mardi 29 septembre 2015

طال الانتظار !



باغتنا ببرقه ..برعده ...بانزواء الدفء في البر و انقضاء الحر ... بحلول برد الهواء و تلاقي
السحب قبل الجفاء .. انتظرتُ بفارغ الصبر تلك اللحظة الذي تُخاطبنا فيها و كأنك تهمس في وجداننا يا قدير ... تُسمعنا رعداً لتنذر قلوباً قد غفلت عنك  فتذكرها بسوء العذاب و شر المآب ... بريق وزعته بعدلك في سماء مظلمة مهجورة و مهاجرة ... يخترق النسيم الصدر فينعشه و يجرف أرض الأيادي العاصية و الألسن اللاعنة .. تُفرش الأرض بيود نسمات الأمواج التي تتعالى لتتنفس الصعداء ... و كأنك تُناجينا هل من عاصي لأستره ؟ هل من مؤمن لأباهي به أمام ملائكتي ؟ .. لا أضيع وقتي و أنا أثني عليك فأنت تتعالى عن أي وصف و مديح .. و لكن أعلم بأنه إذا نظر الكافر لمشهد لارتعب من قدرتك و لأشتاق لعظمة رحمتك ... أحفظني في أرضك و اجعل سحابك يغيم ليتستر على أنامل لعينة استباحت ما حرمت .. أريد أن أبعث إليك مطهراً بمياه تغزو تربتي و تغرق آثامي فاُنتشل لأحظى برضاك الأبدي .. فرضاك هو جنتي و ثنائي عليك هو جُل رحمتك بي ... انتظرتها بفارغ الصبر و زاغت بصيرتي قبل بصري و انتفض فؤادي و هرول نحو باب التأمل و التمادي .

dimanche 27 septembre 2015

ضحكة متكئة على عصاها

ضحكة متكئة على عصاها

أنفض جمع المصلين بعد تقديم السلام بهز الرؤوس يميناً ثم يساراً و الأرض تلتهب من تحت الركبتين . فاليوم مشمس من فجره و حتى لسعات خيوط شفق الغروب .

قال محمد أرحانا بها يا بلال , و لسان حال مرتداي شارع شَكور بمحطة الرمل أرحانا منها يا إمام .
انتفض شاب متوسط القامة ينطبق عليه قول ( هذا " الأرنوب " من هذا الأرنب ) من جلسته المتواضعة , و توجه نحو الأحذية الملقاة على جانب الطريق على حافة الحصير المنبسط المتقطع عند أطرافه و الملون بألوان مبهجة كالأزرق السماوي و الأصفر الذهبي و الأخضر القاتم , و كأن ورش عمل الحصير أهتمت بالشكل لأنها تعلم أننا نتأمل المكتوب على البساط حين يرتل الإمام سور تلتقطها الأذن و تغفلها الروح .
 قام ( يحيى ) من جلسته بذقن غير مهذب و شعر ناعم غير مصفف , ينبعث من فمه حين يسجد رائحة سجائر تنفر مُنّفذ عقوبة مجاورته , فحين يفرغ مكان بجاوره يتهافت الجميع على أداء دور المضحي بالاقتراب من الصفوف الأولى و غالباً يكون المضحي من غير ساكني هذا الشارع الثمين .
شارع شكور مصغر شارع عبد العزيز , فلكيّ تعرف الفرق بين القاهرة و اسكندرية تأملهما و فقط .
بالطبع ليس من السهل أن يحصل ( يحيى ) على شبشبه و يغتنمه بسهولة في وسط هذا الزخم من المصلين الذين يشكلون عبأ على أرضية الشارع الملتهبة . كأنهم فقدوا الاحساس أصبحوا جميعاً مشلولين عاجزين عن التحرك , فالكل لا ينظر إلا في ساعته و جيبه المحتوي على الهاتف الذي يرن , فنحن نسمع أصوات عجيبة و نغمات مختلفة أثناء الصلاة و أصبحت الصلاة موعد لتبادل الرنات و معرفة آخر أنواع الأغاني و أظرفها , فصوت الهاتف يغطي أحياناً على أذن ( يحيى ) التي تريد أن تلتقط الجزء المفضل من سورة يس .
 تلتقط عينه اسم مصنع الحصير و أذنه تحاول تحديد هوية مؤدي مهرجان أو أغنية المُعبر عن مدى تحسر المطرب على فقدان حبيبته التي تركته بعد مرور على علاقتهم خمسة اسابيع كاملة ... فالحب ليس بالمدة بل بالمدى .
اللحية الطويلة مبتلة من آثار مياه الوضوء لتهون على ( يحيى ) _ محامي المستقبل _ سخونة الأجواء و ارتعاشة تنتابه كلما قال آمين بعد ختم الفاتحة من قِبل الإمام , أنتزع الشبشب من باطن الارض و ذهب إلى داخل المسجد لينتزع أبوه , الحاج ( سعيد ) .
هذا الرجل المعاشي _ نسبةً لوصوله للمعاش_ و تمكن من أن ينتشله من ثرثرة أصحاب المعاشات بعد أن فرغوا من صلواتهم الأخيرة .
 فما عاد يتبقى سوى سويعات على التقاء الأحباء و الأعداء فيا ترى من سيتحابوا منهم في الجنة و من سيجدد الله في جلده ليتلقى ضعف العذاب  .
دلف ( يحيى ) إلى داخل المسجد , ممسكاً ب"شبشبه " البلاستيكي الرديء , و سجادة صلاة تُبسَط لتنسبط معاها وجوه عابسة من كثرة ادعاء الاستغفار .
ضحكة متكئة على عصا , و مؤخرة راسخة على أغصان الخشب بلوط متقن الصنع متشكل على هيئة كرسي رباعي الأرجل , دون ظهر يستند عليه هذا الشيخ , و لكن ما عساه يحتاج لمثله ما دام ( يحيى ) يحيا .
أمره بأن يمد يده ليُسّلم على ( سالم ) الأزهري , الذي لم يمر بالأزهر سوى في النشرة الاخبار وبمشاهدة كتب الحديث المتراصة على الرف الخشبي بجوار منبر المسجد و المليئة بالمصاحف و كتب دينية متعددة الأجزاء متأنقة في هيئته تشتهيها العيون ...فما الكتب إلا وسيلة لإثبات ما تحويه نفس كاتبها . فالحروف كلها متحركة و الساكن منها لابد من الاستغناء عنه .
لم يكن من المعتاد على ( يحيى ) أن يرفض طلب لأبيه طالما أنه غير مضِر .  فبعد أن سلم على العالِم الجليل , استند ( سعيد ) الستيني على عصاه عاجية المقبض , خشبية القدم , و من المعلوم أن ( سعيد ) من أكثر ساكني شارع شكور محبةً و وداً .
 قال ( يحيى ) بابتسامة طفل ضال يتسول الراحة من أعين الناس :
_ تقبل الله يا حاج .
_ منا و منكم يا حبيب قلبي ... أنت متنيلتش صحيت بدري ليه ؟
_ و اصحى بدري ليه يا بابا ؟
_ عشان تصحيني معاك ..نفطروا سوا و تنزلني الصلاة و تلحق تدعي مرة واحدة بس بين الجزئين بتوع الخطبة ... ما هو متبقاش صلاة جمعة كدا يا ( يحيى ) .
_ لا , يا حاج الشيخ ( ميزو ) قال أمبارح يجوز , صلاة الجمعة من غير خطبة .
_ الشيخ ميزو ... دا ممثل دا و لا بيقلد حمادة سلطان ؟
_ مين حمادة سلطان دا يا بابا ؟
_ دا بني آدم , دمه خفيف زي عم ( راشد ) بتاع الفلافل كدا .
_ للدرجة دي سئيل ... طب أنت فطرت صحيح و لا اجيب لنفسي فطار بس ؟
_ هو أنت لسه حتفطر؟  الساعة 12:30 .... بس ميضرش بردو .. انت حتجيب ايه ؟
_ فلافل و فول .. مفيش غيرهم .
_ متكترش بقى ... هات ب2 جني فول و بتلاتة فلافل يدوب كدا بس عشان نعرف نتغدى .
ابتسم ( يحيى ) و ترك أبوه على عتبة باب العقار القديم الخشبي , المرصع بالنحاس الملتوي  بحرفية يدوية على هيئة كلمتي ( الرحمن الرحيم ) , و الحشرات تتطاير مع مرور أي هدف معادٍ .
و سرعان ما يرجع كل شيء لمكانه و تظل العسرة دوماً  في أول سلمة مكسورة فيفكر كل مرة ( سعيد ) كيف يتخطاها قبل أن تعرقله فيسقط على رأسه  , هذا العضو السليم الوحيد الهارب من تنفيذ عقوبة الدنيا بالتلف ثم الفناء .
كل مرة يراوغ تلك الدرجة , يحتال عليها بشتى الطرق حين يكون وحيد , العمارة مهجورة من ساكنيها , رغم أنهم على قيد الحياة و لا أمل يعقده الشيخ الصغير على بذل أحدهم جهداً لاصلاح تلك السُلمة اللعينة . فتلك السلمة عندهم لا تعد شيء قيم أما ل(سعيد ) فتُعد في نظره أولى درجات قصر السعادة و النسيان و التذكر و الشجن ... هي صندوق مشاعر طواه زمن غابر قاسي لا يكترث أبداً سوى بالمضي قُدماً و تناسي ما كان .
ففي الأغلب سوط الحياة يجلد الماضي , يجرده من الذكريات و لا يعنيه حصد أي درس أنما يهتم بنيل لذة التشفي من تذكر مآسينا .
 يصعد الدرج فلا يتذكر سوى ( زينب ) , لم يحبها يوماً , أحبها حين رقدت في السرير لتركض للسماء الخامس فهذا يكفيها . لم يلاطفها يوماً و لم تسمع منه كلمة تذيب مصاعب حياتهما , هي أيضاً لم تكن تعشقه . كلاهما اعتاد الآخر , و كما يُقال العادة عبادة .
الدمعة التي يذرفها يومياً بعد عسرة أول سلمة ما هي إلا تحسر على ذكريات , أطلال لبيت مهجور , حزن الطبيب على مريض لا يعرف عنه سوى نهايته الوشيكة .
لِم لم أعرف الحب معها ؟ هكذا تنزل الدمعة الأولى ... لِم لم اعتداها حتى ؟ هكذا تجف هذه الدمعة .
هل الاعتياد من شيم الحب الصادق ... هل يمكن للعشق أن يزول بسبب تكرار الاعتراف به ؟ هل الحياة أحياناً تُنسينا ما جئنا من أجله ؟ هل هي سعيدة و تنتظرني ؟ هل تتمناني زوجاً لها في الجنة ؟ ... هل سيتحول الاعتياد في الدنيا إلى التجديد اللامنتهي ؟ ... الله يعلم و سيُعلِمنا حينها .
أدخل مفتاح حديد صديء عند الطرف , و لفه في القفل نصف لفة كاملة , ليرى بيت منظم , و يسمع  صوت إذاعة القرآن الكريم يغطي جنبات المنزل و الهر ينظر إليه بتوسل , ف( سعيد ) مولع باقنتاء القطط , و الهر هذا دون اسم تم اهدائه له عن طريق ( مُنى ) صديقة ( يحيى ) المُقربة , و حبيبته في واقعه الافتراضي ...
 يتمسح به الهر ذا الشعر الكثيف و الجسد الممتليء  و اللون البرتقالي الفاتح و الرأس المفلطح و العينين الخضراوتين , و الذيل الغليظ و النظرة الخبيثة التي تنتظر الوقت المواتي لتكون الخيانة في أبهى صورها كحال الصديق الذي ينتظر الوقت المناسب ليطنعك بخيانة تليق بصادقتكم .
مد يديه ليجري بها على رأس الهر وحتى ذيله و الذي بدوره أغمض عينه متلذذاً بيد حنون , سيصيبه بمخالبه في يومٍ ما ...لهذا عليكِ دوماً تقليم أظافر عدوك بدواعى الحفاظ على هيئة المنافس لكي تلائم حلبة الصراع و تحسم المبارة لصالحك قبل تسديد لكمات اللوم .
سلك ( يحيى ) الشارع الجانبي و الشبشب " يطرقع " و يصدر صوت مزعج ل( سعد ) صاحب محل الالكترونيات , هذا الرجل ذو شارب الحلبي  و الصوت المخيف الجهوري ,  رأه ( يحيى ) ممسكاً بمخبار الشيشة المعسل ,  ففكر مراراً أن يمد له يده و يعقد معه حديث و يكسب محبته خصوصاً أن لهذا السيد نفوذ يضاهي نفوذ المحافظ و إن كان يتخطاه ..
شخص برجامتي بلغة الساسة , وصولي بلغة المثقفين , منافق بلغة الكهنوت و رجال الدين الأتقياء , فهو عبد لمصلحته أينما وُجدت نحى كل شيء جانباً ... لا يمتلك أولاد رغم زيجاته الست التي عقد عليها الأمل في وصول وريثه الوحيد , و كأن الله يعاقبه و يوعظه لكي يكف أيده الطاغية عن ضعاف البشر و صغار التجار في شارع شكور .
 لهذا اختار ( يحيى ) السلامة و نكس رأسه أسفل الأرض و اسرع من خطواته ليعلو بذلك طرقعة الشبشب , فيستوقفه الحاج ( سعد ) واجماً عاقداً حواجبه الغليظة لأسفل فتتصل ببعضها عبر جسر شعيرات صغيرة يبرزها تجاعيد الوجه السمين المكتظ بشحوم خروف ليلة الخميس  قائلاً :
_ يا بني أنت ما تبطل طرقعة النسوان دي ؟
صمت و لم يعرف بما يرد عليه و خشيّ  أن ينشب عراك محتوم عليه فيه بالهزيمة الساحقة فاكتفى بتصويب بسمة سخيفة بوجه سمج من خلال تغيير تعبيرات وجهه لثواني و اعادتها من جديد لسابق عهدها .
أخذ يرفع قدميه قدر ما استطاع حتى يصل ل( راشد ) و ينتهي من اختبار قوة التحمل  ...
 لو أحد في الجامعة علم بما يفعله ( سعد ) ب(يحيى ) يومياً من استهزائه و تلاعب به كدمية مثاوها الأخير حضن طفل يتيم أو متسول يحتضر , لكان موضع سخرية ليوم الدين .
لا يعلم بشر بهشاشة (يحيى ) سوى (مُنى ) , تجمعهما قصة حب مستترة بغطاء الصداقة ... لا يعنيه  سوى التكلم سوياً , هل تهمه كلمات عذبة إنما يهمه أن يبقى متوشحاً باهتمامها و بافكارها و بمناقشتها و بمراوغتها و بمزاحها الغير محدود و تفاصيل من الممكن أن لا يُباح بها إذا نطق لها كلمة أحبك .
يذكر عنفوانها و هي تقود مظاهرة ضد غزو أمريكا للعراق , لم يرى حماسة كهذه قبل . شابة يافعة , حجاب يتوج شعرها غير المرئي , ذات وجه منير متوهج , و حاجبين غليظين مظلمين و أسفلهما عيون شرهة طامعة في مزيد من النشاط .. سيدة جميلة كانت في عيون ( يحيى ) و إن لم يجنيها كما تمنى و لكن ما أحلى الحُب باسم الصداقة .. هذا الحب غير المُقيد بافتعال غيرة و لا باحتياج مزمن لباقات الورود و الهدايا .. يكفي فقط ابتهاج الروح التي تتسامر مع مثيلتها دون كلل .  
لِم لا أخبرها بحبي ؟ سأفقدها كصديقة ... إذاً هل سأبقى هكذا حتى ينفلت الرابط بيننا حين يصرح أحدهم بحبه الصادق لها و أكون أنا مجرد ساعات تتذكر منها ثواني لينتعش بها القلب , فتكسب هي حبيب و صديق و أنا أكسب لا شيء .
صيحات الزبائن بالعملات المعدنية , و الزيت الساخن يشكل سحاب دافيء يشبه السراب , طابور الرجال و الحريم اختلط ببعضه و صارت الفوضي سائدة الموقف و الوساطة وصلت لمحل ( راشد ) , فيعطي أقراص الفلافل المحشية الساخنة و أكياس الفول المزدحمة بفلاقاته الطازجة لتقع في أيدي أصحاب النفوذ و الأحباء و أولهم صبي المعلم ( سعد ) , أما ( يحيى ) فكلما اقترب من ال" طاسة " ال"ملهلبة " تراجع خطوة بسبب من يخترق الطابور و هو مغلوب على أمره .. و لكن كما قالت " الست " ( إنما للصبر حدود ...للصبر حدوووود ...يا حبيييييبي ) و مع تصفيق الجمهور , زعق (يحيى ) بهستيريا  و طلب غاضباً من ( راشد ) الذي بكل سماجة و سٌخف و ببرود أعصاب تكفي لتجمد قطبي الأرض مجدداً بعد انصهارهما : براحة طيب يا عم ( يحيى ) .. لو كنت شغال عندي كان زمانك دلوقتي بتاخد حاجتك بسرعة ...ههههه !
انتزع منه كيس الفول البلاستيك و قرطاس الفلافل السخن و وضعهم في " كيسة " , و قام بالبثق على الأرض و بعد معاناة استخلص ما أراد و اتجه نحوه الشقة عابساً , ساخطاً على حال الشارع مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية و تفشي كلمة ( نعم ) التي تحيط جدران الشارع و أولها على المقهى الخاص ب(سعد ) و محلات المبعثرة في الشارع الممتد ...
عندما يسأم المرء من قول نعم يكون علاجه إما الانتحار إما رفض كل الصواب و شارعنا اعتاد قول ال(نعم ) . ماذا تنتظر من أناس يقولون نعم حين يُستدعون من باب التأدب و الاحترام .
طرَق الباب الخشبي بعد أن تخطى الشارع و صعد الدرج بنشاط و هو لا يعرف شيئاً عن علاقة أبيه بالسُلمة المكسورة التي تنغص عليه حياته . انتظر حتى يأتيه رب البيت المتبقى , فلم يتأخر  و فتح الباب على مصرعيه و استقبل الأب الفول و الفلافل قبل ( يحيى ) و كأنه متلهف لطبق الفول بالكمون و الفلفل المطحون و بعض الملح ليمزجه بالليمون الذي كلما صغُر حجمة صار أشد مرارة و كلما صار مراً كلما انتشى به ( سعيد ) ...
فلقد اعتاد طبق ( زينب ) صباح كل يوم , حتى آتى صباح تركت فيه ( زينب ) طبق الفول  فارغاً على الرف يبكي بجوار آخر صحن غُسل بأصابعها .
_ حعملك شوية فول يا يحيى ...أنما ايه مش حتصدق نفسك .
_ يا حاج , أنت المفروض كنت تبقى صاحب محمد أحمد أصلاً ... ألا صحيح هو ليه أنت بتصمم تيجيب من عند عم قرف دا ؟
_ بختبر قوة تحملك .. ما هو اللي بيجي سهل بيروح سهل .
_ أيوا بقى يا عمهم ... ايه الكلام العميق دا ... الطرابيزة جاهزة و الفلافل المولعة مستنياك تنفخ فيها .
_ يا ريتك كنت فالح في الدراسة زي ما انت فالح في الكلام كدا .

اختفي ظهر الأب وراء ستار ردهة يحفها على جانبها الأيمن حماماً يكفي لأصبع شخص مبتور الأقدام و مطبخ يحتوي على بوتاجاز مُحي من عليه اسم مصنعه و تبقى فيه بعض الأزرار التالفة و الشحوم الدهنية المتبقية من أصناف الطعام المطهوة على مدار ثلاثين عاماً دون انقطاع .
وحينها انقلب الطقس و غابت الشمس متوشحة بسحاب ثقيلة كثيف فالبرق يصل للطاولة و الرعد يُكمل لوحة الارتعاب في قلب ( يحيى ).
 فكلما آتاه أحدهما يهرب لحضن ( زينب ) , و لا يبارحه إلا عند سقوط الأمطار فيهدأ قلبه المترعد . و لكنه همّ سريعاً ليفقل ال"شيش" و يُلحق ورائه الدُلف الزجاجية خشبية الأُطر ...
 فالشتاء هو الهروب منه و تأمله من بعيد .. الشتاء دعوة مستجابة , كلام يذوب في أرض يجرفها الطين الرطب ليطرحها في مصب نهرٍ جارٍ .

_ و أحلى فول لأحلى شاب في محطة الرمل لحد ميامي و سبورتين و الناس النضيف كلها .

و قدّم بوجه بشوش (سعيد ) الطبق مصحوباً ببصلة خضراء , كنوع من أنواع التحلية و بجانب الصحنين . رَسخت كومة من الأرغفة المُدعمة من الدولة و المرصعة ببعض الحجارة و الحصى اللذيذة .
سُمع دوي طبول الحرب و هجم الاثنين دون رحمة , كأثنين مفقدوين لم يريا طعاماً منذ حولاً كاملاً .
قطعت رنة موبايل ( سعيد ) صمت بناه الجوع . نغمة مجسمة تم تسجيلها بجنيهين في هذا الشارع , ليتلقى رقماً لا يرد له اسماً فصغر عيناه قليلاً ليتفحص الرقم و لم ينجح في الاستدلال على شيء .
سمع ( يحيى ) المكالمة من طرف واحد و فم المتحدث يتحرك في جميع الاتجاهات يلطخه لون الفول  المدمس
( لا ازاي طبعاً .. أهلاً يا فايز يا خويا ... يا حول الله ... حصل امتى بس ... لا لازم دا واجب .. حقوله بس قولي حتعملوا العزاء فين ؟ ..آه .. عمر مكرم عارفه .. البقاء لله يا خويا ... في امان الله )
فهم أن أحدهم مات و لكن من هو , ينتظر الاجابة النموذجية من الأب . رد على سؤال قبل أن يُسأل مخبراً إياه أنها خالته ( عايشة ) و ينبغي أن نسافر اليوم لنقدم الواجب و نرجع في ذات اليوم ...
 البقاء لله يا بني .. أجملت الموقف .
و بدأت الرحلة , لم يتأثر ( يحيى ) طويلاً فقط تذكر مشهد احتضار أمه المغفور لها , يحملها أبوه و يودعها و هو يضم رأسها إلى صدره و يهمس في ودنها لا يعرف أحد ما يخبرها إيها ... يتذكر ( يحيى ) تلك الصرخات المدوية و يتذكر ( سعيد ) برودة الجسد و الروح التي تعلقت به حتى كادت روحه تنسلخ منه في هذه اللحظات ... كانت تنظر إليه و تبكي في وداعها الأخير .. لعلها قالت " آسفة فلقد أردتك و لكن لم يطاوعني فؤادي و أرجوك , تذكر مني نسمات الجمال و اترك الاعتياد تزروه رياح الزمن " .
لم يعرف ( يحيى ) لِم تتسلل بعض قطرات الدمع من عينه , في حين الأمطارسيول تهطل  و فوخ الريح يُلحن سمفونية مآساوية في خلفية مشهد يتصاعد و أحداثه تتلاحق ...
هبطا الأب و ولده على السلم , و الوِجهة محطة مصر فهي الأقرب لهم ليستأجرا مشروع و يحضرون مراسم العزاء في الموعد المحدد .
المطر يجلد مؤخرتي رأسهما و لا يوجد مخبأ مؤقت .أخذا يسارعان الزمن و يسيران عكس التيار , و حين وصلا إلى ميدان محطة مصر الشاسع , حيث بعض الباعة الجائلين الحفاة و الشمسيات المبتلة و ندى المياه على ألعاب أطفال صينية رديئة الصنع , و سيدة تستظل بشجرة كثيفة الأوراق في وسط الميدان لتبيع المناديل ... ما حاجتنا بالمناديل , لا أحد يعرف و لكن الرزق " يحب الخفية " .. ما علاقة هذا المثل بالتساؤل .. لا شيء , أننا نتهلف لقول أمثال و مواعظ دون حتى التحقق من صحة إسقاطها .
يُذكر أن ( سعيد )  ارتدى بنطال قطيفة بني , و قميص أبيض يمر به خطوط عرضية حمراء شبه مهندم  لتعجله في كيّه و فوقه معطف صوفي يغرس في القميص و حذاء بني دون رباط و غير ملمع عليه بعض آثار الطين الجاف , أما عن ( يحيى ) فاكتفى بنطال " جينس " قاتم يخفي البقع الصغيرة , و تيشرت يغطي ذراعيه طولاً و معطف يحمله على يديه لونه " كُحلي " ملتطخ ببقع رمادية بسبب كثر وقوعه رغماً عنه أثناء الرحلة لل"مشروع " و حذاء رياضي  " نيكي" بلاستيكي ابتاعه من الوكالة بخمسين جنيهاً فقط لا غير , الخمسون جنيهاً نظير علامة الصح .
_ تعالى مصر مصر مصر ... رمسيس يا باشا ...صحراوي طوالي .
هكذا ينادي سائق المشروع ساعياً لكسب رزقه من جيوب الراكبين , هذا السائق القصير ذو الشارب الكبير نسبياً , تستوضح حين تراه أن سنه لا يتعدى الثلاثين , ممسكاً بكوب شاي متجمد في يده يبعث له بالدفء سانداً راحة قدمه على أحد الاطارات الأربعة ...أخذ يعُد ما جناه هذا اليوم و الذي لم يكن بالقليل بالمرة , و وجهه يتسآل عن كيفية توزيع إيراد اليوم على احتياجاته . بوجه متحمس سارع السائق بمناداة ( سعيد ) و ( يحيى ) ليكمل ال"نفرين اللي قدام " هكذا قال , و صعد الاثنين و أغلقت النوافذ و سكن المطر حتى تتشرب الأرض من سيول السماء و تستعد لاستقبال ندى الفجر عند الغروب ... فما من مستحيل إلا المستحيل .
اتفق الجميع على الخمسة وعشرين جنيهاً أجرة , و انطلقت الرحلة لتلبية الواجب .
ما أن اقلعت الطائرة في شوارع خاوية , تشاهد فقط قطة محتمية بسيارة مركونة على جانب الطريق وكلب ضلّ السبيل يحرك جسمه بعنف ليطرد شعر جسده الماء منتعشاً  و بجواره صديقه الإنسان ... شيخ شاحب يرتدي ثياب رثة و الطين يهطل مع قطرات السماء التي تذرف حزناً على سوء حاله .. فإذا رأت الملائكة هذا الشيخ ما تعجبت
}  اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك { .
إنها ( منى ) تروضّ (يحيى ) بلجام الاهتمام , وضع السماعة على أذنه و بعد إلالقاء التحية و بعض الجمل خفيفة الوقع لينبسط بها وجه ( يحيى ) الصامت منذ سماع الخبر ... نعم صامت لا يدري على أي شعور يجب انتقاءه ليليق بالحدث .
قال ( سعيد ) بعد انتهاء المكالمة :
_ مين يا ( يحيى ) ..حد من أخوالك ؟
_ لا يا بابا , دي مُنى .
_ عاملة ايه البنت دي ؟..بقالها كتير مش بتيجي تزورني .. من ساعة ما بقيت أنت مبتهوبش ناحية كليتك
_ أهي كويسة .. بسمع صوتها كُل فين و فين ...
_ طب هات الموبايل ثانية كدا ...
عثر على اسمين ( الحاج ) و ( مُنى ) ... و عدد مكالماته لها فاق عدد ضحايا الحربين العالميتين , ثم أرجع الهاتف له من جديد و صمت لبرهة ثم استكمل :
_ بس بنت حلال منى دي ... بنت جدعة كدا بتفكرني بأمك .. أهي دي تبقى أم عظيمة .
_ و انت عرفت منين ؟ مش يمكن حظها يوقعها في شخص غلط ؟
_ ممكن بس لو ركزت في عينها حتشوف العند و الاصرار و أنت أدرى مني بقى .. ما هي صاحبتك .. أختك .. زي ما انت شايف بقى .
_ هو أيامك كان الحب بالشوكة و السكينة زي ما بنشوف كدا في الأبيض و الاسود يا حاج صحيح ؟
_ أيامنا كانت كل حاجة ليها مكانها , الوحش كان موجود بس مكناش بنقول عليه حلو .. بس لو عاوز تفرح بتلاقي الحاجة اللي تفرحك بسهولة .. الحياة كانت أبطأ بمراحل من حياتكم بس البطيء فيه دايماً استمتاع كدا يا يحيى .. تبعت لبنت جواب و تعمل خطة جهنمية عشان تتكلموا و قلبك يدق و انت بتحط لها الجواب في شنطة مدرستها في الفسحة و يفضل يدق و يدق لحد ما يجيلك ردها مكتوب بصدق .. تبقى بتقرا أول سطر و عينك بتلمح السطر الأخير اللي مستني فيه كلمة حلوة من فتات أحلام دي . و لا لما كنا بنسمع الست و عبد المطلب و عبد الوهاب و ساعات كانوا يذيعوا مقطوعات كدا للعازفين بتوع بلاد برا .. و يا سلام بقى لما ساعة لقلبك يتذاع دا يوم بنستدعد له من الجمعة للجمعة ... أيااااام بقى .
_ تفتكر يا بابا أنا حقول لأولادي أنهم اتعس مني ؟
_ الله و أعلم يا بني , بس مين عالم يمكن بكره أحلى ... يدينا طولة العُمر .
ناما الاثنين نوماً قلقاً , فأحلامهما أحلام يقظة .. كل منهما يحلم بأمجاده , من يرى أطلالها و من يرى مستقبلها .. من يرى نهاية و من يرى بداية , الوجهان ضحكوين لذا لا نجد للحزن غبار .
السيارة تركض سريعاً و الماسحات تطيح بصغائر الأمطار التي كلما اقتربت السيارة نحو القاهرة تباطأ هطولها و خفت حدتها .
و في تمام الخامسة و ثمانية  دقائق , هكذا لاحظ ( سعيد ) الساعة على "تابلوه " السيارة  حيث يمكث كلب يهز رأسه طوال الطريق و كوب الشاي الفارغ من سائله و المليئة بحبات الشاي المطحونة . 
نزل الاثنين بعد أن وهب أصغرهما الأجرة للسائق مكافأة له أنه لم ينقلبا بسيارته و هبطا بسلام  .
_ طب الساعة خامسة و لسه خالي مكلمني و قال لي أن العزاء سابعة و نص .. كان بيأكد عليا و بعدين يا حاج .. حنروح فين في الساعتين دول ؟
_ مطرح ما رجلينا تودينا ...
مشيا هائمين مستمتعين بنسمة هواء مباغتة بين الحين و الآخر , فشتاء القاهرة سكين في ظهر صديقك لن تراه إلا حين تختصما . الأب يتعكز على عصاه و يده الثانية تحتمي بساعد ( يحيى ) .
 صمت في شارع لا ترى أثناءه مخلوقاً .. كل البشر باتت طيوراً مهاجرة تبحث عن دفء الكهوف و اشتعال لهيب نار موقدة .
نظر إلى أبيه و رأه يتنسم مشتهياً المزيد من عطر الذكريات ..
_ صحيح يا بابا , أنت ليه مقعدتش مع ماما هنا في القاهرة ؟
_ القاهرة دي تتشاف , متتعش ..
_ و ماما وافقت كدا بسهولة .. تسيب العيلة و تيجي معاك ؟
_ يا بني و أنت أبوك شوية في البلد ... أنا أمك دي عارفتها بالصدفة , حاجة كدا زي ما بنشوف في الأفلام ...
و بدأ السرد و لم يُسمع دوي صرخات الاندهاش في قاع بحر الصمت ليس فيما يسرد بل فيما تختلس كلماته من روحه , فيقول ....
 طلبة الجامعات كانت في نشاط مكثف خاصةً بعد الحرب المجيدة , و بعد اتجاه الدولة لسياسة السلام و غيرها من أوضاع قتُلت بحثاً و تفلسفاً ..
استقبل أسبوع الجامعات هذه المرة  جامعة القاهرة , و على الطلبة من كل جحر أن يخرجوا و يشاركوا لاحياء الأنشطة الجامعية المندحرة .
أبوك كان أحد الكُتاب , وإن لم يكن مهووساً بالكتابة و لكنه نشيطاً مثابراً مُصّراً أن يتلقي قدره فيسعى وراءه قبل أن يأتيه ..
 كنا نحضر نشاطات , و ندوات شعرية , يأتي إلينا من كل صوب مثقفاً , فيلسوفاً أحياناً .. كتب ماركس ملأت سور الأزبكية و النبي دانيال و تهافت على الفكر الشيوعي الكثير من الشباب ,  فالاتحاد السوفيتي حينها بدأت يفقد أمجاده و أصبحت اللعبة في يد أمريكا و اصبحنا نمتلك رئيس دولة العلم و الايمان ...
لما اجتمع الطلبة من كافة ربوع مصر , لم أتبنينها من الزحام و  عندما دارت حلقة الحوار و طُلب من كل فرد من الحلقة أن يُبدع شيئاً أدبياً طريفاً أو معلومة ثمينة  أو يقول نادرة تبكينا ضحكاً , أنا كنت آخر من سيصوب الكلمات و كنت اُحضر قصة ارتجالية و بنيت شخصيات و أحداث في دقيقتين إن لم يكن أقل , لأكن صريح لم أحب أمك و رغم ذلك و كما قالت لي لن أدع الريح تطيح بالذكريات , فهي العروة الأشد ...
عندما جاء الدور لم أتوقع الكثير منها و  فجاءتني صراحتها و أفصحت عن قصة حب فاشلة بثقة نيوتن عندما " وجدها " .
فهي لم تكن عميقة و لا تُغطيها التفاصيل .. ارتجلت بسلاسة كالفرزدق و جُرير  بكل أدوات التعبير المعتادة و قالت :

 " عزيزتي، هكذا تبدأ قصيدتي
احترمتك عندما اخبرتيني انك فاقدة القلب قتيلة
زاد ضعفي و ازددتي انت قوة
توشحتي امام قلبي العاري بالاعتذار و اتخذتيه سترة
رحت اشتكي عفتك للبحر، هاج و عنفني بامواجه
قال اذهب منها يا بائس، لقد نسيت انك من عباده
ولدتِ صيفا كما وُلِدتْ و رفض الشتاء تبنينا
حتى لا يُغرق فيضان دموعي من الامطار أهالينا
اقرأي القصيدة مرتين، الاولى لتتذكري كلماتي
و الثانية لتنسي كل من لم ينساكِ
 هكذا بدأت و هكذا تنتهي ...... "
تصفيق  و تقدير لجهد في انتقاء الكلمات و إن لم يكن شعراً مثالياً حسب قواعده و أوزانه , و المستغرب منه هي أنها تحدثت على لسان الحبيب , لم أفهم لِم و لكن القصيدة الصغيرة راقتني و سريعاً اجريت تحرياتي و أردت اعتيادها مدى الحياة .
 كلانا يعرف أننا محكوم على حبنا بالاعدام و عندما جئت يا ( يحيى ) حان وقت تطعيمك بمصل العواطف و لكن الآن افتقد اعتيادها يا بنيّ .
 لا أنكر أن حديثها كان ممتع  و حين أبعث لها بأول خطاب في البريد و بعد حوالي خمس أشهر من الخطابات السرية , استجمعت قواي بعد أن حصلت على وظيفتي و اتجهت لها لأتزوجها و قد حدث و تفهمت أننا سنضطر للمعيشة على أطلال المدينة الغارقة ....
تنزهنا بعض الأحيان في الزمالك , تلك المنطقة الراقية و مشينا في وسط البلد و مررنا على كوبري العشاق و لم نحتسى الحلبسة كما في الأفلام .. حضرنا أفلاماً رومانسية سوياً و اتذكر " حبيبي دائماً " , لقد كنا نتبارى في نقد سطحية التعبير عن الحب فيه و كيف يكمن الحب في أذهان العامة وقتها في مشهد احتضار البطلة و تقبيل البطل لها و هي تحتاج للهواء أكثر من القبلة . كنا نناقش الروايات سوياً و أختلفنا حول رؤيتنا لرواية رد قلبي ليوسف السباعي , و لم يجمعنا سوى نجيب محفوظ النجيب .. هذا الشخص الذي لم نعتاد أن يدور خلافاً محتدم حول أي صرخة يصدرها في كتبه ..
نضجنا معاً , وحيدين , بعيداً عن الأهل و الأصدقاء , نشاهد العالم في الصحف و نخرج سوياً لحديقة الفسطاط و أحياناً حديقة الحيوان و لنتذكر ذكريات أسبوع الجامعات ... و عندما نرجع اسكندرية يكون جدول الأعمال مختلف , المنتزه هي ملاذنا الأول نرى العشاق و نتأمل حركاتهم و يتمنى كل منا أن يحظى بلحظة كتلك .. مجرد خيانة عابرة لا تتعدى لمس أصابع عاشق أو حتى فاقد العقل .. عيونها تسيل طمعاً في خيانة اعتيادي مع تلقائية العشاق و فرارهم من يد قضاة الحب الظلمة .
 زياراتنا لعائلتنا لا تتعدى بعض الساعات صبيحة يوم العيد , يوم نسافر القاهرة لنصافح عائلتها ثم نرجع لننجز المهم التالية في الاسكندرية . نتشارك أنا و هي المشوار , نهون على بعضنا البعض رحلة الكفاح .. هذا و لم أفقه سر تمسكها بتلك الرتابة ... فأنا قد مللت إلا أني لا أطيق الابتعاد .
حالنا كحال مجتمع بأكمله , لا يريد الحرب و لا السلام , لا يريد المساجد و لا ينوي هدمها , لا يقدس الشيخ ذو اللحية  و لا يرضى بغيره إماماً . العالم صار يوماً بعد الأخر أسرع و العولمة سيطرت و الانفتاح جعل العقول المهتزة تترنح و تتهاوى ... قبلات في أفلام سُميت " مقاولات " السينما و أصبحت الدعارة ممنوعة من بعد الثورة فازداد مريدي بيوت اللذة المؤقتة و أندية الفيديو التي تلبي احتياجات المراهقين  . ترى صلوات تهجُد في المساجد و عشوائيات يسكن فيها فقراء ازدادوا فقراً و أراضي مُنحت للمستعبدين فاستعبدوا غيرهم حين لم يجدوا رباً لأراضيهم  ... يموت رئيس بفكرة ... ما هذا العبث !
 ظهر الحجاب و إن لم يكن مألوفاً لدى الشابات حينها .. رُصدت أول محاولة لاغتصاب فتاة في وضح النهار .. خطط خامسية و عشرية  و طابا ترجع للمصريين و حال المجتمع من سيء لأسوء , لم يعد هناك خطابات و مراسيل فقط تقتلع السماعة لتهاتف من في الصعيد . حين أصبح الوصال سهل انعدم .... ثم سكت ..
_ مش عاوز تاكل حاجة .. أنا جعان .. ما توديني محل كشري أحسن نفسي فيه
_ هو أنا مش عارف الصراحة محلات في المنطقة دي .. و لا غيرها بس اللي يدور بنفسه ميتوهش .
_ أنا فاكر في محل كشري في شارع كدا .. عارفه بالشبه كدا .. بس حنوصله .
_ حتقدر تكمل مشي يا حاج ؟
_ أنت فاكرني عجزت زيك و لا ايه يا  ( يحيى ) ؟
بعد أن انتهى من سرد بعض قشور أحداث مرت على هذا الرجل , و أسقط في طريق قصته تلك بعض التطورات في حياته نفسها . اتخذت رجليهما الطريق نحو ميدان التحرير , و قد اُحتلت شوارعه الجانبية بسيارات من مختلف الأنواع . توقف عقل ( يحيى ) و ( سعيد ) و إن لم يتوقفا عن السير , حتى حلّ في عقل ( سعيد ) تساؤل و هو " لِم لا أعرف شيئاً عن حياة (يحيى ) ؟ لِم لا نتجادل ؟ لِم لا نتشاحن ؟ لِم يتأدب معي و لا يمازحنى كثيراً ؟ ...
حينها فقط أطلق نحو ابنه رصاصة الرحمة و سأل سؤال عبثي وجودي بعض الشيء :
_ و أنت بقى يا ( يحيى ) مش شايف موضوع ( مُنى ) دا مُريب ..
_ مُريب ؟ ازاي يعني ؟ و بعدين هو انت ايه اللي طلع في دماغك كدا مرة واحدة ( منى ) ؟
_ لا , أنا بس بقصر المسافة لحد المحل بالكلام ... لو عاوزنا نسكت خلاص .
لم يعلق و رجع الصمت ليحتل صدارة المشهد و البطلان يراجعان أدوارهم و مسار الحوار بينهم . يتردد كثيراً , يراجع نفسه قبل أن تنفلت منه , يحبس الكثير في نفسه و يريد أن يُفضي به لأحد و إن لم يجد . كالمعتاد حين يحمل يضيق به صدره يذهب إليها ليحكي لها , و لكن الآن الوضع يختلف .. فهي الآثمة , فكيف يمكن أن يكون الآثم هو القاضي . وترك التلقائية تثب من بين شفتيه و قال دون أن يسأله الأب ...
( لقد بدأ الحدث الجلل في حياتي , حينها رأيتها من بعيد مرفوعة على الأعناق , تهتف بكل حماسة , أعجبني ما تفعله .. أنها لا تدري لِم تفعله .. لكن في كل لحظة تحظى بها فهي في قمة الانتشاء و الاعتزاز بالنفس . لم أشاهدها مرة نادمة على أي قرار أخذته , ليس البداية معها معتادة , في السنة الأولى اتخذت قرار التقرب منها كصديق , حين علمت أنه التقرب إليها دنو , و الابتعاد عنها رفعة . تروقك في المشهد الأول , لتزعجك في الثاني , و تبكيك في الثالث , لتسدل الستار في الخامس خاذفة الرابع لاحتوائه على عبارات رقيقة و هذا ما تمقته ..الكلام البديع . هذا لا يمنع أن صداقتنا تلك تمتعني , مزاحنا و قيامنا سوياً بأشياء عبثية تغرقني بشلال من السعادة .
يأتي وقت السياسة فنفترق , فأنا لست مَعنى بمعاناة بمآسي العراق بعد العدوان , لست معني بمجاعات افريقيا و أطفال الجفاف , لا اكترث بسياسات الحزب الوطني و لا اهتم بأسر الاخوان في جامعتنا و اجتياح أعضائهم في اتحاد طلاب الجامعات , لا اريد هذا الصخب في الندوات التي تُعقد في كليتنا عن قانون الطواريء و مدى أهميته في محاربة الارهاب منذ نهاية القرن السابق و حتى الآن , لا اهتم بفساد اساتذة الجامعة إلا حين يخصم من حقي نصف درجة .
و سرعان ما نلتقي ثانيةً , نرجع لنستكع سوياً ... نأخذ مقعدين في وسط حلقة مليئة بالشباب و الفتيات , نسمع في الخلفية أغاني ال"راب" سريعة الايقاع , و الطبول تقرعها  سماعات مختبئة في أركان المقهى , نتسامر و نسب و نلعن في الجملة تسعة مرات .
نسمع من الفتيات حكايات عن ما يدور في كليتنا إذا تغيبنا عنها , فالنساء هن أبرع محرري أخبار على مستوى العالم . و نسمع القصص الوهمية من شاب عاجز الفعل , حالم في قصصه , عن تعدد علاقاته و الشابات التي تتهافت عليه .. نستمع يحرص ثم نقوم بالنظر لبعضنا البعض و نهلك ضحكاً . معاً كنا نقتل الوقت , نستهزيء به و نتبادل الغناء سوياً حين نسمع " عمرو دياب " في ألبومه الجديد . لا يفوتنا أحلى ليالي السنة , حينها كانت لحظة لن أنساها مدى الدهر , احتفلنا في فيلا صديق لنا , أبوه رجل أعمال مشهور , يسبه في جلستنا كثيراً لأنه خصم من مرتبه الشهري حوالي الثلاث مائة جنيهاً . الحفلة تلك اتذكرها كأنها اليوم , الصخي يغطي الأذن و الجسد لا ارادياً يتمايل , و الخطر ينعدم و العبثية في كل قطعة من الفيلا ... فيلا الخطيئة , أي مؤمن يأتي ليجرب المعاصي بنهكات مختلفة .. أي محرم ستعثر عليه و بسهولة و ما يميز هذا المكان كون المعصية قمة الإيمان ... فما الإيمان هنا إلا لذة و ابتهاج . فلنودع عام سابق بارتكاب معاصي و نبدأ عام جديد بقلوب عاصية نادمة . نعبث مع الله , سمعت أحد الملحدين من أصدقائي يقول أننا في لعبة مع خالقنا .. فهو يعبث بنا و نحن نبعث بأقدرانا . في أول ثانية من العام , من المفترض أن نهنيء أنفسنا بعناق أو قبلة أو ما أكثر من ذلك ... و لكن ما من رفيق .. ما من شريك . أما هذا العام فالوضع تماماً مختلف , قالت لي " عام جديد .. عام سعيد يا ( يحيى ) " و احتضنتي  . مشهد نقصه كلمة .. ما أبدعه مشهد !  ) . ثم صمت و ينظر ل(سعيد ) , و دخلا الاثنين إلى المطعم المنشود و استويا على المائة و أمامه صحون عليه حبات العدس و الأرز و المكرونة و صحن صغير يحوي خليط من الشطة و الطماطم السائلة الساخنة .... و أكلا بلا هوادة , و نظر إلي الساعة ليجدها التاسعة ...
_ عاوز تعزي يا ( يحيى ) ؟
_ عاوز اتكلم ...

mercredi 2 septembre 2015

هذا الجميل هو أقبح ما فينا


هذا الجميل هو أقبح ما فينا

وطأت قدميّ قرية , استقبلني بعض أهلها على مشارفها بعد عناء السفر المُنهك للروح , دلفت من رحم تلك القرية , زففتُ بالأهازيج و التهليل و الأغاني المبهجة التي تبعث لي بأني على مشارف قطعة من الجنة التي أُنزل عليها آدم .
على اليمين سيدة تحمل طفلاً يبكي فرحاً بلقائي , و على يساري شيخاً أعرج سعيد بي و حزين علىّ .
صبية يمسكوا بأطراف أصابع الفتيات الصغيرات غير البالغات , أب يقبض على ابنته خوفاً عليها من شيء مجهول .
شابٌ على أحد الضفتين يمني نفسه بالسيدة على الضفة الأُخرى , فينظر لي مستوحياً أمله في تأملي لأخبره ألا يخاف .
الطبول تعلو لتزيد المشهد ارتباكاً , السمفونية غير منسجمة كفاية , العازفون في قرية غير القرية . انتظرني شيء بين الضفتين , كان دابة لتحملني لعميق تلك القرية التي لم اتمكن من أن أُحدد لها ماهية .
آخر الضفتين تقابل امرأة و رجل , بقلمهما ... انتظرت أن ابتعد عن أولى الصفوف و انظر لأبعد مدى . ركبت الدابة و سرت بها وحيداً في منتصف الضفتين لم أنأى عن أحدهما و لم اقترب ...
السيدة تكتب احساسها على ورقة لتلقي به تحت قدميها فتدفنه , و الرجل يرسم وجوه المصطفين و لكن وجوهم أرواحهم ..شيء لا يُرى إلا لمن امتلك بصيرة الروح الدفينة .
السيدة التي حملت طفلها ...وجدته يرسم امرأة تُجلد بتبلد و تعطي ظهرها للجلاد لتحمي نتاج رحمها الرحيم و الطفل يحلق في السماء دون أجنحة و يقول ( قادم دون حساب أيها العدل ) .
الشيخ السعيد رأيته تعيس دموعه تغرق لوحته , واقف أمام قبره على أهبة الاستعداد ليلاقي الموت .
الشاب و الفتاة المتقابلان المتوازيان , عثرت عليهما في لوحة الحب الخالية من كلمات الشاعرية و المليئة بتنهدات التأمل و تخيلت مشهد رجوع حواء إلى ضلع آدم حين استلقي فيه العاشقان على ظهرهما يتأملان جمالهما في كون خالقهما .
الصبية و الفتيات يشكلون حلقة مفرغة قابضين على الأيادي كاملةَ بإحكام , و كأن لو انفلت أحدهم من الحلقة تلك ضاعت براءتهم و مات كل منهم وحيداً من آثر نواحه المستمر .
إنها تلك القرية التي على مشارفها البهجة و الطبول و السرور , و في باطنها كون من الخيالات في وجوه ساكنيها .
 انزلني الحمار من على ظهره حين أوقفته و أردت أن اتأمل جمال القرية في لوحات الرجل و في حبر السيدة و قال لي ( هذا الجميل الذي تراه هو أقبح ما فينا ) .
و أمر الحمار بنفيّ من القرية و محو السيدة و الرجل من على وجه القرية .
 و ما إن فعل ذاك إلا و قد جاء أحد الصبية و الفتيات ليحل محلهما .