vendredi 27 mars 2015

صُدفة مُتوقعَة

صُدفة مُتوقعَة


الفصل الأول
هم ثلاثة لم يتصوروا يوما أن تُفرقهم متاهات الدُنيا ، إنهم ليسوا كباقية الأصدقاء ممن يقضون وقتهم فى إلتقاط الصور و مجاملة بعضهم بالكلمات ذات الإحساس المفقود ... ثلاثة أخوة من نَفس الجِينات ، كانت الروعة فى تبادلهم أطراف الحديث ، دون حواجز و لا سخرية مُبتذلَة ... يُصلون غير مُتكلفى التقوى ، يضحكون و حدَهم هو الهزل ، يقرأون و غايتهم المتعة و ليس التفلسف .
شخصيات مختلفة ، ابعدتهم صدفة و جاءت بهم فى بُرهة ..... !!
طارق ، أُسندَت إليه مهمة حضور مؤتمر لرجال اﻷعمال الشباب من قبل رئيس شركته المنعقد فى شرم الشيخ ، و قد قارب من السن الثلاثون ، و قد لقب من قبلهم بال"مبذر" و عندما وصل نبأ تعيينه لأصدقائه ، كان التوقع منهم " البنك فى ظرف يومين سيشهر إفلاسه " ... هذا التوقع جاء من أصغرهم عمرا و من لقبوه ب"صاصا" ، كنية لاسمه الحقيقى مصطفى .
مصطفى ، صاحب الأربعة و العشرون عام لم يَعرِف فى حياتِه إلا الإبتسامة ، لم يذهب الى سُرادق للعزاء حتى لا يُسبب إحراج لأقارب المتوفى بسبب وجهِه الضاحوك ، كانت بداية البسمة عنده لتصل لنهاية تدمع العيون من أداء لا يقل أبدا عن أى مُهرِج فى السيرك ، بعد ما حصل على شهادة جامعة حكومية ، امتهن العديد من الأشياء حتى جاءت الفرصة و ظفر بوظيفة فى إحدى محال تأجير معدات الغوص فى شرم .. و عندما آتى قبَّل يداه و حمد ربه قائلاً " الحمد لله يا رب ، اشتغلت الحاجة الوحيدة اللى بفهم فيها " ...
حسين ، كان لا يعرف فى حياته سوى قصص الغرام و منذ صغره كان متيم بفيلم " تايتانيك " ، مُرهف الحِس ، تبارت الفتيات من أجل امتلاك قلب حسين ، و آنذاك كان هو راهب ... لا تمتلكه أيا منهن فقط سمح لهن أن يتلقين منه بعض الكلمات الرقيقة ، و بعد مرور ربع قرن من الزمان منذ جاء للدنيا.




الفصل الثانى
لطالما حمل كل من حوله الغبطة لجمال شخصيتها ، تأدبها فى حديثها ، خجلها غير مُصطنَع ، روحها المرحة و تحولت الغِبطة لحسد حين آتى مازن .. طفلاً جمع بين روحين لا يفترقان ... فقد أحبها حُب حواء لآدم ... حب الروح الواحدة .
حسين ، ثالث الثلاثة ، جاء قادمًا من اﻻسماعيلية حيث يُقيم و برفقته مازن و نوران زوجته ليستمتعوا باجازة هادئة فى إحدى القرى السياحية ... ليأخذ قسط من الراحة ، من المَدرسة و التدريس .
انتهى طارق من إستعداده لليوم التالى ، و قد أتطلع على جميع الملفات المطروحة فى المؤتمر و قد تبقى من الوقت ما ليس بالقليل ، فقرر الغوص بما أنه بمفرده و حتى يصبح بعيدًا عن مشقة العمل و بالفعل أتمّ ما قرره ...
حسين ، من أول بُرهة طأت قدميه المكان ، سعَى جاهدًا ليرسم البهجة على وجه نوران و مازن ... فأول يوم لهما سيكون على ضفاف البحر و يستجما و هذا أثار حفيظة الزوجة الغيورة و تجاذبا و تنافرا إلى أن كفة الغيورة غلبت المُغَار عليه ... و قد قررا الإستمتاع بمنظر البحر من شُرفتهم أما مازن فيكفيه فرحا أن يعبث فى حمام السباحة .... و بعد موافقة "مُرهَف الحِس" أخذ يتحجج حتى يَخُرج و يقضى أجازته بعيدًا عن روحه لسويعات ... ..
فأسرَع على سلالم الفندق ، حتى كاد يسقط و كأنه حصل على براءة من مؤبد ... احيانا يكون الحب قيدا لا تمتلك له مفاتيح . و إذا به يصطدم برجل ضخم الهيئة ، يرتدى قميص يبرز جسده الرياضى المتناسق و شارب قد أُزيل لتوِه و لحية شابهت عشب الخريف .....


الفصل الثالث
_أسف جدا .. مأخدتش بالى ... من ثمّ تمعن وجه الرجل الذى اصطدم به و شعر حسين أنه يألفه و لكن تراجع " يخلق من الشبه أربعين .. أكيد مش هو "
_عادى محصلش حاجة . رد طارق بصوته الجهورى الذى يناسب هيئته الضخمة تماما و لم يكترث و استمر فى طريقه و لم يأبه بالموقف .
و فى حين أدرك طارق سبيله ، كان حسين هائما لا يدرك وجهته فقط يسير .. و لكن هذا التيه وهبه راحة اشتاق إليها ...
و بمجرد تخطى المتجر الخاص ، و ترّجل لبعض الخطوات فصار نائيا لكن أثارت الضوضاء نفس حسين و خصوصا أنه رأى حشد من الناس يحيطون بالمتجر .. ففضوله وجهه عائدا لمسرح الأحداث .
الفصل الرابع
أحيانا الفضول يَقتل ... يَقتل و لا يُقتَل .
أدخل حسين ذراعه بين أجسام اصطفت ، و حاول جاهدًا ليصل و يحتل مكان ليشاهد الموقف و يحاول فك الاشتباك .
و بالفعل ، بعدما نال المركز اﻷنسب ، فإذا بالرجل و الشاب يتعانفون و كلاهما قد أصر على رأيه .. طارق العنيد قد قدر سعَّر المُعدات بما لم يُرضِى مصطفى ال"فِتَك" ..
نظر حسين لما رآه و هو فى غاية التَعَجُب ... " ازاى مش فاكرين بعض؟ ! و الله الدنيا ديه صغيرة فعلا " .
فإذا به ينظر لطارق و يتأمل انفعال مصطفى ، و فجأة و دون سابق إنذار و وسط سكوت يتبَع العاصفة تلك المرة .
أنزل حسين كفه ، ليُخلاط وجه مصطفى ... صمت و ذهول الجميع بما فيهم طارق
قائلا " أخوك الكبير يا صاصا يا تافه " !!





الفصل الخامس
عندما أصغَى مصطفى للقبه الذى مضَى الكثير و لم يسمعَه ... مُجرد كلمة " صاصا" أرجعته لطفولة و عنفوان مراهقته .. تلك اللحظات التى طبعت فى ذاكرته ، لم و لن تمحى ، و بعد تلك الصفعة من حسين ، وثب مصطفى و راح يحتضن صديق درب حياته ... عِنَاق أنساه الصفعة ..ذابت كالسكر فى كوب الشاى الساخن . أما رجل الأعمال فأخذ يستوعب ما يجرى ، صفعة يصاحبها عناق لا يحمل إلا الشوق .. فتساءل ( دول عالم هبلة باين عليهم ) .
و فى وهلة نظر مصطفى لطارق ، و قد كانت نظرة اختلفت تماما عن مثيلتها منذ لحظات .. و ضحكا حسين و مصطفى متأملين طارق المندهش ، غير المُستوعِب لما حدث لتوه ..
حسين : أنت لسه موصلتكش المعلومة يا "مبذر" .
طارق وسط صمت مقيم ، كسر بكلمات نطقها : حسين الحونين ... و صاصا التلفان .
و بالفعل اندفع نحو حسين و احتضنه حتى اعتصره بين ذراعيه المفتولتين و بنفس الطريقة جاء عناق ل"صاصا" و لكن لم يسكت بل حاول مصطفى الافلات منه معللاً طلبه قائلا : ربنا مديك صحة .. متخلصهاش عليا لوحدى يا أستاذ طارق .
انفض الجمع من حول الثلاثة و بعد أن مضت لحظة اللقاء .. و قد حانت الفرصة ليمضوا ليلتهم سويا خاصا أن مصطفى لم
يكن قد انتهى من عمله فى المحل و كانت الساعة الثالثة عصرا .. و لهذا اقترح أصغرهم أن يتقابلوا مرة أخرى فى ذات المكان و لكن فى تمام العاشرة مساًء ..
فأجابا اﻷخرين بالموافقة على الفور ، و تساءل حسين : حنروح فين طيب؟
أردف طارق : مش فارقة المهم نكون مع بعض ، و بعدين مادام معنا "صاصا" يبقى حتبقى رحلة متتنساش .
ابتسم مصطفى قائلا : خليكوا واثقين فيا .. أنا من كتر القعدة هنا حبقى مرشد سياحى قريب .
إلى لقاء مترقب ، افترق الثلاثة و القلوب قد انتشت بلقاء الجميع كان فى أمس الحاجة إليه .....
الفصل السادس
إنها قارَبت العاشرة ، مُجرد دقائق تفصلهم عن اللقاء المترقب .
وصلوا فى العاشرة تماما ، و قد انتظر طارق و حسين ما فى جعبة "صاصا" .. و عندما أراد حسين الاستعلام من مرشدهم عن وجهتهم .. جاء رد مصطفى : المفاجأت مينفعش تتقال قبل ما تشوفها عينك .
و قد بدأت الرحلة ، صحراء شاسعة عامرة بالصخور و الرمال المحمولة على الرياح .. و فقدوا حينها الاحساس بأيديهم .. يتسلقون المرتفع هذا و ينخفضون مع كل سهل يُقابلهم ، و طارق و حسين اتفقوا على جملة واحدة تذكروها كلما أجهدوا ( كله يهون ما دام فى مفاجأة ) ..
نظر أحدهم فى ساعته ، و بكل حماس و اندفاع لا يدركه سوى قائد معركة ضارية : ( انت يا زفت انا صحتى على قدى أحنا حنوصل امتى ) .
فسرق مصطفى يديه و قاله ( وصلنا اهو .. ايه رأيكم ) مبتهجًا مهللاً و كأنه وصل لجنة عدن .
رفع طارق حاجبه ، و تحسس لحيتها التى فى سبيلها للظهور ، قالها و غضبه قد تجاوز الحد المقبول ( لا هايل ، منظر جميل ، جايبنا كل ده عشان نقعد نتفرج على جبل .. هى ديه المفاجأة )
حسين قاطعه ( لا يا عم انت متعرفش مصطفى .. أكيد عارف المكان ده كويس بس هو بيهزر (
_لا على فكرة انا مبهزرش .. بس مكان جميل كده لوحدك .. مفيهوش صريخ ابن يومين .. نتقتل و محدش يعرف يجبنا ) هكذا برر موقفه ، وسط اندهاش اعترى حسين و غضب حمله طارق حتى احتقن منه قائلا ( انت عمرك ما حتكبر يا بنى .. جايبنا مكان انت مش عارفه و لا فيه ناس و لا حتى فيه شبكة)
استوى مصطفى على أحد الصخور ذات السطح الأملس ، مشاهدا للقمر و لم يعنيه أى شئ سوى أن يستمتع باللحظة .
الفصل السابع
احتقن حسين و ضرب بقدميه الرمال و استحال وجه لكرة من النار فى ظلام دامس حاصرهم من جميع النواحى .. و مع كل ضرب يُزيح كتلة من الرمال مكونا ثقبًا احتوى حقيبة لا يعرف لها مالك ظهر منها جزء تحسسها حسين بقدميه و أشعل طارق النار بأخر عود كبريت فى جيبه لينتشلوا هذه الحقيبة و يعرفوا ماهيتها .. و بالفعل أخذوا فى تفحصها عندما آتى "صاصا" بكشافه لينير ما ستره الليل و دفنته الرمال .
كم من الورق الهائل ، شركات و حسابات فى البنوك و أرقام لا تعد و لا تحصى ... مع كل ورقة يرتاب مصطفى و حسين ، و مع ذلك لم يأبه طارق باﻷمر و حدثهم ( كل ده ورق ملوش قيمة... رجعوا الورقة مكانه )
مصطفى : ( يا عم خلينا نشوف حنخسر إيه؟ ! )
حسين : ( ارميها يا مصطفى و سيبها و خلينا فى الخيبة اللى حلت بينا يا عبقرى .. نقولك عاوزين نخرج تقوم توهنا )
أمسك حسين بيد الشنطة و بعد أن فرغت من الورقة و كاد أن يلقى بها لتدفن من جديد .. استثقلها و تساءل ( الشنطة ديه فيها حاجة .. ثقيلة ليه؟ ! )
طارق اطفئ آخر سيجارة و أمسك بالحقيبة و تعالى صوته ( يا عم ورينى كده .. ادى الشنطة اللى مضايقكم ) و انهال عليها بيديه التى سرعان ما
تحولت إلى نصل حاد و بدأ يفتك بضحيته ..
و بعد أن لفظت انفاسها الأخيرة ، رفعها و مد يديه فى الهواء و أخذ يأرجحها حتى انهالت نقود من تلك الجراح العميقة التى تسبب فيها..


الفصل الثامن
صدمة خيمت على الموقف ، لم يصدق أى منهم أن تلك اﻷموال غير محصورة
مصطفى : ( يا دين النبى .. احنا بقينا أغنيا مرة واحدة ... مبدئيا كده تتقسم علينا قسمة العدل و محدش يقول ديه مش بتاعتنا لو حد قال حرام أنا حتطلع عن شعورى و ممكن اتلفظ بحاجات متعجبشكم فانلم فلوسنا كده )
طارق : ( يا عم براحة على نفسك انت لقيت مغارة على بابا .. مش كده .. الفلوس على بعدها متكملش ميت ألف دولار )
استعجب حسين من رد طارق : ( طبعا ده مبلغ صغير بالنسبة لك .. يا مؤمن دا أنا جاى شرم هنا بعد ما عملت جمعية و قبضتها اﻷول )
مصطفى : ( لا خلاص انت مش محتاج تعمل جمعيات تانى يا سحس ، انت ترستق أمورك بالفلوس و تنغغ نفسك انت و أم مازن و مازن )
( الفلوس ديه مش بتاعتنا ، مش حناخدها و خلينا نرجع بقى لمكان ما جينا بلاش وجع دماغ ) شهيق طويل ، زفيره لم يطل من قبل طارق بك .
مصطفى : ( انت مش عاوز و لا محتاج غيرك محتاج و بعدين ......)
و إذا بضربة موجعة فى مؤرخة رأسه طرحته أرضه ....
الفصل التاسع
لم يستفق مصطفى ، حتى وجد وجوه لم يألفها من قبل و نظر من حوله فإذا به يرى حسين و طارق مكبلين و أيديهم من خلفهم منكسى الرأس ... و عندها تأمل رجل ذو عباءة بيضاء و لكنة بدوية يتبينها الكفيف .
مصطفى : ( إيه يا عم ده .. إحنا فين؟ و أنتو مين؟ و مين الغشيم اللى ضربنى ده .. اشوفه بس )
و عندها استفاق طارق و استعاد حسين وعيه ، عند سماعهم صراخ صديقهم الذى فى طريقه للانتحاب .
رد صاحب اللهجة البدوية الجلية فيما معناه أنهم اجتازوا حدود قبيلتهم و هذه حدود النار من يتعداها لن يخرج منها سوى ليلقى نار أشد .
حسين : ( لا بالله عليك ، عندنا عيال عاوزين نربيهم .. قولنا طالبتك و احنا موافقين )
و آتى طارق مسرعا بعرض لا يمكن رفضه ( بص احنا نتفق تسيبنا نمشى و حد يرجعنا ﻷقرب مكان للفندق .. و مقابل ده نديك مية الف دولار ... افتكر مفيش أحسن من ده عرض و لو اقتلتنا انت مش كسبان .. فكر العرض مغرى ) حينها ظهر ما يبرع فيه طارق و هو إقناع العميل بالعرض .. و بالفعل أومضدت عينا أحد وجهاء القبيلة .. و استحسن العرض المقدم ... فكت القيود و أخذ البدوى الأموال و على وجهه نهم و طمع لا آخر لهم .
بعد أن انتهى الموقف بأقل الخسائر ... و غادروا المكان بصحبة مرشد من القبيلة ليدلهم على الطريق ... و على باب الخيمة رجع مصطفى و على وجهه مشاعر غضب و الاحتقان و اتجه نحة القبيلة مندفعا فى ظل خوف من صديقيه من أى حماقة من الممكن أن يرتكبها هذا " التلفان " .....

الفصل العاشر
مصطفى : ( عديت فلوسك يا عم الحج ... مقولتليش مين اللى ضربنى على رأسى .. ما انا مش حسيب حقى ) و فى الحال أجاب أحد الحراس و تحول أسفل مؤخرة رأس مصطفى لمحصول فراولة طازج .
( هو حضرتك؟ ! أنا بحيي فيك قوتك ديه .. ايدك تقيلة ... فرصة سعيدة ... سلامو عليكو ) قالها "صاصا" وسط استهان حصل عليها من خاطفيه و سخرية صديقيه طوال الطريق حتى وصلا إلى متجر "مصطفى"
إنها السابعة اﻵن ، بالطبع على حسين أن يهرول ليطمئن نوران و يطمئن على مازن و طارق أيضا يجب عليه أن يهرول استعدادا للمؤتمر الذى سيعقد بعد حوالى الساعتين ... أما مصطفى فسيهرول إلى منزله و لن يخرج منه حتى تقل درجة حرارة أسفل مؤخرة رأسه .
و افترقا الثلاثة ، آملين فى صدفة أخرى تجمعهم ، و كل يغنى على ليلاه متذكرين اﻷموال .. و حدثوا أنفسهم
مصطفى : ( الفلوس مش مكتوبلنا .. أرخص حاجة دلوقتى فى حياتى هى الفلوس .. و أغلى حاجة هو أنك تلاقى اللى جنبك و انت مبسوط معاه ... صحابى دول مبتعوضوش (
حسين : ( فلوس ايه بس .. كفايا الستر و الصحة و ان مازن و نوران بخير(
طارق : ( أحلى حاجة فى الرحلة ديه أن كل أحداثها جات صدفة .. زى ما قابلتهم كده انهارده )
و كما قيل من قبل " كلٌ يُغنى على ليلاه " ......

jeudi 26 mars 2015

الغائب الحاضر




عيناه شاخصتان ، تتأملان لوحة زيتية فيها منظر خلّاب آخّاذ ... واضع سماعات الأذن و مُمسكاً بهاتفه وسط صمت ساد الموقف فى العيادة      .
أُم لم تعرف طعما للنوم منذ يومين أو أكثر ، و مع صرخة آلم مُدوّية يُصدرها إبراهيم من أعماق جسده الهزيل الذى طالما تعرض بسببه لسخرية زملائه فى المدرسة و أصبح مثال يُحاكِى الصبى المَقهور فى اﻷفلام و لكن الفرق هُنا أن إبراهيم على علم تمام أنه لا يعرف سوى هذا الدور الذى سأم تأديته .
كان دائما يسعى إبراهيم جاهدا أن يصل إلى سارة ، التى لم تكن فى غاية الجمال فى نظر أغلب الصبية ... إلا إنه لم يجد لها مثيلًا ، كان يطوق لرؤيتها من بعيد ، و اعتبر يوم بعثه من جديد حين آتت إليه لتتطلب منه أن يساعدها فى نشاط مدرسى طُلب منهما . إنها الوحيدة التى كانت تعلم ما يخفيه إبراهيم ، على الرغم من حداثة سنها .
أمسك بقلمه و أتى بكراسة صغيرة لم تفارق جيبه ، و أخذ يكتب بلا هوادة و كله تركيز على الكتابة ، كتابة سرية أقرب ما تكون إلى ملف استخبارات يدين رئيس دولة ، لذا لم يتمكن أحد من الحصول على مجرد سطر من هذا الكائن المنطوى على نفسه ، لا يعرف سوى قلمه و شخصاً واحداً بداخله يتسامر معه عند إنتصاف الليل حتى ولوج الشمس فى عطلته ، يحادثه بصوت منخفض بهمهمة لا يمكن لأعتى الجواسيس التصنت عليها . لم يكن ذلك سهلا على أعضاء بيته تصور أنهم يتوجب عليهم التأقلم مع وضع إبراهيم الصامت الذى يدخر كل كلمة و كأنها ثروة أجهد نفسه فى جمعها و حصرها . كانت جدته ، المُلقبة من قبل أم إبراهيم بماما و هى قد جاوزت السبعين ، تتردد على أذن ابنها محمد و زوجته أم إبراهيم بأن تذهب للشيخ فلان ليرقى إبراهيم و يقرأ عليه قرأنا لعله "ملبوس" . لم تعر فاطمة لوالدة زوجها إنتباهًا و اكتفت دوما بقولها " حاضر يا ماما " ، أما محمد فهو موظف تتلقى الديون راتبه أخر الشهر ، ما يأخذه بيمينه يُؤخد من يساره و ذلك على الرغم من أن الله لم ينعم عليه سوى بابراهيم .. و لكن ماذا بيده سوى خمسمائة جنيها يأخذها من شركة حكومية أوشكت أن تعلن إفلاسها و لن يناله منها سوى معاشا لن يغنى من جوع ، لم يكن البيت له سوى سرير يفترشه يقبل يد أمه و جبهة فاطمة و يأكل لينام و يستأنف يوم جديد مع سماع أذان الفجر  .
سعى صبينا ، سعياً حثيثاً ،ليكون عَوناً لأبيه و يُساعده فى سد ثغرات حياة تلك الأسرة التعيسة . كانت الفكرة تأتى للفتى - الذى قد إمتاز بسرعة تَلقِى الأوامر و تنفيذها فى برهة و على أحسن صورها- من التلفاز ذي الشاشة الصغيرة الممثل لمصدر البهجة للجميع و حينها رأى كيف تبدأ رحلة بطل الفيلم فى ورشة الميكانيكى و منها يعانى ليصل لمكانة ذو شأن فى مجتمعه .
و بالفعل فى تَكتُم ، كان يذهب لورشة اﻷسطى و أدرك أن الحياة ليست رواية بل هى أقسى بكثير ... إهانة يَرُد عليها بصمت لم يتعلم غيره .. صمت فيه صراخ مدوٍ مع كل يد تمتد لتطول كل جزء فى جسده .. كل هذا فى صمت!
توجَع و كان يدخل يوميًا متأخرًا ، على عجلة من أمرِه ، للبيت مُتوشحاً بالوسادة على وجهه حتى يكتم بكاء و عويل طالما أراد أن يخرجهما أثناء صمته تام  .
مع ذلك ، كان يُكافئ نفسه صباح كل يوم برؤيته لسارة التى قد انطبق اسمها على ما باتت تمثله فى حياة إبراهيم  .
غريبة الأطوار ، إذا ما نظرت إليها للمرة اﻷولى لأدركت أن الجمال ليس فيما يبدو بل فيما يكمن ، عيون ضيقة سوداها لا يتضح من نظارتها البالية ذات العدسات المعظمة ، تلميذة نجيبة دومًا ، مَنبوذة من معلميها كما هو الحال من زملائها ، لا تترك مكتبة المدرسة فتتردد عليها و تقرأ ما عجز الأكثر منها سنا عن قراءته .. " عبقرية محمد للعقاد " " البؤساء لهوجو  " !!
تلك المرة ، جاءت هى لإبراهيم ، ليس لإعطائه كتاب استعارته كعادتها ، بل لأنها رأت مرارة فى عينيه مثل عينين يعقوب التى فُقدتا حزنًا على يوسف . لم تعتد سارة الحوار الرتيب كغيرها فقالت و على وجهها جمود كمن تجمد أعلى جبال اﻷلب و لقى مصرعه   :
_حتموت و لا إيه ؟
رفع رأسه المنكبة لتُراقِب مجموعة من النمل التى تحاول بناء بيتًا ليكون ملجأ لها فى الشتاء حاملين قطع الخبز المتناثر فى الفناء .. فتذكر حاله  :
_بحاول أبقى نملة .
_عشان يداس عليك .. طب أتمنى تبقى فار أهو الناس تعمل حسابك و تحطلك طعم  .
_الصغير حيفضل صغير .. مش بايدى حاجة .
_أنت ضعيف و أنا مش بتكلم مع ناس ضعيفة  .
_جيتى ليه طب ؟
_عشان أفتكرتك أقوى ... مش محتاج تحكى غير لما اطلب منك ... لكن اللى أثبتلى ده أنك قولت و فهمتينى .
وقعت عيناه عليها و افتعل عدم اكتراث لما قالت ... و حينها آتت سارة بساعة يدها و قامت من جانب إبراهيم و قالت ( أنت قلبك دلوقتى بيدق زى الجرس اللى حيضرب كمان ثانية (
لم تخطئ فقد ضرب جرس الراحة ، و أصطف التلاميذ و كالعادة سارة فى نهاية صف الفتيات و إبراهيم فى المنتصف ...
حان وقت الصعود ، قبيل صعود ألقى الفتى بصره خلفه فلم يعثر لها على آثر و هو يعتدل ليصعد درج ليصل للفصل ، فإذا بها تفاجأه و همهمت : ( مفيش شغل عند اﻷسطى تانى ... و متعيتش بليل كتير عشان عينيك متحمرش الصبح كده زى المدمنين )
ذهول اجتاح كل ثغرة أحدثتها سارة فيه ، أصبح صنما يدفعه كل من وراءه من زملائه حتى هوى عليه معلمه بعصاه أحدثت جرحا سطحيا فى جبهته .
_دورك يا مدام ! جملة استعارت انتباه فاطمة فأصطحبت ولدها الوحيد و إلى ناحية غرفة طبيب نعت بألقاب جمة سبقت اسمه ( أستاذ دكتور ... حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ... الألمانية و ماجستير فى .... من جامعة ... الانجليزية ) 
جلست فاطمة و فى مقابلها الطبيب ، و لاحظ الطبيب الشرود على وجه مرضيه اليافع ، لم يلحظ أى عنفوان أو طاقة كامنة تريد من يفجرها كباقى الصبية و شرع فى ديباجته المعروفة ...
_ها يا بطلنا بتشكتى من ايه ؟
أنزل سماعات أذنه و أجاب على سؤاله بالقاء سؤال مداهما به الحاضرين :
_ ما زودتش ليه على اليافطة اللى بره " اللى بيفهم فى كل حاجة "
ابتسم الطبيب و اعتبرها مزحة و أستوعبها  بصدر رحب.
أراد أن يسلك سبيل آخر فسأله  :
_أنت نفسك تتطلع إيه على كده ؟
و كعادته رد غير متوقع منه :
_السؤال ده أكد لى سر اليافطة اللى برا ديه ايه ... أنتوا مجتمع بيموت فى الديباجة عشان لما تسرق يبقى برضا المسروق ، و على فكرة الجرح ده سطحى زيك كده يا أستاذ يا دكتور .
سدت أمه بيدها فم فصيح متمرد ، و تأسفت للدكتور و أكملت حوار لم يكن ليكتمل دون صبر أنزله الله ليهدأ و تسكن ثورة الشيخ المعالج ... تفحص إبراهيم و طلب من فاطمة بعض الأدوية و أخبرها أن المسائلة فى غاية اليسر و قد لا يحتاج سوى يومين كى يتعافى  .
استأذنت و غادرا الاثنين كما آتيا ، لم ينلا سوى إحراج تسبب فيه فقيه اﻷسرة ... و فى هواء الشديد المحمل بالتراب فى ليلة من شهر ديسمبر فيه يحتضر عام على وشك الإنتهاء ، خمرت فاطمة وجهها بوشاح متهالك لكن يفى بالغرض و هو تفادى ما يتناثر من شظايا رمال  .
صمت مقيم ، و هى فى ذروة فخرها بإبنها لما لقاته منه و فى منتهى مطاف قلقها ، تتأمله و لا تعرف ما السر وراءه ؟ أصبح إبراهيم رغم قصر قامته ، سور محصن لا تعرف لارتفاعه نهاية .. كلما وصلت لنهايته فإذ ببداية جديدة .
لِم تختبرنى و أنا وحدى يا الله ؟ وحدى و إبراهيم سميته ليكون خليلى فى دنياك .. فلم أجد سوى صفعات تؤلم الواحدة تتلو اﻷخرى .
عندما وصلا كليهما للمنزل ، وجدا اﻷب و أمه الطاعن فى السن ، لم يتلفظ الصبى بكلمة و لا اﻷم ، فلم تتفوه سوى ببضع كلمات مقتضبة أجملت به الموقف لزوجها المرهق ، لقد طمأنته فهى تعرف ما يدور فى خلده من معضلات فلا داع لشغله ما دام الوضع على ما يرام .
سرق إبراهيم أداة التحكم ، خلسة من على المنضدة ، ليتمكن من مشاهدة عرض باليه طالما انتظر إذاعته و عندما غير المحطة .. عوت جدته و أطلقت لسانها بأبذئ الشتائم و أشنع السباب ... لم يعرها إنتباها فهو يعلم أنها ستتوقف و لكن بعد أن تفرغ طاقتها و تهدأ من نيران أوقدها حفيدها باستفزاز متعمد ، ليست مقصودة به  .
لتأتى عربة المطافئ متمثلة فى فاطمة لتخمد نيران السيدة العجوز  .
حالة إنتشاء وإبتهاج تزداد فى روح صبينا اليائسة حين يتأمل الراقصات يدرن و يتمايلن وسط ذهول الجمهور ... و تأتى بعدها الفقرة المفضلة لديه الرقصة الثنائية ، فهى فى نظره روحين منفصلة لن تعرف الانفصال ، ليسوا روحًا واحدة لكن لا يمكن ﻷحد القطيعة بينهما ، حتى الله فى نظره لن يترك كلا منهما على حدى فتلك الأرواح تعرف الخطيئة و لكنها لن تدركها ... فى الجنة سويًا و ستكون جنته هى و هو جنتها  .
حان وقت نوم ، راحة لمن لم يجد فى راحته راحة ، استلقى على فراشه و لكن هذه المرة أمسكت سارة دموعه التى جفت منابعها ، و بدلا من أن يضع الوسادة على وجهه .. تراءت سارة له ، ليس حلما بل يقينا هكذا أخبرته ، و حين رأها أصبحت ملاكا يرتدى لونا أزرق كلون سماء لحظة صفاؤها ... ابتسم لما تأملها و قال لها مداعبا إيها ( حتى و أنتى ملاك مختلفة ....أزرق مش أبيض )
نظرت و قد ظهر سواد عيونها و لم تُطلق سوى يدها لتحتضنه حضن عميق ، نبيل لم يعرف نشوة عاهرات و لا شهوانية الرجال .  
فى أحد ضواحى الفناء الفسيح ، آتى اليها تلك المرة ، فهناك الكثير ليفضى به ، بدأ كلامه و سقطت أول قطرة على أنفه ... و قبل أن يشرع فى حديثه سبقته :
_بداية الغيث قطرة .
و جرت نحو الفصل ، كالهرّة المرتدعة من هطول المطر .ألتفت حول نفسه ، و لم يهرول كالأخرين .. بدا كالعشب الأخضر العاشق لقطرة الماء فى صحراء قاحلة  .
منحنيًا الظهر من ثقل الحقيبة المحمولة ، ترجل وصولا لداره ، أسرعت سارة من خطاها ليكى تنبأه بخبر عاجل و قد توقف المطر عن الهطول و حتى باتت بجانبه .. و حدثته قائلة : ( شكلك عملت بنصيحتى و معيطش ... بس لو كنت عاوز تتبسط فعلًا متفكرش فى اللى حصل و لا فى اللى حيحصل .. غير بس اللى بيحصل ) .
و كنسيم الربيع ، غدت و أختفت فجأة , فأستكمل طريقه و كأن هذا الحديث لم يحرك فيه ساكنا !
صبينا الكهول ، هزول جسمه و شيب بعض شعيراته و ندوب جراح فى وجه محفورة وقد ملأه التجاعيد ، حدسه يخفى عنه شئ مريبًا ، و بالفعل زاد توجع و آلم إبراهيم بكاء عيونه يدمى القلوب ، السور المحصن يهدم من عدو قد داهمه بذخيرة المرض و العلة و الضعف  .
بعد أن ظفر محمد بقيمة استشارة طبيب مخ و أعصاب ، و قد جاوزت الديون من جميع خلق الله حدها المقبول ، دخلا و حدث ما توقعه إبراهيم سرطان... فى مرحلة متأخرة ... نطقها الطبيب تنهد الأب ناظرا لإبنه واضعا رأسه الثقيلة على يدها المفلستان ، اﻷم أصبحت ذاهلة لم تتقبل و احتضنته بدفئ و حرارة .... و هو صامت يضع سماعات أذنه و ممسكا بكتيبه ، مبتسما و لسان حاله ( حاموت يعنى ... ما كله حيموت(.
قرأت أمه آخر ما حمله كتيبه و دموعها تهطل لتزيل حبر كلمات إبنها ( مكنتش عاوز عاوز أعيش أكتر من كده ، احنا مش ملايكة بس فى وقتنا بقى ده طموح كل البنى آدمين ... بنهرب من حقيقتنا الوحيدة الموت ، لا بعد الشر متقلش كده ، و أول ما يدفن تكون أنت مجرد آية أو دعوة ، اسمها دنيا و هى فعلا دنيا .. أدنى اﻷخلاق ... أدنى سرقة ... أدنى كذبة ... كان نفسى مبقاش يا أمى حاضر غايب بس الدور اللى مكتوب لى هو أنى ابقى غايب حاضر ... ) كل كلمة خطها بحبره ، أدمت قلب فاطمة
بعد أن ترك الصبى و أمه عيادة الاستاذ الدكتور ، عثر الطبيب على ورقة بيضاء مقلوبة و موضوعة على مكتبه و بفضول التقتها و رأى ما حملته هى مجرد كلمة ( دورك ) ... مبهمة ، غامضة ، لكنه أدركها ﻷنها مثل إبراهيم .
سارة فى حصة الرسم ، عندما طلب من الطلاب تصور ما يتصورون أنفسهم فى المستقبل ... من تصور نفسه مهندس و اﻷخر معلم و اﻷخرى طبيبة ، و عندما تفحصت رسمة سارة ... فهى تحمل فتاة جميلة ذو فستان أزرق و كتبت عليه ( مش ملاك يا إبراهيم ) ، لم تراجع نفسها المعلمة فألقتها فى القمامة .
ليست نهاية محزنة بل كل من أحبهم عثروا على سعادتهم ، أمه عثرت على خليلها و هو كتيب ولدها ، سارة مع روحه التى صارت بجانبها أكثر من ذى قبل ، لافته طبيب باطنه تحمل د/...... ( اخصائى باطنه ) و ها قد وجد دوره!!
****