jeudi 26 mars 2015

الغائب الحاضر




عيناه شاخصتان ، تتأملان لوحة زيتية فيها منظر خلّاب آخّاذ ... واضع سماعات الأذن و مُمسكاً بهاتفه وسط صمت ساد الموقف فى العيادة      .
أُم لم تعرف طعما للنوم منذ يومين أو أكثر ، و مع صرخة آلم مُدوّية يُصدرها إبراهيم من أعماق جسده الهزيل الذى طالما تعرض بسببه لسخرية زملائه فى المدرسة و أصبح مثال يُحاكِى الصبى المَقهور فى اﻷفلام و لكن الفرق هُنا أن إبراهيم على علم تمام أنه لا يعرف سوى هذا الدور الذى سأم تأديته .
كان دائما يسعى إبراهيم جاهدا أن يصل إلى سارة ، التى لم تكن فى غاية الجمال فى نظر أغلب الصبية ... إلا إنه لم يجد لها مثيلًا ، كان يطوق لرؤيتها من بعيد ، و اعتبر يوم بعثه من جديد حين آتت إليه لتتطلب منه أن يساعدها فى نشاط مدرسى طُلب منهما . إنها الوحيدة التى كانت تعلم ما يخفيه إبراهيم ، على الرغم من حداثة سنها .
أمسك بقلمه و أتى بكراسة صغيرة لم تفارق جيبه ، و أخذ يكتب بلا هوادة و كله تركيز على الكتابة ، كتابة سرية أقرب ما تكون إلى ملف استخبارات يدين رئيس دولة ، لذا لم يتمكن أحد من الحصول على مجرد سطر من هذا الكائن المنطوى على نفسه ، لا يعرف سوى قلمه و شخصاً واحداً بداخله يتسامر معه عند إنتصاف الليل حتى ولوج الشمس فى عطلته ، يحادثه بصوت منخفض بهمهمة لا يمكن لأعتى الجواسيس التصنت عليها . لم يكن ذلك سهلا على أعضاء بيته تصور أنهم يتوجب عليهم التأقلم مع وضع إبراهيم الصامت الذى يدخر كل كلمة و كأنها ثروة أجهد نفسه فى جمعها و حصرها . كانت جدته ، المُلقبة من قبل أم إبراهيم بماما و هى قد جاوزت السبعين ، تتردد على أذن ابنها محمد و زوجته أم إبراهيم بأن تذهب للشيخ فلان ليرقى إبراهيم و يقرأ عليه قرأنا لعله "ملبوس" . لم تعر فاطمة لوالدة زوجها إنتباهًا و اكتفت دوما بقولها " حاضر يا ماما " ، أما محمد فهو موظف تتلقى الديون راتبه أخر الشهر ، ما يأخذه بيمينه يُؤخد من يساره و ذلك على الرغم من أن الله لم ينعم عليه سوى بابراهيم .. و لكن ماذا بيده سوى خمسمائة جنيها يأخذها من شركة حكومية أوشكت أن تعلن إفلاسها و لن يناله منها سوى معاشا لن يغنى من جوع ، لم يكن البيت له سوى سرير يفترشه يقبل يد أمه و جبهة فاطمة و يأكل لينام و يستأنف يوم جديد مع سماع أذان الفجر  .
سعى صبينا ، سعياً حثيثاً ،ليكون عَوناً لأبيه و يُساعده فى سد ثغرات حياة تلك الأسرة التعيسة . كانت الفكرة تأتى للفتى - الذى قد إمتاز بسرعة تَلقِى الأوامر و تنفيذها فى برهة و على أحسن صورها- من التلفاز ذي الشاشة الصغيرة الممثل لمصدر البهجة للجميع و حينها رأى كيف تبدأ رحلة بطل الفيلم فى ورشة الميكانيكى و منها يعانى ليصل لمكانة ذو شأن فى مجتمعه .
و بالفعل فى تَكتُم ، كان يذهب لورشة اﻷسطى و أدرك أن الحياة ليست رواية بل هى أقسى بكثير ... إهانة يَرُد عليها بصمت لم يتعلم غيره .. صمت فيه صراخ مدوٍ مع كل يد تمتد لتطول كل جزء فى جسده .. كل هذا فى صمت!
توجَع و كان يدخل يوميًا متأخرًا ، على عجلة من أمرِه ، للبيت مُتوشحاً بالوسادة على وجهه حتى يكتم بكاء و عويل طالما أراد أن يخرجهما أثناء صمته تام  .
مع ذلك ، كان يُكافئ نفسه صباح كل يوم برؤيته لسارة التى قد انطبق اسمها على ما باتت تمثله فى حياة إبراهيم  .
غريبة الأطوار ، إذا ما نظرت إليها للمرة اﻷولى لأدركت أن الجمال ليس فيما يبدو بل فيما يكمن ، عيون ضيقة سوداها لا يتضح من نظارتها البالية ذات العدسات المعظمة ، تلميذة نجيبة دومًا ، مَنبوذة من معلميها كما هو الحال من زملائها ، لا تترك مكتبة المدرسة فتتردد عليها و تقرأ ما عجز الأكثر منها سنا عن قراءته .. " عبقرية محمد للعقاد " " البؤساء لهوجو  " !!
تلك المرة ، جاءت هى لإبراهيم ، ليس لإعطائه كتاب استعارته كعادتها ، بل لأنها رأت مرارة فى عينيه مثل عينين يعقوب التى فُقدتا حزنًا على يوسف . لم تعتد سارة الحوار الرتيب كغيرها فقالت و على وجهها جمود كمن تجمد أعلى جبال اﻷلب و لقى مصرعه   :
_حتموت و لا إيه ؟
رفع رأسه المنكبة لتُراقِب مجموعة من النمل التى تحاول بناء بيتًا ليكون ملجأ لها فى الشتاء حاملين قطع الخبز المتناثر فى الفناء .. فتذكر حاله  :
_بحاول أبقى نملة .
_عشان يداس عليك .. طب أتمنى تبقى فار أهو الناس تعمل حسابك و تحطلك طعم  .
_الصغير حيفضل صغير .. مش بايدى حاجة .
_أنت ضعيف و أنا مش بتكلم مع ناس ضعيفة  .
_جيتى ليه طب ؟
_عشان أفتكرتك أقوى ... مش محتاج تحكى غير لما اطلب منك ... لكن اللى أثبتلى ده أنك قولت و فهمتينى .
وقعت عيناه عليها و افتعل عدم اكتراث لما قالت ... و حينها آتت سارة بساعة يدها و قامت من جانب إبراهيم و قالت ( أنت قلبك دلوقتى بيدق زى الجرس اللى حيضرب كمان ثانية (
لم تخطئ فقد ضرب جرس الراحة ، و أصطف التلاميذ و كالعادة سارة فى نهاية صف الفتيات و إبراهيم فى المنتصف ...
حان وقت الصعود ، قبيل صعود ألقى الفتى بصره خلفه فلم يعثر لها على آثر و هو يعتدل ليصعد درج ليصل للفصل ، فإذا بها تفاجأه و همهمت : ( مفيش شغل عند اﻷسطى تانى ... و متعيتش بليل كتير عشان عينيك متحمرش الصبح كده زى المدمنين )
ذهول اجتاح كل ثغرة أحدثتها سارة فيه ، أصبح صنما يدفعه كل من وراءه من زملائه حتى هوى عليه معلمه بعصاه أحدثت جرحا سطحيا فى جبهته .
_دورك يا مدام ! جملة استعارت انتباه فاطمة فأصطحبت ولدها الوحيد و إلى ناحية غرفة طبيب نعت بألقاب جمة سبقت اسمه ( أستاذ دكتور ... حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ... الألمانية و ماجستير فى .... من جامعة ... الانجليزية ) 
جلست فاطمة و فى مقابلها الطبيب ، و لاحظ الطبيب الشرود على وجه مرضيه اليافع ، لم يلحظ أى عنفوان أو طاقة كامنة تريد من يفجرها كباقى الصبية و شرع فى ديباجته المعروفة ...
_ها يا بطلنا بتشكتى من ايه ؟
أنزل سماعات أذنه و أجاب على سؤاله بالقاء سؤال مداهما به الحاضرين :
_ ما زودتش ليه على اليافطة اللى بره " اللى بيفهم فى كل حاجة "
ابتسم الطبيب و اعتبرها مزحة و أستوعبها  بصدر رحب.
أراد أن يسلك سبيل آخر فسأله  :
_أنت نفسك تتطلع إيه على كده ؟
و كعادته رد غير متوقع منه :
_السؤال ده أكد لى سر اليافطة اللى برا ديه ايه ... أنتوا مجتمع بيموت فى الديباجة عشان لما تسرق يبقى برضا المسروق ، و على فكرة الجرح ده سطحى زيك كده يا أستاذ يا دكتور .
سدت أمه بيدها فم فصيح متمرد ، و تأسفت للدكتور و أكملت حوار لم يكن ليكتمل دون صبر أنزله الله ليهدأ و تسكن ثورة الشيخ المعالج ... تفحص إبراهيم و طلب من فاطمة بعض الأدوية و أخبرها أن المسائلة فى غاية اليسر و قد لا يحتاج سوى يومين كى يتعافى  .
استأذنت و غادرا الاثنين كما آتيا ، لم ينلا سوى إحراج تسبب فيه فقيه اﻷسرة ... و فى هواء الشديد المحمل بالتراب فى ليلة من شهر ديسمبر فيه يحتضر عام على وشك الإنتهاء ، خمرت فاطمة وجهها بوشاح متهالك لكن يفى بالغرض و هو تفادى ما يتناثر من شظايا رمال  .
صمت مقيم ، و هى فى ذروة فخرها بإبنها لما لقاته منه و فى منتهى مطاف قلقها ، تتأمله و لا تعرف ما السر وراءه ؟ أصبح إبراهيم رغم قصر قامته ، سور محصن لا تعرف لارتفاعه نهاية .. كلما وصلت لنهايته فإذ ببداية جديدة .
لِم تختبرنى و أنا وحدى يا الله ؟ وحدى و إبراهيم سميته ليكون خليلى فى دنياك .. فلم أجد سوى صفعات تؤلم الواحدة تتلو اﻷخرى .
عندما وصلا كليهما للمنزل ، وجدا اﻷب و أمه الطاعن فى السن ، لم يتلفظ الصبى بكلمة و لا اﻷم ، فلم تتفوه سوى ببضع كلمات مقتضبة أجملت به الموقف لزوجها المرهق ، لقد طمأنته فهى تعرف ما يدور فى خلده من معضلات فلا داع لشغله ما دام الوضع على ما يرام .
سرق إبراهيم أداة التحكم ، خلسة من على المنضدة ، ليتمكن من مشاهدة عرض باليه طالما انتظر إذاعته و عندما غير المحطة .. عوت جدته و أطلقت لسانها بأبذئ الشتائم و أشنع السباب ... لم يعرها إنتباها فهو يعلم أنها ستتوقف و لكن بعد أن تفرغ طاقتها و تهدأ من نيران أوقدها حفيدها باستفزاز متعمد ، ليست مقصودة به  .
لتأتى عربة المطافئ متمثلة فى فاطمة لتخمد نيران السيدة العجوز  .
حالة إنتشاء وإبتهاج تزداد فى روح صبينا اليائسة حين يتأمل الراقصات يدرن و يتمايلن وسط ذهول الجمهور ... و تأتى بعدها الفقرة المفضلة لديه الرقصة الثنائية ، فهى فى نظره روحين منفصلة لن تعرف الانفصال ، ليسوا روحًا واحدة لكن لا يمكن ﻷحد القطيعة بينهما ، حتى الله فى نظره لن يترك كلا منهما على حدى فتلك الأرواح تعرف الخطيئة و لكنها لن تدركها ... فى الجنة سويًا و ستكون جنته هى و هو جنتها  .
حان وقت نوم ، راحة لمن لم يجد فى راحته راحة ، استلقى على فراشه و لكن هذه المرة أمسكت سارة دموعه التى جفت منابعها ، و بدلا من أن يضع الوسادة على وجهه .. تراءت سارة له ، ليس حلما بل يقينا هكذا أخبرته ، و حين رأها أصبحت ملاكا يرتدى لونا أزرق كلون سماء لحظة صفاؤها ... ابتسم لما تأملها و قال لها مداعبا إيها ( حتى و أنتى ملاك مختلفة ....أزرق مش أبيض )
نظرت و قد ظهر سواد عيونها و لم تُطلق سوى يدها لتحتضنه حضن عميق ، نبيل لم يعرف نشوة عاهرات و لا شهوانية الرجال .  
فى أحد ضواحى الفناء الفسيح ، آتى اليها تلك المرة ، فهناك الكثير ليفضى به ، بدأ كلامه و سقطت أول قطرة على أنفه ... و قبل أن يشرع فى حديثه سبقته :
_بداية الغيث قطرة .
و جرت نحو الفصل ، كالهرّة المرتدعة من هطول المطر .ألتفت حول نفسه ، و لم يهرول كالأخرين .. بدا كالعشب الأخضر العاشق لقطرة الماء فى صحراء قاحلة  .
منحنيًا الظهر من ثقل الحقيبة المحمولة ، ترجل وصولا لداره ، أسرعت سارة من خطاها ليكى تنبأه بخبر عاجل و قد توقف المطر عن الهطول و حتى باتت بجانبه .. و حدثته قائلة : ( شكلك عملت بنصيحتى و معيطش ... بس لو كنت عاوز تتبسط فعلًا متفكرش فى اللى حصل و لا فى اللى حيحصل .. غير بس اللى بيحصل ) .
و كنسيم الربيع ، غدت و أختفت فجأة , فأستكمل طريقه و كأن هذا الحديث لم يحرك فيه ساكنا !
صبينا الكهول ، هزول جسمه و شيب بعض شعيراته و ندوب جراح فى وجه محفورة وقد ملأه التجاعيد ، حدسه يخفى عنه شئ مريبًا ، و بالفعل زاد توجع و آلم إبراهيم بكاء عيونه يدمى القلوب ، السور المحصن يهدم من عدو قد داهمه بذخيرة المرض و العلة و الضعف  .
بعد أن ظفر محمد بقيمة استشارة طبيب مخ و أعصاب ، و قد جاوزت الديون من جميع خلق الله حدها المقبول ، دخلا و حدث ما توقعه إبراهيم سرطان... فى مرحلة متأخرة ... نطقها الطبيب تنهد الأب ناظرا لإبنه واضعا رأسه الثقيلة على يدها المفلستان ، اﻷم أصبحت ذاهلة لم تتقبل و احتضنته بدفئ و حرارة .... و هو صامت يضع سماعات أذنه و ممسكا بكتيبه ، مبتسما و لسان حاله ( حاموت يعنى ... ما كله حيموت(.
قرأت أمه آخر ما حمله كتيبه و دموعها تهطل لتزيل حبر كلمات إبنها ( مكنتش عاوز عاوز أعيش أكتر من كده ، احنا مش ملايكة بس فى وقتنا بقى ده طموح كل البنى آدمين ... بنهرب من حقيقتنا الوحيدة الموت ، لا بعد الشر متقلش كده ، و أول ما يدفن تكون أنت مجرد آية أو دعوة ، اسمها دنيا و هى فعلا دنيا .. أدنى اﻷخلاق ... أدنى سرقة ... أدنى كذبة ... كان نفسى مبقاش يا أمى حاضر غايب بس الدور اللى مكتوب لى هو أنى ابقى غايب حاضر ... ) كل كلمة خطها بحبره ، أدمت قلب فاطمة
بعد أن ترك الصبى و أمه عيادة الاستاذ الدكتور ، عثر الطبيب على ورقة بيضاء مقلوبة و موضوعة على مكتبه و بفضول التقتها و رأى ما حملته هى مجرد كلمة ( دورك ) ... مبهمة ، غامضة ، لكنه أدركها ﻷنها مثل إبراهيم .
سارة فى حصة الرسم ، عندما طلب من الطلاب تصور ما يتصورون أنفسهم فى المستقبل ... من تصور نفسه مهندس و اﻷخر معلم و اﻷخرى طبيبة ، و عندما تفحصت رسمة سارة ... فهى تحمل فتاة جميلة ذو فستان أزرق و كتبت عليه ( مش ملاك يا إبراهيم ) ، لم تراجع نفسها المعلمة فألقتها فى القمامة .
ليست نهاية محزنة بل كل من أحبهم عثروا على سعادتهم ، أمه عثرت على خليلها و هو كتيب ولدها ، سارة مع روحه التى صارت بجانبها أكثر من ذى قبل ، لافته طبيب باطنه تحمل د/...... ( اخصائى باطنه ) و ها قد وجد دوره!!
****



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire