lundi 27 avril 2015

مكالمة من مجهول ...!!!

مكالمة منتصف الليل !!!
بدأ الحدث بمكالمة أحدهم في منتصف الليل , رنين الهاتف أيقظني من نومٍ عميقٍ , سمعت الصوت فلم أتذكر من يحدثني و لكن لهجته جعلتني في لحظة أراه أمام عيناي لوهلة . ساور زوجي الشك , ما سر المكالمة التي تأتي في منتصف ليل سيدة حسناء متزوجة , لم ينزوي جمالها بعد ....إنه يعشقني أو هكذا يبدو و لكن سئمت " الروتين " ...سئمت كلماته الرقيقة حتى أني تمنيت أن يوبخني حتى و لمرة .
سمعت وَقع أقدامه و هي تَحْتَك بالأرضية الخشبية , حتى وضعت يد الهاتف لأنهي المكالمة , أحسست به يتقدم أكثر فأكثر و ما إذ التفتُ لأتخذ غرفة نومي مقصداً ....فإذ به يلقاني في منتصف الردهة التي ينبثق من جدرانها لوحة غاية في الاتفان تنم عن مهارة رسامها , لوحة تحمل في طياتها منظر بديع لبحر يركبه صائد على زورقه , فنظرت إليه فبادلني نظرتي بلكمة في غاية العنف , و لم يكتفي فقط بها بل أعد لي مفاجأة بجانبها , صفعة مشبعة بالرغبة في التلذذ بالعقاب و الغيظ .
كانت الابتسامة راسخة , مطبوعة على خِلقَته و حينها أمسك برأسي ليدق بها مسمار يحمل اللوحة , أخذ يدق و يدق حتى فتح باب عقلي و لطخت مياه البحر بالدماء المُراقة السائرة لتَعلق باللوحة و تطرق على أبواب المنظر الجميل , تطرق لتترك عقلي شارداً , و قد خيّب أمالي .
بعد أن انتهى فأرجع رأسي ليضمها بين صدره و شرع يقّبل جبيني الذي يحمل دماء ثائرة , و اصطحبني لدورة المياه و نزل بعقلي تحت الصنبور ليُلّطف من حِدة الجرح التي أحدثه في روحي . بعد أن آتى بالمنشفة و ناولني إيها , انطلق بجثتي نحو المطبخ و فتح أحد أدراجه و انهمر علىّ بالبُن حتى استغتث عقلي و نُبح صوته بحثاً عن من ينقذه من تلك الليلة التي لا يبدو لها نهاية .
لم أبالي أبداً , و كإنني فقدت حبلي الشوكي المصحوب بخلاياي العصبية , و لكني كنت صابرة صبراً لم يصبره أيوب نفسه , صبرت على هذا الكائن الغريب الذي راودني الشك في مدى إخلاصه لي .
و بعد عملية جراحية أجرها جراح فاشل في تلك الأمسية الدامية , وضعت يداي على كتفه حتى يساعدني على تخطي الموقف و نرجع لفراش نومنا الذي طالما كان شاهداً على أبهى أمسيات بين زوجين منذ بدء الخليقة . لم أستطع أن استلقي فأسندت ظهري لمقدمة سريري و هو كان يمارس دور المُعالج الطبيعي و تركني لأستنشق هواءً طيب الرِيح , حينها رائحة الدماء الذكية استحالت لرائحة عفِنة , كل شئ قُلِب إلى ضده في مجرد ثوان معدودة .
زوج مقتُ فيه الإعتياد و تكرار كلمات الحب الشغوفة المصحوبة بصفاء روحه , و في غضون لحظات تحول إلى جلاد لا يعرف في حياته سوى الجَلد أو الرمي بالرصاص أو الشنف بالحبل كعقوبة , كلها عقوبات تؤدي في نهاية المطاف إلى الموت !!!
بدأ التحقيق , و معها سمعنا صوت عقارب الساعة أبواب الواحدة صباحاً , و كان يتقمس دور ضابط المباحث و هو في منتهى الدقة و الابداع في طرحه للأسئلة حتى كدت أستوقفه فأصفق له و أهبه جائزة تقديرية ....و شرعت معه ..أنا و جلادي
س: من تظنين الذي يمكن أن يُحِدث سيدة متزوج في وقت متأخر من الليل ؟
ج:بالتأكيد , سيكون عشيقها يا حبيبى .
س:إجابة أولى مثالية .........جاء أول ( ألم ) على وجهي , و تابع .....هل لي أن استكمل تحقيقي أم تريدين من يطيّب لكِ جرحك ؟
ج:لا فلتتابع يا حياتي , ما زلنا في أول الطريق .
س:هل تظنين أن زوج تلك السيدة سيظل مغفل لوقتِ طويل ؟
ج:طبعاً , سيظل متغافل و ليس مغفلاً .
س:فلتضعين نفسِك مكاني , ما عساكِ فعله ؟
ج: ما فعلته أنتَ لتوك .
س:و العشق في القلوب , هل سيذوب في صفعات ألقاك بها ؟
ج:أنت من قلتها , العشق في القلوب , بل و في العقول أيضاً و لنكن أشمل فإن معان الإنسانية جميعها تكمن في أرواحنا و من رحمة بارئها أن الأرواح منطقة مقدسة محظورة لا مساس بها , و لا سبيل للوصول إليها .
س: في رأيٍك , لم هي محرمة السبيل ؟
ج:لأن خالقها يعلم طبيعتنا جيداً , فإذا مسسناها سنتحول حينها إلى ضباع بشرية , لا تعرف سوى كل معان الشر و إذا ما ظهرت أمامها فريسة الخير , سلت حسامها و انقضت عليها لتقضي عليها فتسود كل معان اللانسانية ...حربا أو قتل أو خيانة ...كلها تؤول لهلاكنا .
س:بالنسبة لمن حولك , كيف سينظرون لتلك السيدة الخائنة ؟
ج:سينظرون إليها , يا عزيزى , كما ينظرون لنظريتها العفيفة .
س:ذات النظرة , و لكن كيف ؟ .......كلمة " كيف" أصاحبها قبضة يد تمسك بلجام اللسان عبر جِلد فكيها و يشرتي ذات اللون الأصفر الباهت , و من ثَم فإنه آتى بزجاجة مياه و أرجع رأسي بيده اليسرى الممسكة بخصلات شعري البني المائل للإحمرار بسبب الجرح الذي أحدث ثغرة في مؤخرة تلك الرأس .
س:منذ متى و أنت فليسوفة يا عشقي ؟
ج:منذ قديم الأزل , و لكن كلماتك الرقيقة التي باتت رتيبة  أخذت في التحلل و فقدان لمعانيها و نضوب روحك هي من أنسيتك جمال الروح و ليس بهاء الكلمات المنمقة .
س:دائماً ما تكونين على صواب و لكن هل تعلمين ...و ما هي خطيتكِ في الدُنيا ؟
ج:لا أعرف لتخبرني أنتَ .
س:أنا خطيئتك و تلك الخطيئة لا تغتفر أبداً .
ج:حتى لو أنتِ خطيئتي , فإنني مازلت إنساناً , أنت إختياري و إن لم يُغفر لي فكفاني أن سبب عِقابي هو من إختياري .
نظر إليّ ,  و دموعه تذرف , فاستحالت الروح البغيضة لروح الرُسل و الأنبياء ...روح الرب الذي وهبنا إيهاها , روح الغفور لا ينتظر من يغفر له ...روح سجده من عبده يدعو في أسفل سافلين ليستجيب من في أعلى عاليين , يدعوه فيحدثه عما تحويه تلك الروح من ندوب عفى عليها الزمن و ما زالت مطبوعة .
هو : تصبحين على خير و حُب و جمال ...طابعاً قُبلة على مكان الجُرح ممسكاً برابطة الرأس التي تحاصر مخي .
أنا : هل تريد أن تعلم من كُنت أُحدث ؟
هو : من يمتلك تلك الروح , لن يخون أبداً

vendredi 17 avril 2015

بين السحاب ..... تحت التراب !!!

بين السحاب .....تحت التراب !!!


مرَّ عامٌ على وفاتي , و كان اخر ما كُتب في وصيتي لهم  , أنه رغم أي ظروف يمرون بها أو أي طارئ يجِد فإن هذا اليوم مقدس لا تراجع في موعده .... إنه الأول من شهر مماتي , شهر يناير , فسيظل القصر مفتوحة أبوابه لن تغلق في وجوه عائلتي الكُبرى حتى يوم الدين .
و ها قد حان موعد تنفيذ وصيتي الأخيرة يا سادة , فاليوم هو الأول من يناير و الساعة السابعة مساءاً , زُيّن قصري بالضياء الصناعي و الالهي , نور القمر المُكتمل حينها سُمح للحضور بالدخول في سهولة و بُسط السجاد و نُظفت الحجرات و مَلئ العطر جنبات القصر ..ذلك العطر الذي امتزتُ بوضعه طيلة حياتي , الذي لم يُفارق جيبي حتي في أحرج الظروف , عُطِّر المكان لكي استحثهم على تذكري ...لعلهم نسوني و لكن بالطبع لم يتناسوني فهم أخوتي و أخواتي ......
كان أيوب , خادمي المدلل ينتظر ليستقبل الجمهور , هذا الخادم الذي لم يفارقني حتى لحظات احتضاري , أمسك بيداي و أنطقني الشهادتين و حينها دموعه تزرف من جفونه و تبلل قبضة يديه الممسكتين بروحي قبل أن يقبضها عزارئيل , حتي كاد أن يشب بينهما نزاعاً شديد , و كان على لسانه حينها جملة واحدة ( لم يحن الوقت بعد يا سيدي ) , ابتسمت له و لم أدرك ما إذا كان يخاطبني أم يُخاطب سيد الكون بأسِره .. تلك كانت اخر مرة رأني فيها أيوب , بوجهه الأسمر الباعث للنور و البشاشة و المحبة و الولاء , و قد أهديته القصر بأكمله فهو الاحوج إليه , فإني لا اذكر له سوى خير الصفات .
ارتدى ملابس الخدم التي بليت من قلة ارتدائها  , و وقف أمام مدخل القصر منتظراً لضيوفي , قابض يداه فوق بعضها البعض , بكل خضوع يومأ برأسه مع كل انسان يدلف من البوابة ..
جاءت سيارة أجرة تَقِل سيدة و شابة في منتصف عمر سيدتها , السيدة تحمل حقيبة على ذراعها المبسوط , لم تتكلف في ملابسها فاكتفت برداء مهندم أسود يتناسب مع سبب الزيارة . أما الفتاة , فكانت باسمة لا يعرف وجهها العبوس , وجهها ملائكي في غاية الجمال , تحمل حافظة سوداء تشابه لون الكُحل الذي توّج عيناها , تقدما سويا بخطوات بطيئة تنم عن عجز السيدة التي يظهر عليها علامات الترميم في عدة مواضع .
ابتهج أيوب حينها , و استأذن من الفتاة أن تتيح له الفرصة لكي يوصل ( إسعاد هانم ) للقصر , فلم تمانع مريم و تركت والدتها كأنها حِمل تسعى للتخلص منه و بالفعل أخذت ( مريم) السلالم جرياً و دخلت إلي القصر لتتأمل بذهول ....
إنها ( إسعاد هانم ) صاحبة الستين عاماً , الأخت الكُبري لأخوتي و أنا أكبُرها بعشر سنوات , متزوجة من دكتور يُدّرس في إحدي الجامعات , أحبته أشد الحب فعشقها أشد العشق , حصلت على شهادة من كلية الاداب قسم الفلسفة , و كان الفارق في العمر شاسع لكن للأسف  كان الخيار لها , و اتذكر حين أخبرتني بخبر وقوع قلبها في فخ شغفها بذلك الدكتور , كادت تبكي من فرحتها و تحزن من انتظارها المرير لإجابتي , صرخ قلبها عندما جاء جوابي بالايجاب ... تشبه ( مريم ) ابنتها المشاغبة , ورثت عن أمها تلك الصفة , فهي تكره كل ما يُقدم في قالب مُعد مسبقا , كُل ما هو مألوف .. و لكن عانت إسعاد الأمرّين طيلة حياتها , فمن اختارته تركها بطفلين وحدها , بالرغم من ذلك لكن ذلك كان في صالحها لم أرى أختي في تلك الحالة من الإصرار و المثابرة ...كانت طاغية مع العالم بأكمله باستثناء أولادها , و فعلا نجحت في مهمتها , ( مريم ) خريجة الفنون الجميلة على وشك الزواج من ضابط شرطة و المسألة كلها في تحديد الوقت المناسب , و ( أحمد ) مهندس أستطاع ان ينبغ في مجاله , و ظفر بمنحة بجامعة كندية , و هو من نجباء العائلة التي تعاني فقر من العقول ...
في ذلك اليوم . اتضح الضعف و الهزال على جسد ( إسعاد ) , اتضح من عيونها و روحها لا في هيئتها , و لكن ما زالتِ في غاية الجمال يا أختاه على الرغم من مرور الزمن , فأمامك يشيخ الزمن و أنتي تدومين في شبابك  , عيونك الزرقاء لا تذبل كورود الخريف ... حلمها في حياتها أن تنعم بحفيد و ذلك الحفيد هو أولى دعواتها قبل دعوتها لله بالمغفرة ....



كُنت حينها انتظره على أحّر من الجمر , أخي الذي طالما أعتززت به على الرغم من جمود مشاعره خاصاَ تجاهي , لكني لا أملك مشاعري فإنه سيظل جزء مني . فبعد أن دخلتَ إسعاد و ابنتها إلى قصري , تركتهما و ظللتُ بجانب خادمي و عيناي تنظرنا لتراقي ثاني ضيف سيشرفني في ذلك اليوم , و كنت في غاية السعادة لأن لقائي به , لن يكون كالمعتاد سيُبسط وجه ( فريد ) الذي لم أرى منه  سوى العبوس ... أعرف أنك تمقتني أشد المُق يا أخي لكني أحتاج منك بسمة واحدة تريحني و أنا بين يديّ ربك .
(فريد) أستاذ و استشاري في جراحة القلب , حاصل على شهادة الماجستير من جامعة (.......) الأمريكية و دكتواراة من جامعة ( ........) اللندنية  , كان صبيا ذكي , سريع التصرف , لا يعتمد سوى على نفسه , يبغض عائلته , عاق بوالديه , و يكرهني أنا شخصياَ كره إبليس لبني آدم , عانى الكثير إبان طفولته التي شُوهِّت  بشقاء العمل ليكفي حاجته و لا يضطر ليطلب من والدي أو مني مليماَ .
من الصعب التوصل لعقليته , جراح يملك مهارة تسببت في أن صيته قد أُذيع على نطاق واسع , فيقصده كِبار رجال الدولة و نخبة الفنانين , معتز بنفسه ليصل هذا الإعتزاز في الكثير من الأحيان لحد الغرور . بالنسبة لحياته الزوجية , فلم تختلف كثيراً عن حياته العملية , فكلاهما متعسر و لم يدرك فيهم أخي سوى البؤس و المثابرة و عدم الاستقرار على الرغم من أنه استطاع أن يستكملهما , ( فريد ) تزوج من سيدة مجتمع , من عائلة ذو مكانة رفيعة , لا تعرف تلك السيدة في حياتها سوى" الاتيكيت" و متابعة آخِر صيحة من " الموضة", لم يتمكنا من الاستمرار في حياتهم المصطنعة التي أفرغها اثنيهما من أي مشاعر , و كأنهم أفرغوا وجدانهم في طفلهم  " تامر" , ذلك الطفل الذي لم ينعم بأي لحظة انتشى خلالها قلبه أو أُثريت فيها روحه بمشاعر الإنسانية ... ( هالة ) طلبت الطلاق و على الفور وافق د\ (فريد) و لكنه اشترط أن يملك هو ابنه و بالفعل و بعد مفاوضات طويلة الآمد , ظفر بابنه و لم تنل ( هالة ) سوي شيئين الندم و صورة تذكرها ب" تامر" ...
جدير بالذكر أيها سادة , لم أكن أدرك كل ما سَبق ذكره سوى من أصغر إخوتي ( إسماعيل ) , هذا الذي سأتترك له فيما يلي .
جاءت سيارة فارهة من نوع المرسيدس , و نزل منها سائق ليفتح لمالكها الباب , تماماً مثل مشاهد أفلام سأمنا متابعتها و عندما نزل فإذا بي أرى رجلاَ في الخمسينات من العمر , يهندم بزة البيضاء اللون _ مرتدياَ إيها ليحتفل بذكرى وفاتي_ و في النهاية أمر السائق بالمغاردة و على أن يعود في غضون ساعة على الأكثر ...كل هذا بإشارة من أصبعه .
صعد الرجل السلالم العريضة المزينة على جانيها بالأنوار الصفراء الخافتة التي لا تؤذي الناظرين لها , كان حليق اللحية و الشارب , وسيماَ ذو شعرا ناعم يصففه ليرجعه للوراء , فيصبح شامخاَ كأنفه التي تحتاج لمن يكسر كبريائها ..
فتح له ( أيوب ) بوابة صالة الضيوف , فوجد ( إسعاد) و ابنتها , فلم تتغير ملامح وجهه إلا عندما لاحظ نضوج جسد تلك الفتاة التي لم يرها من ذي قبل , استرجع غرائز الشباب و سلَم على أخته بجمود و هي تبتلعه في أحضانها , حينها تمنى لو كان هذا العناق من قِبل تلك الفتاة الجميلة التي تشعل في جسده نار الشهوة .
تركهم ( أيوب ) و عاود استضافة الجمهور القادم لتلك الحفلة , و قبل أن يستقبل الضيف الجديد , ذهب إلى ( الجرمافور ) و وضع اسطوانة تحمل السيمفونية التاسعة ل( بيتهوفين ) .
كان الضيف القادم , هو حُب ( أيوب ) الأول و الأخير , فعلى الرغم من أنه رجل أعمال إلا أنه كان كثير التردد علىّ في أيامي الأخيرة , يتذكره الجميع بكل خير فلم يكن يحوي قلبه سوى الخير و المساعدة غير المشروطة ... إنه نجم الحفل الليلة , ( عمرو ) كلمة الأخ الأوسط تلائمه جدا .. حيث أن الوسطية عنده مبدأ لا يحيد عنه مطلقاً  , يمتلك توكيل سيارات ( بى إم دبليو ) , مئات الأفدنة من المزارع التي تحمل من خير محاصيل الأراضي الزراعية بالإضافة إلى مصانع الحديد و الصلب التي أصبحت في مدة وجيزة أشهر من النار على علم , حبه لي قاتل , صادق في مشاعره لا يعرف الخداع , فمتى يحب يكون هائم في حبك و إذا كرهك تمنى لك مغادرة الدُنيا بأسرها و تفنى في الآخرة  فتصير رمادا متناثر و يظل ( عمرو ) شخصاَ واثق الخُطى , متكبر أحيانا , كلمة ( زواج ) ليست في معجمه الملئ بمصطلحات رجال المال و الأعمال .... أحب في ذاك الإنسان , كونه إنسان فقط بكل ما تحمل تلك الكلمة من معانٍ عميقة.
أعتصره صاحب القصر الحالي , و أخذ يطرق برفق على ظهره معلناَ عن إشتياقه و فرحته لمشاهدته و حينها وضع ساعده على كتف ( عمرو ) و اصطحبه لداخل القصر و تمازحا حتى أوصل ( عمرو ) لغرفة وُجِد بداخلها أخوته ...
لم يسمح ( عمرو ) لأخته بالقيام , معللاً هَذا بسبب صحتها المتردية , و لم يصافح ( فريد ) إلا عندما كسر كبريائه و قام من مقعده ليعانقه ... فعل ذلك من أجلي يا سادة , و حين دخل ( عمرو ) بابتسامة السخرية من تصمر أخيه  أهلكني ضحكاَ , في غضون ثوان استعاد ( فريد) هيبته المفتعلة من آثر جمال ( إسعاد الصغيرة ) .......
لمحت نورين يسلكان طريقهما نحو قصري , نورهما كان أكثر ضياءاً من الملائكة , شابهوا كبرى الشموس في كونك يا ربي .... كلما اقتربا أزدادت تلك الهالة في قلبي , و كأني سأرى عرشك مرة أُخرى متمثلا في رسلك الجُدد على الأرض .
صاح ( أيوب ) ....ها قد أكتمل العرض , سنغلق الباب و نكتفي بمن حضر , إنه ( إسماعيل ) ممسكاَ بعقيدته في كفه , تلك العقيدة الراسخة التي بسبب إيمانه بها ستدُخله فسيح الجنات بل سيُشيد هو لها جنة كمكافأة , فإن ( مي ) عند إسماعيل هي رحلة بحث في صحراء الدُنيا الشاسعة الوعرة , آنها بوصلته في سبيل كفاحه , توأمته من رحم واحد ... هو رحم ( التفاني و الذوبان في حبهما ) ...
( إسماعيل ) الكاتب , هكذا اسميته , يمتلك حسه قبل أن يمتلك قلمه , يملك عقلا فذاَ , ولٍهاَ بالكُتب فهي لذته و هي شيطانه , لا و لم و لن يتب من إدمانها أبداّ , حتى وجد رواية ( مي ) , تلك الرواية التي تفرد بها و أقسمت عيناه ألا تغض بصرها عن تأمل كل جزء في هذا الكائن , كانت مطمئنة له دون أن تحظي بأي دليل فقط كلمة ( أحببتكِ) تكفيها , كلمة واحدة أطاحت بقلبها . هو خريج كلية الألسن , امتلك الموهبة و حظى بدائرة قُراء ليست بالكبيرة اتسعت بعد أن استطاع أن يصدر أولى روايته و التي شاركته فيها خطيبته بالمال , حيث أنها كانت خريجة نفس الكلية و هي الآن تعمل معلمة في إحدى المدارس الدولية و عائد الدروس الخصوصية يدر لها  دخلاَ ليس بالقليل . أما هو فيسعى يمينا و يسارا , شمالاَ و جنوباَ لكي يستأسر بها و يكمل أخر فصل في تلك الراوية البديعة ( ميّ ) .
غُلقت الأبواب , و ودعنا القمر على آمل أن يلقنا مجتمعين في القريب العاجل , و استوى الجمع بعد المصافحات و البكاء من قبل ( إسعاد) الأخت البكية الشاقية , كلٌ على مقعده و يرأس المائدة ( أيوب ) الذي طلب من الجميع الانصات له , و أنا أتأمل كلٌ على حدة ... كنت مسروراَ , سعادة آدم بأمل المغفرة .
أنصت الجميع ل(أيوب) , واحد فقط كان شارداَ إنه ( فريد ) عيونه لم تبارح جسد ( مريم ) ....لاحظ ( عمرو ) الغريزة تثب من عيون أخيه فاضطر لغمزه قائلاَ : هوّن عليك يا أخي , فمن المستحيل أنا تنالها .
بصوت منخفض : و لم لا ؟
رد ( عمرو ) بسخرية : ( فقط لأنها ابنة أختك , تكبرها بثلاثين عاماَ فقط لا غير )
رمقه بنظره تجمل ملامح الغيظ و الاحتقان و تحول بنظره ل( أيوب ) ليرى ماذا سيقدمه على العشاء.....

داعب ( عمرو)  خادمي و سأله :ماذا في جعبتك لتقدمه لنا اليوم؟ 
رد عليه (أيوب)  و على وجهه بشاشة لا تغرب عنه أبدا : سآتيكم بكل ما تشتهون يا بني، لا تقلق و لكن دعني أتلو عليكم رسالة ( محي) سيدي، و صاحب الفضل علينا جميعا.
ما إن نطق باسمي، حينها تأملتهم جميعا، اغرورقت عيون ( إسعاد) و مالت برأسها على رأس أخيها ( إسماعيل) الذي شحب وجهه لثوان و لكن سرعان ما استطاع ترويض ملامح وجهه كي لا تصاب روحه بأي جرح جراء الدموع المحبوسة بين اغصان جفونه. أما ( عمرو) فقد تحول لكائن هش تزروه سيرتي عندما تلى ( أيوب) نص الرسالة، و بالطبع تتوقعون ماذا كان رد فعل ( فريد) العبوس لم يغادر ملامحه، فأشغل نفسه بمتابعة حركة عقارب المتثاقلة التي لا تمر و يتمنى لو مرت الساعة بسرعة الضوء.
{ الرسالة في ذكرى الثانية من وفاتي }
أحدثكم اليوم، و انا في خضم حساب الاخرة، واقفا بين يدي ربي، الرحمن الرحيم، الذي قد سهوته عن إرضائه خلال وجودي في تلك الدنيا، و لكن هل تعلمون أنه رغم من أن الله عدل و حساب عسير لكن حكمه على عباده سيكون أقل وطأة من محاكمتكم لي التي على وشك بداية الآن يا أخوتي، لا أريدكم أن تدعوا لي بالرحمة و الكراهية تملأكم ، الحب ليس سلعة تشترى بل هي غريزة لا تكتسب... لن اطيل عليكم أكثر من ذلك، أنا معكم أينما وجدتم و قصر ( أيوب) متاح لكم في أي وقت و لكنه سيظل تحت تصرفه و لن تمسسه يد أحدكم ...و السلام ليس ختام... و أنا منتظركم الواحد تلو الأخر، لا تفزعوا من الموت صدقوني هنا أفضل مثوى لكم، فقط أحسنوا لبعضكم البعض) 
طوى الخادم الورق و ووضعها في جيبه ، و على الفور لاحقه صوت بنبرة ساخرة تعليقا على ما جاء في الرسالة : هل تلك الخطبة لا يعقبها دعاء للإمام ( محي) ، خطاب مبهم و الغموض يحيط به من كل جانب، لم يضف جديدا، ما اكده هو انه مات.
(عمرو): كفاك كراهية و خبث يا ( فريد) ،لقد غادرنا إلى دار الابدية، لم لا تتركه يرقد في سلام و تتوقف عن بث سموم كلماتك.
(إسعاد) : الله يرحمه،  كان يوميا في اخر أيامه، هاتفي لا يتوقف من كثرة مكالماته التي استمع فيها إلى نبضات قلبه التي تبعث بحرارة و فيض مشاعره التي أراد أن يوصلها قبل أن يرحل بلا عودة. 
كانت تتحدث و قطرات الدموع تنهال على الخدين، الدموع الممزوجة ببسمة تذكرها لي و لوجهي التي دائما ما كانت تصفه بالممتلئ، تلك الدموع لم أريدها أن تهطل لأني أرتدت أن تدخرها ليوم لقائي و لو بعد حين.
(عمرو) : اتذكر لك كل خير يا حبيبي، اتذكر أول اخفاقة وجهتها و كنت بجواري، و كنت انت قويا، قوة لم اراها منذ رأيتها فيك، حدثتني و قلت " الضعيف هو من يستسلم أولا، اصبر و ستظفر بما تريد يا أخي و لا تستعجل الخير، و لكي تشعر بمذاق الحلوى يجب أن تذوق مرارة الليمون " ، كل هذا نقش على جدران ذاكرتي،في عقلي الذي لا يعرف عوامل التعرية.
(إسماعيل): و لكن يجب علينا ألا ننسى مساؤه التي فعلها في حياته البائسة،  لكي يكون حكمنا عليه عادلا، فلا نمتدحه و لا نذمه.. ما فعله ( محي) طيلة حياته يصب فقط في مصلحته، يحب متى اراد أن يحب، يكره فلا يكترث لامر من كرهه، فدعونا لا ننسى أنه لم يتحمل المسئولية و هو اكبرنا حين مرض أبي و ترك كل الحمل على ( فريد) .
كلمة ( فريد) بثت في الطبيب الحياة مجددا فقال مهللا : قل لهم يا أخي، انصتوا جيدا سامحكم الله ايها الجلادون .
اردف( اسماعيل) : و لكنه بعد أن رجع من فرنسا لاجازة امتدت اسبوعين، ليرأس سرادق وفاة والدتي التي تمنت له قبل وفاتها كل الخير و ماتت و كلها رضا عن ابنها الاكبر... ترك لنا مبلغا لا بأس به لكي استكمل انا تعليمي الابتدائي و ( عمرو) تعليمه الجامعي.... و وقف بجوار ( إسعاد) بقدر ما ملك ليساعدها على الزواج و بالفعل استطاع ان يسترها بستار الزواج و حينها اطمأن قلبه و تزوج من سيدة فرنسية، حسده الكثير منا عليها و حينها تطلقها و سوى أعماله ليعود لارض الوطن و يستكمل عمله في المحاماة و استطاع من هنا تحقيق ذاته و لكن حين عاد لم اعرف انا شخصيا عن حياته .
(عمرو) : لا يجوز عليه غير الرحمة و قراءة الفاتحة.. أحسنت القول يا إسماعيل
لم يقرأ الفاتحة، و استوى على مقعده بعد هذا الحديث، عندما وجد نفسه منبوذ من الحضور، هل تعرفون أنه أحب أخوتي رغم تغطرسه و ادعائه لكراهيتي دوما إلا أنه في قلبي يمتلك مكانة... فثلاثة فقط يعلمون ما يكنه في صدره.. الله و انا و هو ، لا تقلق سيكون لقائي بك قريب للغاية.
آتي الطعام و وضعه السيد على الطاولة و لم يتفوه بكلمة، فقد اسمعته تنهدات روحي مخبرا ايها اني اريد الانفراد بعائلتي،  فلبى الطلب على الفور، و اغلق باب الغرفة الخشبي.... فاراد ( عمرو) البهيج ان يحول مسار الحوار فداهم ( مريم)  بسؤال :
لم انتي في صمت مقيم يا سيدتي الصغيرة؟
(مريم): لا اجد ما أفضي به، و لكن اريد أن اثني على حديث خالي ( اسماعيل)  ،فكلمه متعقل لا يعرف الاندفاع ينم عن عقلية حيادية حتى في طرح الرأي.
(مي) كما هو متوقع، دهست قدم خطيبها معلنة بذلك استيائها من رقة الكلمات التي استحال بسببها وجهه و انبسط بعد وجوم  إثر حديث المرحوم و رسالته. ضحك الفتى، و حينها لاحظ الجميع حب لا تفرغ مصباته بين الوحين،  مع تلك الابتسامة جاء التساؤل من أخو العشيق للمحبوبة فسألها :
و انتي يا مي، لا نسمع لك صوتا.... فهل نبح صوتك في توبيخ أخي الوسيم ؟
(مي):لقد نبح يا سيد (عمرو)من قلة كلامي و كثرة صراخي الداخلي المقيد بأغلال الذوق و مراعاة الاداب العامة... و لكني أدرك جيدا أنه لي، و لا يصلح لغيري.
(اسماعيل) : هل ترى يا أخي أنني احسنت الاختيار.
(مريم):و نعم الاختيار يا خال،  فلتدعو لي بان يوفقني مع أحمد خطيبي لننعم بحياة بديعة.
(فريد) : تستحقيها و ستناليها يا حلوتي
(إسعاد): أن هذا الحساء هو المفضل لدي،  و لدى (محي) ...كثيرا ما أعده لي و تناولنا هنا في القصر و تحديدا في جناحه الفسيح الذي حملت جدرانه لوحات تشكيلية لم افقه تأويل مغذاها و لكنه كان فخور بحيازتها، كنا نحتسي الشراب و أنغام ( باخ و موتسارت)  ...كان يمتلك ذوقا رفيع في موسيقاه
(عمرو):أولى عروض الباليه، شاهدتها معه... ذهبنا خصيصا إلى محل للملابس الجاهزة و اختار لي بزة في غاية الاناقة لكي احضر بها العرض بجواره و ادخل دار الاوبرا، لم افهم حينها الابتسامة التي لا تبارح وجهه و هو يشاهدهن يرقصن برقصات تعبيرية لا يفهما سوى القليلون.
تنهد الجميع و توقفوا عن الأكل، و كأن الارواح تنسلخ من أجسادهم ليتواصلوا معي و أنا في الأعلى.... نعم يا (عمرو)اتذكر هذا اليوم جيدا و أبتهجت لما ارى حيث تذكرت من اتقنت التمايل و التعبير، تلك الحلقة المفقودة التي سعيت أن اخفيها... لمصلحتكم.
اكتفى الجمع الكريم بما امتلئت به بطونهم، و قاموا من مقاعدهم متجهين إلى بهو القصر أو كما يقال فنائه لشرب الشاي أو ما شابه .
(إسماعيل): لماذا وهب (محي) قصرا كاملا ل(أيوب) ...انه مخلص نعم لكن هناك من هو أولى بالمال؟
(فريد):عندما نعته بأنه مخبول لم يصدقني أحد.
(عمرو): أنه أمر يخصه لا يمكنا أن نخوض فيه بلا وجه حق، و في كل حال لم يكن أخي مخبول أيها الجاحد بأفضاله عليك.
(إسعاد): يكفي لهذا الحد، إنه يوم يتيم في السنة فلا تخيبوا ظن أخكم بكم، الكراهية تقتله بعدما رقد في سلام.
(فريد):إنكم تصطنعون محبته، لم يكن يوما حنونا، عقله سابق لوجدانه... انا لست جاحد بافضاله لكني دلني عليها أولا.....إنها جلسة مجاملات و انا لن اكون عضوا فيها، سارع يا فتاة و ابتعدي عن خطى والدتك مريضة العقل قبل ان تكون معتلة الجسد.
أشار بحديثه ل(مريم) و ارتدى "جاكت" البزة و اتجه نحو السيارة التي طلب من سائقها مغادرة المكان و ان يأتي بعد ساعة.... و ها هي قد مرت ساعة، و آتى السائق و مد(فريد) خطواته متحفزا صارخا في وجه سائقه بأن يترك له مهمة القيادة و انا يلزم الكرسي الخلفي... فلم يمانع و امتنع عن الحديث و لا يدري مادا حل بسيده.
(إسعاد) : فلتقوم يا (عمرو) لتلحق بأخوك... فانت على يقين من أنه لا يستحق منك كل ما قلته.
(إسماعيل):لا تقم يا أخي... أنه بحاجة لصفعة يا أختاه، فلنتركه وحيدا كما كان دائما.
(مي):لا يا إسماعيل لا تكن جافا و لا عقلانيا، فأني لا استبشر خيرا... اننا في وقت متأخر من الليل و قد يصيبه مكروه.
(عمرو):لديه السائق الخاص به.. فلا داع للقلق.
لم كل هذا، أردتكم جميعا، و كلي أملا في أن يحتضنكوا قصري، و لكن هل علمتم أننا ما زلنا بشر... نصيب و نخطئ .
بعد أن تسامروا، رن هاتف (مريم) و قامت على الفور من مقعدها و ابتعدت حتى اختفت بين أشجار الفناء و أغصانها المرتخية، سمعت صوته و لقد أخبرها بأنه في طريقه للقاهرة في إجازة لمدة ثلاثة أيام، انهت المكالمة و ارتمت في حضن أمها و خفضت من صوتها و فمها في بوق اذن الام التي بدت السعادة تشرق على هيئتها قبل أن تدرك النبأ السار.
و بالفعل، حاولت الام التحجج بأي حجة لكي تغادر و تستقبل خطيب ابنتها، فطلبت من (أيوب) أن يستدعي سيارة لتقلهما إلى المنزل و لكن (عمرو) تبنى توصيل الجميع بسيارته في حين امتنع (إسماعيل) و قال أنه بحاجة للتنزه مع (مي) و الاسترخاء بعض الشئ من اسبوع ملئ بالعمل الشاق.
طلب خادمي و خليلي منهم الانصات لما سيتلوه عليهم :
( قبل أن اودعكم لثالث مرة، إليكم ما سيتلوه عليكم صاحب هذا القصر، أنا (محي الدين فاضل كامل) اعلن لكم عن تنازلي عن قصري للمدعو / فريد فاضل كامل أحد أثرياء تلك العائلة النبيلة على أن يحق له التصرف فيه بعد وفاتي بعامين و تحديدا بعد أن يقرأ هذا جميع الورثة الشرعيين و الشرط الاخير في تصرفه في القصر هو امتلاك أيوب الصبور لمنزل الخدم الصغير كحق له لا ينتزع منه.... أما مكتب محاماتي فمن حق إسماعيل و ليتصرفه فيه كيفما شاء....جزيل الشكر ل(عمرو) و (إسعاد) اللذان يكفيهما حبي و إخلاصي لهم ...توقيع محي الدين فاضل) 
ذهل الجميع بما جاء في النص،  و عيونهم تتصوب نحو من ليس هنا.... لم يفسروا لم فعلت ذلك.... أنا أعلم بهم من أنفسهم و وهبت من استحق الهبة.....
هل تذكر عرض البالية يا (عمرو) ...هل تدرك سر ابتهاجي؟  كانت (فريال) أميرتي هي من كانت تبهجني و انا استحضر صورتها خلال العرض الذي واظبت على حضوره و اعتبره كمنسك الحج... اشاهده فاتجمل و اتطهر من أي ذنوب،  لعلك تسأل أين هي الآن أنها بجواري،  او بالاحرى انا من بجوارها ، نشاهدكم و ننتظركم في قصرنا البديعة الذي شيدته و اعددته لنا قبل مجيئي.. قصرها يشابها تماما ستفتن به كما افتتن بها يا أخي.
( مصرع رجل الاعمال السيد/ فريد كامل في حادثة مروعة على الطريق، اتجه المعمل الجنائي و المباحث لتعاين الموقع.... و سناوفيكم باخر التطورات)  هكذا جاء على إحدى الجرائد الالكترونية خبرا انهار بعده تامر و لم تستوعبه ( إسعاد) و ندم اجتاح قلب ( عمرو) و بكاء منهمر من عيون ( إسماعيل) .
لا تقلقوا و لا تحزنوا، فالموت آتي لا محالة،  و لكن هل انتم مستعدون؟  انا مستعد لاستضافتكم في قصري الجديد، حيث سنقيم جميعا لا نعرف خلافا و لا محاكمات بشرية أخرى.
أنا انتظرك يا أخي و إن طال حسابك،  أسامحك كما سامحت من أدنى منك مكانة في قلبي...... 
يا سادة ساعيدها مرة اخرى، إن حساب الأخرة أكثر عدلا. و أكثر رحمة، أما الدنيا فالمحاكمة تعرف قانون واحد الظلم و الافتراء و العجلة في اصدار الاحكام و تطبيقها.
البداية

mercredi 8 avril 2015

بداية و نهاية


ظلتْ واقفةً  تنظُر فى ساعتِها . إنها الثامنة و ليس من المُعتاد أن يتأخر عليها ، عيون تخترقها و هى بإنتظاره و كأنَها قِطعة من الحَلوَى ألقَى بها صبيًا فتكالبت عليها حشرات الأرض . أمسكت بهاتفها ، و استدعته و لكنها لم تجد سوى رد سخيف فى رسالة مُسجلة تُخبِرها أن هذا الرقم غير مُتاح . و كلما مرت دقيقة ، ازدادت توترًا و قلقًا ، فأخذت تُراجع نفسها و تنظر لساعتها لتراها و قد مر على وقوفها نِصف الساعة .

كان الشارع مُزدحم ، فيه ضجيج يعلوه ضجيج نفسها ، قلبًا يخفق كقارع طبول الحرب ، لم تُدرِك ما الحل ,  أتتركه يأتى ليقف وحيدًا ... أَم تنتظره و إن طال إنتظاره ؟
سيبدأ الفيلم الذى طالما انتظرته بفارغ الصبر ، لتشاهده و هى بين يديه ، كانت تحلُم بهذا و تُرتِب كل شئ من أجل يوم ، ظَنتْ أنه لن يُمحَى من ذاكرتِها حتى مماتها . أتخذت قرارها ، فرمان من ذاتها لا يمكن عصيانه ، قرار بالرجوع و عدم المكوث أكثر من هذا . أول عربة أجرة مضت أمامها ، أشارت لسائقها و دلته على عنوان البيت فرجَا السائق الكهول منها الركوب سريعًا  .
طوال الطريق ، فى أذنيها السماعات تَسمَع لموسيقى عُمر خيرت ، تتذكر أول لقاء جمعها بأحمد .. ذاك الشاب صاحب البزة السوداء الداكنة و رباطة العُنق البيضاء ،  هذا الذي طَلب منها ان تُفسح له المَجال ليمُر و يجلس فى مِقعَده الواقع بجانبها . تتذكر تصفيق النهاية مع كل مقطوعة يُنهيها الموسيقار ، و عيناه تَنظُر لها في إعجاب و روحها حينها كانت تحلق فى الفردوس الأعلى و هى تختلس منه تلك النظرات .
مشهد حاضر لا يغيب عنها و لو لحظة ، انتهت الحفلة و قام أحمد و بدون أى تردد ليُعّرِفها نفسه بإبتسام لم تَعرف التكلُف و لا الخِداع  :
_أحب اعرفك بنفسى .. اسمى احمد و انت؟
_أنا ملك .
قالتها و هى مترددة و على وجهها كسوفا حاولت ان تخفيه بالابتسامة  .
_أنتى بقى أول مرة تحضرى لعمر خيرت حفلة بيان عليكى .. مش كده؟
_بسمع له على طول بس دي أول مرة أحضر له حفلة .. أنت عرفت منين ؟
استمرت تلك الابتسامة المطبوعة كنِسر الجمهورية و بدأ التوتر فى الزوال .
فأكمل أحمد و هو يتأمل وجهها ، و كأنها لوحة الموناليزا من أى اتجاه ستراها بديعة  :
_كانت روحك بترفرف مع كل نغمة بيعزفها .. مع كل كمان بيعزف بتروح روحك معاه و ترجع فى ثوانى مع كل إيقاع يعلى و يوطا
_عرفت كل ده فى ساعة ؟ قالتها و هى تتنتظرالمزيد ليقوله  .
فأردف أحمد  :
_من اول ثانية يا ملك ... أصل شوفت نفسى فيكى انهاردة ... شوفت انا كنت عامل ازاى اول يوم جيت هنا .
لم تجد ردا ، و كأنها عادة طفلة فى عمر الثالثة تريد إيصال معنى او شعورًا و لكنها تكتفى ب ( آآآآ ...و ممممم )
أستمر أحمد و لم يتوقف لثانية فى مساعيه و الحاحه فى كشف ملك و معرفتها لربما لن يجدها ثانيًا و بالفعل ظفر بما أراد .... رقم الهاتف  .
_نازلة فين بالضبط يا بنتى؟ .. أرجعها الرجل الطاعن فى السن من حالة نشوة لم تعرفها قبل وجود أحمد ، فأضطرت إلى إغلاق الهاتف لتركز بصرها و تتدراك نفسها من هذا التيه الذى حط عليها .  
_خُش الشارع اللى جاى شمال .
أوصلها الكهول أمام المنزل و أخذ ما يستحق دون فصال أو مجاملات من نوع البقشيش .
وضعت ملك مفتاحها فى الباب ، و دخلت فإذا بصوت تغطيه نبرة السخرية ... إنها هاجر الأخت الصغرى  :
_إيه ده هى المذاكرة عند ندى صحبتك .. بتخلص بسرعة كده؟ و لا روحتى لقتيها عزلت  .
_لا يا خفة ، حصل عندهم ظروف فى البيت و اضطرت تنزل فكلنا نزلنا .
أقتحم صوت حان الحوار ، فإذ بالأم تستكمل التحقيق :
_ظروف ايه ديه ؟
_حد قريبهم مات .. معرفش مين من بعيد كده .
_طب أحضرلك العشا ؟
_مش عاوزة اكل حاجة ... مليش نفس  .

ملك الى غرفتها دخلت و امام المرآة ثابتة ، عيونها فارغة كروحها لا تعرف ماذا حدث اليوم ؟ و لم حدث ؟
أخذت تتساءل و هى على فراشها و الهاتف بجوارها تترقب اسمه يظهر على شاشته .. حينها سيختلف الأمر و بدأت التساؤﻻت و الخيالات و التفاصيل تعرض اما عينها محدثة نفسها ( هو انا زعلته فى حاجة؟ .. ما كنا حلوين و بنتكلم ... يمكن حصله حاجة ..لا بعد الشر .. سافر مثلا ..ﻷ كان قالى ... يكونش جيه بس متأخر بعد ما مشيت ... ﻷ بردو كان حيكلمنى....)

لم تعرف ان عينها قد أوشت بها ، دخلت هاجر و سألتها دون ان تدرك الموضوع من كل نواحيه :
_أسنتيه و مجاش صح ؟
أفاقت ملك من غيبتها و ردت بإستنكار :
_هو مين ده اللى مجاش .. بُصي أنا جاية مصدعة و مش فاضية لاشتغالتك ديه .
لوت الصغرى فمها و زفرت نفسًا و ردت  :
_أنتى حرة .. أنا اصغر منك بس بفهم يا ملك .. و انا اختك ستر و غطا عليكى ، أنا حقوم أتعشى أحسن .
أوقعت ملك هاتفها و وضعته على المكتب و افسحت مكانا لتدعو هاجر فيه للمكوث و تراجعت فى قرارها قائلة  :
_عشا ايه دلوقتى؟ ! ... أحمد مجاش يا فقر.
قالتها و ترقرقت دموعها بين جفونها و خضبت بلون الكحل الاسود الذى استخدمته حتى تبدو امامه فضلى نساء العالم  .
أخبرت بما كان فى قلبها منذ أول لقاء حتى يومها .. و كأنها نهرا لم يجد سدًا يوقفه
                                                 
                                                      ****


_ كل ده و انا معرفش حاجة ... انا مبقتش مسيطرة فى البيت ده خلاص .
حاولت ان تهدأ من حزن اجتاح أختها الكبرى . ابتسمت ملك و ارتمت فى حضن هاجر :
_شوفتى بقى ... أنتي خايبة ازاى؟
أمسكت هاجر برأس أختها المنكسة و رفعتها بصعوبة و قالت لها :
_مين احمد ده اللى يخيليكى تزعلى .. ده لو احمد زويل بجلالة قدره .. ميخلناش نزعل يا ملوكة  .
أنشغلت ملك و هاجر معًا ، و أخذتا بالتحرى و البحث عن هذا الأحمد و كأنه لص سرق ما هو نفيس , نعم انه لص اختلس قلبا و رحل فى وقت ليس من حقه الرحيل فيه .
بعد مرور بضعة أيام ، و بعد ان أتمتا التحريات ... دخلت هاجر مسرعًة نحو باب غرفة ، أوصدته بإحكام و تأكدت ان أمها فى المطبخ و راحت تخبر ملك و تزف اليها هذا النبأ السار  :
_عرفت اجيب قراره .. سى أحمد بتاعك .
_شوفتيه .. إزاى و فين ... عامل ايه هو كويس؟ . كان السؤال يلاحق الاخر دون هوادة .
و كانت هاجر تتنهد و تتلاحق أنفاسها .. حتى قالت :
_عرفت اوصل لواحد صاحبه و شوفته من على ال Facebook بتاع أحمد بتاعك ده .. و اشتغلت له فى الازرق و قابلته و سألته و دلق كل اللى يعرفه عن أحمد أفندى  .
_و قالك ايه ؟  قالتها و كلها خوف من أن يكون قد أصابه مكروه .
_هو كويس ، بس بقاله فترة مش بينزل لصاحبه و لا بيكلم حد و تليفونه مقفول على طول .. ده اللى قدرت أعرفه من عمر صحبه ده ، على آخر الزمن نشتغل زى المحقق كونان علشانك يا ست ملك .
_حبيبتى يا هجوووورة ... خودى المية جنيه ديه بما اننا فى أول الشهر بقى و أنا لسه قابضة . قالتها و هى تستعيد روحها من جديد و هى تتنفس من هواء أملًا بعثته اليها بهذا النبأ السعيد .
صبيحة اليوم الثانى ، كانت هناك ما انهى كل قطعة رممت من قلب ملك المفتور .. رسالة من صاحبة الجلالة أحمد بيه افندى ، قرأت ما حاوته و كلها إنتباه و ملامحها أشبه بموج البحر يعلو تارة عندما يذكرها بكلمة حبيبتي و يهدأ تارة عندما يذكرها بأن الطريق قد وصل لمنتهاه . رسالة غابت فيها العلل و الايضاحات ، هى فى الأساس لم تكن بحاجة اليها .. فكفاها ما حاوته ...
لم تدمع عيونها تلك المرة ... بل هرعت نحو الباب كالمموسة و أرتفع صوتها و كأنها ممثلة على خشبة المسرح قائلة ( لقد انتهى العرض يا سادة !! )
إشارة لم يفقها الأب و لا الأم ، فقط هاجر هى من وصل لها الخبر السئ كما زفت هى النبأ السار مسبقًا .
أستمرت الحياة ، أحمد فى حفلة عمر خيرت التالية و بجانبه فتاة فاقت ملك جمالًا فى عينها التى لم تعرف الجمال يوما ..
ملك تذهب لعملها ، جالسة على مكتب الموظفات تنجز مصالح العامة ، متمنية من الله ان يرزقها بمن تستحق .
مرت أيام عدة ، وجدت هاجر فى قمة أناقتها و فى ابهى صورها ، فسألتها امها :
_على فين العزم ان شاء الله ؟
_رايحة أذاكر عند ندى صحبتى .
غمزت لها ملك و اتجهت بها ناحية الباب قائلة لها :
_ندى بردو؟ مفيش إبتكار خالص .
ضحكت الصغرى و قالت :
_المرة اللى جاية حأذاكر عند حد تاني  .
قبل أن تنزل هاجر ، هرعت الى وسط الصالة و صعدت بقدميها على طاولة و ارتفع صوتها : ( حان اﻵن موعد رفع الستار ... لقد بدأ العرض يا سادة )
نظر الأب و هو يتابع مبارة الاهلى و طلائع الجيش مطفئا سيجارته و قال زافرًا اخر نفس منها ... ( وسعى يا بت الكلب .. عاوز اشوف الماتش )
ضحكت الاختين كما لم يضحكا من قبل ، طبعت ملك قبلة على خد هاجر و انصرفت .
****