lundi 15 novembre 2021

دفء في سقيع شتاء

 

لقد وصلت لتوي إلى غرفتي في ليلة باردة و دائما ما اسأل نفسي لِم الكتابة عندي مرتبطة بالشتاء و عند أغلب الكُتاب القريبين لوجداني , كان نجيب محفوظ لا يكتب سوى في شهور الشتاء و كأن مع كل قطرة ماء تهطل بروح مبدع الكون .

 إذا أخبر نفسك ... ماذا فعلت اليوم ؟ تبدو سعيدًا ... لِم لا تذكر نفسك بما أسعدك ؟
إنها قصة مثل حكايات الإمام يوم الجمعة عن الجنة , يخبرك فيها فتلمع عينك و يغمر قلبك شعور باللهفة .

 الغريب في الأمر , لِم تخفت أي شهوة عندي عندما يتحدثون عن الجنة و نعيمها ؟ لعل الأمر عندي فقط . عليّ أن انتهي من الفيلم الذي كنت بصدد إكماله لإرساله لشركة الإنتاج … لكن دعني أسرد لك كيف مضت تلك الليلة .

جانبني الحظ أنني لم التقِ بتلك الفتاة منذ سنة , لقد تقابلنا في القاهرة وقتما كنت في شركة الانتاج أعرض عليهم مسودة فيلم من تأليفي و قد اختلس اليأس شغفي من تكرار تلك المحاولة , لم اسأم من قدر المحاولات الفاشلة , قدر ما سأمت من كم الجمل التي فقدت معانها ( لا أحد يصل بسهولة , لابد من السعي و الله لا يكافئ شخصًا إلا إذا بذل فوق الجهد جهدًا ) .
تُدعى ( صافي ) , تعمل كعارضة و مصممة أزياء , جميلة و وجهها يشبه زهرة الفل النضرة و خصلات شعرها بين البني و الأسود , و العيون غارقة في الزرقة تشبه سماء المحيط الصافية . كانت هناك في مقر شركة الانتاج لتقوم باختبارات تمثيل لدور في فيلم قصير , و أثناء انتظاري في القاعة , لم يكن هناك سوى مقعدين أحدهم وثير – هو الذي جلست عليه – و الثاني يجاورني مباشرةً و لكنه كان كرسي خشبي يبدو غير مريح .

الوقت يسير ببطء , و السكرتيرة تمر أمام عيني و كلما سألتها متى سأدخل للمسؤول عن تقييم الفيلم و نتحدث في كامل التفاصيل و أنا أهمس لها , كان ردها ( أمهلني فقط خمسة دقائق ) , و كنت أمهلها أكثر مما تحتاج فلقد وجدتها مشغولة على الدوام , فأنا أمهل الحياة فرص لحين مماتي , فلِم لا أعير تلك السكرتيرة بعض الوقت . فالوقت عندي هو أكبر عدو لي , فأنه كالشبح لكنه لا يختفي في الغرفة المظلمة و لا يسكن في الأزقة القديمة أو العمارات العتيقة . إن الوقت هو ظلك , لا تهرب منه و لا يظهر سوى إذا سُلط عليك ضوءًا , الضوء يأتي من يأسك , فكلما يأست ... استضخم ظلك .

فلما مر وقتٌ ليس بقصير قررت أن أدخل لأشرب كوب ماء , فتركت المسودة و رحت لأغسل وجهي و استنشق بعض الهواء و دلفت إلى طرقة حيث يمكنني أن أدخن سيجارتي .

فإذ بي حين رجعت , وجدت صافي , تمسك بالمسودة و هي منهمكة , و قد قرأت عشرة صفحات تقريبا . و حين اقتربت منها , سألتها :

-       ليست سيئة , صحيح ؟

فردت متبسمة :

-       إن كانت سيئة , كنت سأضعها مع أول صفحة من السيناريو , ثم همست لي متسائلةً , هل فعلًا ستقدم هذه المسودة لشركة انتاج مثل هذه ؟

-       ما يجبر المرء على ارتكاب معصية سوى الاحتياج ؟

قالت لي :

-       هذا السطر بديع اكتبه في السيناريو , لكن ليس هكذا تسير الأمور. هل لك معارف في تلك الشركة ؟

-       زوج أختي , هو صديق صاحب الشركة .

-       إذًا لِم جئت من الأساس , مبروك العمل سيقبل .

بهذه الجملة فقد خدشت حائط كبريائي , فنظرت إليها :

-       لا أظن , إذا كان العمل رديء , سيُقبل مهما كانت الوساطة . و أنتِ بنفسك قرأتِ عشرة صفحات تقريبًا , فهذا يعني أنها نالت بعض من إعجابك .

-       لا تخطئ فهمي , يا ... – بعد ما نظرت لغلاف المسودة و قرأت اسمي – يامن , لقد قصدت أن تخطو خطوة بعيدًا عن الوساطة لتعرف فعلًا هل تستحق السيناريو النجاح أم لا.

-       حصل خير ... ثم صمتُ و تركتها لأشرب سيجارة أخرى بعد أن أخبرتني السكرتيرة بنفسها أني سأدخل بعد مودموذيل – هكذا نطقتها – صافي .

فإذ بي افكر فيما قالته لي بجدية , هل استحق تلك الفرصة أم جاءتني بسبب المعارف ؟ و جال بخاطري استحقاق الشخص لأي شيء , منصب , مال , سلطة , صحة ... لتتوقف تلك الاسئلة بإجابة _ تبدو مرضية – إن الله يقسم الرزق بيننا بعدل في الدنيا , بمقياس أدق من مقياس الذهب . فأخذت المسودة , و اعتذرت للسكرتيرة متذرعًا بأن الوقت قد داهمني و أن لدي موعد لا يمكن لي التأخر عنه و لم أتح لها الفرصة حتى الفرصة لكي تسألني عن ميعاد جديد .

رجعتُ , في طريقي إلى قهوة و كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءً , و برد الشتاء في القاهرة جعلني أرتجف و فؤادي لا يكف عن الخوف و قلبي عن الارتعاش .

هاتفي المحمول يرن في جيبي , و أنا أدلف في شارع جانبي لشوارع وسط البلد , فإذ بي أرد لأجد صوتها يقول لي :

-       أستاذ يامن صحيح ؟

-       نعم يا فندم , من معي ؟

-       أنا صافي , لقد رأيت تغادر المكان و لم استطع أن ألحق بك , و لا تسأل من أين جئت برقم هاتفك , بكل سهولة طلبته من السكرتيرة و أعطتني إياه دون أي تردد ... أردت فقط أن أعرف إذا كنت قد قررت الرحيل بسبب ما قلته لك .

-       هل أبدو لكِ بهذه السذاجة ؟ بالطبع لا , الأمر فقط أن عندي مشوار مهم و قد تأخر الوقت فخفت ألا أصل في موعدي .

-       هذا بالضبط ما أخبرتني به السكرتيرة . هل يمكن أن أطلب منك طلبًا يا أ.يامن ؟

-       بالتأكيد

-       أريد أن أكمل قراءة المسودة , فهل لي أن اقابلك و تعطيني نسخة منها اقرأها .

فإذ بي أخبرها أني في قهوة في وسط البلد , فلا ضير من أن تأتي الآن . فوافقت على الفور .

وجهي كان يلتقط الرياح يومها و يدي تستدفئ بالشاي و فمي يتذوق النعناع , فإذ بالرياح تتعطر برائحة صافي فبمجرد قربها مني , أعدلت من رأسي المنكب على المسودة لتعدلها قبل نسخها و إعطائها النسخة المطلوبة . فإذ بها تمد يدها بين راحتي اليمنى و تبتسم و تقول لي :

-       لم اتأخر , فصديق زوج أختك لم يعجبه تمثيلي .

-       لقد رفضوكِ ؟ فعلًا ؟ الصراحة , يبدو أنك ممثلة جيدة و لكن ...

-       لكن ماذا ؟

-       لا تبدين كالمتملقات ... ماذا تعملين و لِم أنتِ هنا أساسًا ؟

-       لقد عرفت من إحدى صديقاتي أن هناك تجارب أداء لدور في فيلم قصير فآتيت عسى أن أشق طريقي في هذا الفن . لكن عملي الأساسي , كمصممة أزياء و عارضة في بعض الأحيان .

-       هل أنتِ مهتمة بفن السينما في المطلق ؟

-       طبعًا , لهذا لم اتمكن من منع فضولي لأقرأ تلك المسودة . هل تعرف هذا الشعور ... أنا حين أمر ببائعي الكتب عند سور الأزبكية أو أيا من تلك المحلات الصغيرة الخاصة بالكتب , أشعر بشهوة ما لاقتناء تلك الكتب , لا لترصص بجانب بعضها بل ليلتهمها عقلي , لو كان الخلود له فائدة واحدة سيكون في أننا عندنا متسع من الوقت لنقرأ كل الكتب و نأتي بأساليب و تراكيب لغوية و أدبية جديدة .

-       تعصف بي تلك الفكرة كثيرًا , لكني حين أفكر في الأمر , الوقت عندي هو البوصلة , بوصلة للمعاناة , متى تبدأ متى تنتهي . تخيلي الحياة دون وقت ؟ الوقت اتخليه كالروح , لا نلمسه لكن نشعر بأثره . آثر الوقت في النسيان , أثره في الحب ... كلما طال تجدد و كلما قصر تبدد .

رأيت نفسي استرسل , فإذ بي اتوقف للحظة , واسألها : كم نسخة تريدين من المسودة ؟

فإذ بها تنفجر ضحكًا , و تخبرني :

-       لقد أبديت إعجابي بالمسودة لكنها لم تصبح من كلاسيكيات السينما بعد . فنسخة واحدة ستكفي .

 

و أنا في طريقي لأقرب محل لتصوير المستندات , جال عقلي بما تقوله عن الشهوة :

( لِم ترتبط الشهوة في عقلي بالجنس و الماديات فقط ... لِم لا اشتهيها حين تحدثت معي و أجعل الحديث ينقلب و تأتي معي لبيتي , فقد مر وقتًا ليس بقليل على آخر مرة أقمت علاقة مع أحد . أجد لذة مختلفة و سامية في التحدث معاها , لقد وجدتني أتفكر أكثر , في محادثة واحدة جال عقلي بعشرات الفِكر و أمام عيني شريط بمشاهد مختلفة من أفلام أعشقها تحدثت عن شغف الإنسان ... مثل جون لوك جودار و آنياس فاردا . و السير الذاتية لبروست و جان جاك روسو و جورج بايرك و قصص تولستوي الواقعية الأليمة و قصة المدينتين لديكنز ... كل تلك الفنون تبدو لي كفناء لي أنا و هي فقط ... )

( تعقيب من صافي على مسودة القصة بخط يميل للانحراف ليتبينه يامِن )

·      حين ذهبت , قلت في نفسي أنك أول من اعجبه بما قال أكثر مما يبدو , لم تكن تلفت نظري و كنت أكثر من العادي , لكن كلماتك جعلتني أريد أن أعرف ما يجول بخلدُك , و هذا الآثر الفعلي للفن , لا يوجد قبح في الفن , حتى القبيح مثل فن الجروتسك يقدم في قالب من شأنه أن يجعلك تثور أو يجعلك تصل لروحك الثقيلة و تطمنها كالطفل المذعور . كنت أشاهدك و أنت تتحدث و لا أرغب أن تنهي كلامك . لسبب ما وضع الله فيك من روحه نعمة الخلق .

رجعت من حيث آتيت , فسألتها :

-       أخبريني ماذا عليّ أن أفعل لكي أنفذ سيناريو مثل هذا ؟

قالت على الفور :

-       مبدأيًا , توثق المسودة لضمان حقوق الملكية الفكرية , و أكيد هذا شيء لا يفوت شخص متمرس مثلك . ثم تقوم بتأجير معدات للتصوير و أنا لدي صلات بمخرجين شباب موهوبين يمكنني أن أصلك بهم , لهذا السبب طلبت منك النسخة , ليس الفضول هو الدافع الوحيد , المخرج سيساعدك على تنفيذ السيناريو و المال ... إذا أعجبني هذا السيناريو , سأكون أن المنتج له و سنرسل الفيلم لمهرجانات عالمية و صدقني لو قُبل العمل و عرض في مهرجان خارج مصر , ستكون هذه بداية مبشرة . أنت في بداية المشوار صحيح ؟

-       صحيح , أنا 36 سنة و بدأت كتابة السيناريو منذ 2015 , هذا يعني حوالي 6 سنوات

-       و ماذا كنت تعمل قبل دخولك هذا المجال ؟

-       اعمل محامي .. خريج دفعة 2009 . لكني تركت العمل في المحاماة حينها كنت أعمل كمحامي صالة .

-       ألم يكن لديك مكتب ؟

-       كان مكتبي في صالة بيتنا .

-       لهذا تسمي نفسك محامي صالة .

ضحكت في أسى و قلت :
- محامي الصالة , يعني أنه محامي بلا موكلين , فقط يقتاد على الغرباء عن المحكمة و على من جاءوا للمحكمة لاستخراج حكم أو انجاز ورق إداري , و يأخذ ما فيه النصيب . هل تعرفين هؤلاء الشباب الكادحين الذي يقفون على ناصية الشارع و يستفسرون هل تريد بدلة يا أستاذ ؟ كم اتذكر نفسي في تلك الصالة الفسيحة لمجمع المحاكم , فكرت وقتها للحظة و أنا أقف أمام القاضي في جلسة إجرائية , في مفهوم المحاكمة , من يُحاسَب و من يُحاسِب ... خطر ببالي محكمة الموتى و هل ستكون الريشة أثقل من قلبي . و فجأة حينها تركت القاضي و القاعة بعد انقضاء الجلسة و قررت أنني لا أريد أن أموت إلا وأنا اكتب , فمنذ 2016 و أنا اكتب و تعلمت فن السيناريو في المعهد العالي للسينما , و كنت اعمل في نفس الوقت في محل فطاطري . 5 سنوات عند عم شندي الفطاطري , جعلتني أحب ذلك الرجل حبًا جمًا , حتى لقى وجه كريم فأغلق المحل بسبب تنازع الأخوة على ميراثهم . إنها كالعادة قصة الغيرة التي أودت بحياة الأخ , طالما سألت نفسي لِم لا نحاسب هابيل على أنه لم يكن حنون على أخيه حين رفض الله منه قربانه ؟ لِم هناك صراع في السينما كأحد أهم عناصر الفيلم , لم يحصل أن خرج الكثيرون عن تلك القاعدة و كأن الحياة خير و شر , موجب و سالب . و الأمر أنها ليست كذلك , اتخيل أن تصور دانتي في رحلته أكثر التصورات الأدبية عمقًا و دقة , فلم يكن هناك نار و جنة فقط ... بل كان هناك مطهر , كجسر يعبر فيه من في النار للجنة , و أردت أنا أن أجعله جسرًا للعكس , لكن حين فكرت فيها تذكرت كلمة أبي ( من شهد نعيم الجنة , لن تمسسه النار أبدًا ).  

كانت عيناها تبتسم و وجهها يخبرني أنها في ذروة نشوتها , فسكت قليلًا , فقالت :

-       لِم تكتب ؟ هذا سؤال يُسأل دومًا لأي كاتب مشهور , فهل تعرف ؟

-       لا أجد من يعبر عني سوى قلمي ... أي فن ... حقيقي .. يجب أن يكون له أبعاد كقطعة الكيوب , تلك الأبعاد تتداخل لتشكل و تنتج مفهوم مختلف . فأنا قد أقول لشخص (أحبك) , لكن حين أكتبها له سيختلف سياقها و معناها سيتطور بتطور فكر القارىء .

-       أظن من يكتب , لا يجب أن يكون له هدف سوى التعبير عن نفسه , فإذا أصبح الكتاب غير شخصي فلن يمس وجدان القارئ و لن نتمكن من تمييزه عن مقال عملي محايد . فكم أكره الحياد , أكرهه حتى في العلم , رغم أن قوانين الكون لو حادت عن كونها غير متغيرة كعلم الرياضات و ثوابت الفيزياء فسنفنى , لهذا العلم يبقى بقوانين أما الفن رغم ارتباطه بالواقعية أحيانًا فلا يمكن أن تجد قانون في السينما . أظن فن السيناريو نفسه الذي درسته بنفسك خير دليل على هذا . ستجد أدوات سرد مختلفة و أفلام يختفي منها الحوار و أفلام بلا أحداث و الحوار هو الحدث ... كذلك اللوحات , لا اتعجب من استغراب الناس لثمن اللوحات الباهظ , رغم أنها في عيونهم مجرد خطوط متعارضة لا يوجد بينها انسجام . ما يعطي تلك اللوحات قيمتها , هو مدى خصوبة اللوحة نقديًا , هل تعرف لِم الروايات الرمزية هي التي تحوذ على إعجاب النقاد ؟ لسبب بسيط لأنها مليئة بالتفسيرات و إن زادت بساطتها زاد تقدير الناس لها , و إن زاد التعقيد زاد تقدير النقاد لها .

حينها أدركت أنني أريد أن أسمع لها أكثر فكلماتها على مسامعي مقطوعة لا تتوقع أي حركة جديدة ستصدرها .