة أحبابي و ميلاد أعدائي ... أسماء كلاب اقتنيتها ... عدد السيارات التي ركبتها ... جميع المسرحيات التي عرفتها ... عنوانين الكتب ... مجموع ما دفعته على طاولات المطاعم ... لون حذائي المفضل ... مدى كرهي لأختي حين تستعير مني فستاني المفضل ... عدد القبلات التي طابعها المنافقين على وجنتي ... مجموع الساعات التي أهدرتها في التفكير فيما سأقول ... عدد الحماقات التي ارتكبتها ... عدد من أحبوني و لم يتمكن قلبي من حبهم ... عدد من يجبر بخواطر غيره في حياتي ... عدد الحسنات و عدد السيئات التي تمكنت من حصرها ... كم مرة أخبرت من أحب أنني أعشقه ... كم مرة نافقت من أكره و لم أخبره ... كيف تبدو الجنة في خيالي ... كيف أحلم ... بمَ أحلم ... عدد أنفاسي ... و في النهاية ذكرت كم مدينة زرت قبل أن أزور تلك المدينة السوداء .
- و في النهاية متِ كأي شخص تافه ...
شعرت بالسذاجة فيما تقول , فسألتني :
- ماذا تحمل الورقة التي في جيبك قبل أن تأتي لهنا ؟
- قلت ... فارغة , الجانب الظاهر فارغ ... أما الجانب الخفي فهو الجانب الأكثر فراغًا .
وصلنا إلى بيتها , دخلت هي أمامي . لم يهمني تفاصيل البيت إلا أنني رأيت ما اسموه النور لأول مرة في حياتي القصيرة . كما تقول الأسطورة بالضبط , خيوط بيضاء متجمعة في حزمة تحيطك من كل الجوانب , تحاصرك لتخرج من جسدك صورة يتأملها كل ناظر , تكشف قلبك لك ثم لمن يجاورك , تكشف الحقيقة . خيوط رفيعة هشة لا يوجد منها مهرب , لا بداية لها و لكنها تنتهي في خفوت و تحتضر حين يغزو اللاشيء روحك . النور هي الشيء إن غاب حل محله الفارغ . نحن أعداء السماء في مدينتنا .
ثلاث أشخاص يحملون في أيديهم ورق و قلم . قالت لي السيدة الميتة أن لي الاختيار الآن .
هناك ذلك المَلِك الطاعن في السن , ذلك سيهبك الخلود هنا و فقط .
تلك الفتاة ستهبك ما تحتاجه من نور , لنفسك و لتضيء المدينة و لكنك سترجعك للحياة المظلمة من جديد , لكن حين تغادر لا مجال للتراجع , و قد تموت في لحظة ما هناك .
تلك السيدة السمينة , ستهبك النشوة دون ملل , شغف لا يقتله سأم ... فهي قاتلة الاعتياد .
ذلك الشاب , يجعلك لا تندم على شيء , فهو يمكنه أن يعيدك إلى وقتما تريد مرارًا و تكرارًا ... لكنك لن تموت هناك حينها ... ستظل حبيس هذا .
ما هذا العبث ؟ , هكذا كنتُ أخبرها و أنا مشتت .
لا أريد الاختيار . فالاختيار هو الاختيار الوحيد الاجباري أمامي الآن .
و إلا عانيت من كل هذا , من الخلود ... من النور ... من النشوة ... من التكرار ... عدم الندم .
إنها قصة مزعجة , و ستقف عند هذا الحد ... اختاروا لأنفسكم خيار واحد و إلا أخفقتم في هذا الامتحان . 

mardi 3 juillet 2018

رفقًا بنفسك


لقد اشتقت إليها . لقد رحلتُ عنها دون تفسير . في مثل هذا اليوم من عشر سنوات , كان قلبي يتلهف لكي يسمع مجرد نبرة لصوتها . لم أرحل , لقد هربت . لم أهرب منها و لكن من نفسي معها . يا لك من تافه و ساذج ! تعض الآن أناملك ندمًا على ما فوّت . لم تتحمل بضع اللحظات . غادرت دون سبب تقوله . لم أجد حينها كذبة مقنعة تجعلها تصدق أنني لم أرد أن اتركها هكذا . هي سترى ما يطفو من حقيقة أمري ... شخص متخلف و مشوش يهرب دون سبب و نتيجة هذا ستنساني .
هاتفي يرن الآن . إنها تتصل بي . عشر سنوات و لم تمحُ رقمي . جسدي بات كموج يتصاعد ليلتقط غيوم سماوية ثم يهبط ليسمك برمال شاطئ الطمأنينة . أصبحتُ أعمى , فقعت عيناي لكي لا أعذب نفسي برؤياها . لكن قلبي ظل مرابطًا . لم ييأس يومًا منها . كنت أخبره أنني يأست , و أن كل نبضاته مُهدرة , كان يقول لكني أحب أن أظل معها , أحب أن أراها ... اتركنا نحظى بنعمة تأملها . كنت حينها بصيرًا . عشر سنوات من دونها كانت كافية لأكون ضريرًا .
سمعت صوتها فانشرح صدري و ذابت أضلعي المُحاصِرة . أرادت أن تقابلني , لقد قالت أنها تريد أن تقابلني .
تقابلنا في أول مكان جمعنا ... لم أتمكن من مشاهدتها و لكني تخيلتها .
كانت ترتدي الأبيض و الأسود و عيونها البديعة تتأملني كما يتأملها قلبي البصير , بخصلات من شعرها التي أمدت به الشمس و عبّادها , أزاحت ما وقر في روحي من ضياع .
الآن أدركت السبيل . عقدٌ من التيه و في لحظة تجد نفسك قد وصلت لوجهتك التي لم تكن يومًا متيقنًا منها .
كنت أسمع صوتها ... قالت :
- أين عينيك ؟
ضحكت و أخبرتها :
- معكِ .
سألتني من جديد و بنبرة جادة :
- كف عن مزاحك ... ماذا حل بك ؟
أخبرتها :
- لقد اشتقت إلى ... محادثتنا .
قالت :
- و لِم لم تحدثني ؟
- لأني كنت جبانًا ... لكن فلتخبريني أين أنتِ في الدنيا ؟ لا أجد لكِ آثرًا .
- لا تغيّر الموضوع ... ماذا حدث لك ؟
- لا شيء ... لقد وقعت على دماغي ... فضاع نظري , بكل بساطة .
- إذن و كيف جئت إلى هنا ؟ لماذا لم تخبرني بهذا ؟ كنت سآتي لمكان قريب لمنزلك .
قلت بسخرية و رثاءً لحالي :
- أنني صرت ضريرًا فقط , لم أصبح مشلولًا بعد .
ثم ضحكت من نفسي . حينها كنت أريد أن أضمها إلي و أخبرها أنني آسف .
فإذ بي اسألها :
- و أنتِ ؟ أين أنتِ ؟ هل تزوجتي ؟
- لا , بل انتظرك .
انتفض قلبي المضطرب و سألتها :
- تنتظريني أن اتزوج قبلك ... هل هذا ما تقصدين ؟
لم أرى وجهها و لكن الابتسامة جعلت السماء تمطر احتفالًا ليس بكاءً .
فقالت بثقة :
- نعم انتظر زواجك ... أليس في نيتك ؟
- في نيتي ... لكن من سيقبل بمن أضاع نظره ... لسبب ساذج . تخيلي , لقد كان حادث تافه , تعثرت قدمي قليلًا بقدمي الأخرى و هبطت مؤخرة رأسي لتقابل سن الرصيف . تمامًا كالأفلام الرخيصة .
- هناك من ستَقبل ... لكن لا تَخف و ستآتيك في أي لحظة . ألا تذكر حين كنتُ أنا خائفة ... هل تذكر ما كنت تقوله ؟ كنت تخبرني أنني أقوى و سأتمكن من المضي للأمام دون حتى مساعدتك . هل تذكر وقتما حدثتك عن كل شيء ؟ أين ذهبتَ يا ندل ؟ و الأهم ... لماذا ذهبت و أنا في أمس الحاجة إليك ؟
لم أملك حتى الآن ردًا . لا أملك ردًا واحدًا .
- لا أعرف . لكن ما كنت أعرفه ...  أنك دوني لن تتأثري .
فسألتني على الفور :
- و ماذا عنك ؟ ألم تتأثر ؟
- أنا في كل الحالات متأثر ... أنا في كل الحالات ضعيف , و مبالغ في نفسي , و سرعان ما أهرول ناحية باب الطوارئ حتى قبل إندلاع الحريق .
- لكن ماذا فعلتُ أنا ... هل لتلك الدرجة آذيتُك ؟
- ستعرفين في وقتٍ ما ... أنكِ السبيل الوحيد لشفائي من الضرر الذي أصاب عيني ... فكيف للدواء أن يكون داءً ؟
- لا أعرف و لا أفهمك .
- و لا أطلب منك سوى أن تتقبلي عذري عن هروبي , و لكني أجدك الآن تبلين بلاءً حسنًا .
- إذن فالعمى لم يصب عيونك فقط , بل أصاب شغاف قلبك ... أيها الغبي !
لم تتجرأ على قولها من قبل . و تركتها تكمل فتقول بغيظ :
- بلاءٌ حسنٌ . أنت تصدق ما تقول ؟ لقد رحل عني الجميع و لم أملك أحد غيرك يحنو و يُسمِعني كلمات تحتاجها روحي . كنت تشعرني أنني لست بمفردي , كنت أريدك أن تتكلم . كنت أخشى فقدانك . كنت أقلق على غياب سؤالك عني , كنت أخشى أن تفرقنا الحياة , و كنت تخبرني أننا نفترق عاجلًا أم آجلًا . لِم لم تترك الظروف تفرقنا ... لِم تستعجل الفراق ؟ لِم الرحيل مبكرًا ... إن كان حتميًا ؟
أنا منذ ذلك الحين و أنا أشعر بالذنب ناحيتك .
أُعاقِب نفسي على ذنب لا أعرف إن كنت قد اقترفته أم أنني بريئة . هل كنت احتاج لعشر سنوات من أجل إيجاد تفسير لما فعلته ؟ لِماذا ... ؟
اندفعت و قلت :
- لأني كنت أحبك . أحب من لا يحبني كما ينبغي . القلوب و الأرواح ليست بأيدينا , لم يكن من الممكن أن أجعلك تنظرين إليّ كما نظرت أنا إليكِ . لم أكن محظوظًا , فلم أرد أن أصبح تعيسًا . لقد حمدت الله على العمى . أنا الآن في هذا الظلام لا أرى سواكِ . لا أحد يشوش عليّ خيالي . لا أحبط هنا ... هنا في الجنة التي أنتِ ملكتها . لهذا لم أطلب منك الرحيل ... لأني أعرف أنك لن تقبليه بسهولة . لم أرد سوى مأوى يحميني من تهوري و كلماتي غير المحسوبة . كنت سأخسرك للأبد ... مثلما أفعل الآن !
-  من قال أني سأخسرك ؟ كنت أريدك أن تخبرني بهذا منذ عشر سنوات .
- و ماذا كنتِ ستقولين ؟
- لا أعرف ...
- كنت لتقولين ما سيخمد نيران شوقي هذا ... كنتِ ستخذلين أوهامي . حمدًا لله أنكِ لم تخبريني .
- لا تحكم هكذا عليّ ! كف عن هذا ! كنت اتركها لي ... ليتك خاطرت بهذا .
- و ليتك أدركتِ بمفردك !
أمسكت بيدي حينها و بدفء منبعث من أصابعها الحريرية و عذوبة صوتها الذي تحاكيه أبرع الأصوات و هدوء يشي بما حاوه قلبها قالت لي :
- رفقًا بنفسك ... رفقًا بها !
ثم رحلت من جديد .