ظلتْ واقفةً تنظُر فى ساعتِها . إنها الثامنة و ليس من المُعتاد أن يتأخر عليها
، عيون تخترقها و هى بإنتظاره و كأنَها قِطعة من الحَلوَى ألقَى بها صبيًا فتكالبت
عليها حشرات الأرض . أمسكت بهاتفها ، و استدعته و لكنها لم تجد سوى رد سخيف فى
رسالة مُسجلة تُخبِرها أن هذا الرقم غير مُتاح . و كلما مرت دقيقة ، ازدادت توترًا
و قلقًا ، فأخذت تُراجع نفسها و تنظر لساعتها لتراها و قد مر على وقوفها نِصف
الساعة .
كان
الشارع مُزدحم ، فيه ضجيج يعلوه ضجيج نفسها ، قلبًا يخفق كقارع طبول الحرب ، لم
تُدرِك ما الحل , أتتركه يأتى ليقف وحيدًا
... أَم تنتظره و إن طال إنتظاره ؟
سيبدأ
الفيلم الذى طالما انتظرته بفارغ الصبر ، لتشاهده و هى بين يديه ، كانت تحلُم بهذا
و تُرتِب كل شئ من أجل يوم ، ظَنتْ أنه لن يُمحَى من ذاكرتِها حتى مماتها . أتخذت
قرارها ، فرمان من ذاتها لا يمكن عصيانه ، قرار بالرجوع و عدم المكوث أكثر من هذا
. أول عربة أجرة مضت أمامها ، أشارت لسائقها و دلته على عنوان البيت فرجَا السائق
الكهول منها الركوب سريعًا .
طوال
الطريق ، فى أذنيها السماعات تَسمَع لموسيقى عُمر خيرت ، تتذكر أول لقاء جمعها
بأحمد .. ذاك الشاب صاحب البزة السوداء الداكنة و رباطة العُنق البيضاء ، هذا الذي طَلب منها ان تُفسح له المَجال ليمُر و
يجلس فى مِقعَده الواقع بجانبها . تتذكر تصفيق النهاية مع كل مقطوعة يُنهيها الموسيقار
، و عيناه تَنظُر لها في إعجاب و روحها حينها كانت تحلق فى الفردوس الأعلى و هى تختلس
منه تلك النظرات .
مشهد
حاضر لا يغيب عنها و لو لحظة ، انتهت الحفلة و قام أحمد و بدون أى تردد ليُعّرِفها
نفسه بإبتسام لم تَعرف التكلُف و لا الخِداع :
_أحب
اعرفك بنفسى .. اسمى احمد و انت؟
_أنا
ملك .
قالتها
و هى مترددة و على وجهها كسوفا حاولت ان تخفيه بالابتسامة .
_أنتى
بقى أول مرة تحضرى لعمر خيرت حفلة بيان عليكى .. مش كده؟
_بسمع
له على طول بس دي أول مرة أحضر له حفلة .. أنت عرفت منين ؟
استمرت
تلك الابتسامة المطبوعة كنِسر الجمهورية و بدأ التوتر فى الزوال .
فأكمل
أحمد و هو يتأمل وجهها ، و كأنها لوحة الموناليزا من أى اتجاه ستراها بديعة :
_كانت
روحك بترفرف مع كل نغمة بيعزفها .. مع كل كمان بيعزف بتروح روحك معاه و ترجع فى ثوانى مع كل إيقاع يعلى و يوطا .
_عرفت
كل ده فى ساعة ؟ قالتها و هى تتنتظرالمزيد ليقوله .
فأردف
أحمد :
_من
اول ثانية يا ملك ... أصل شوفت نفسى فيكى انهاردة ... شوفت انا كنت عامل ازاى اول
يوم جيت هنا .
لم
تجد ردا ، و كأنها عادة طفلة فى عمر الثالثة تريد إيصال معنى او شعورًا و لكنها
تكتفى ب ( آآآآ ...و ممممم )
أستمر
أحمد و لم يتوقف لثانية فى مساعيه و الحاحه فى كشف ملك و معرفتها لربما لن يجدها
ثانيًا و بالفعل ظفر بما أراد .... رقم الهاتف .
_نازلة
فين بالضبط يا بنتى؟ .. أرجعها الرجل الطاعن فى السن من حالة نشوة لم تعرفها قبل
وجود أحمد ، فأضطرت إلى إغلاق الهاتف لتركز بصرها و تتدراك نفسها من هذا التيه
الذى حط عليها .
_خُش
الشارع اللى جاى شمال .
أوصلها
الكهول أمام المنزل و أخذ ما يستحق دون فصال أو مجاملات من نوع البقشيش .
وضعت
ملك مفتاحها فى الباب ، و دخلت فإذا بصوت تغطيه نبرة السخرية ... إنها هاجر الأخت
الصغرى :
_إيه
ده هى المذاكرة عند ندى صحبتك .. بتخلص بسرعة كده؟ و لا روحتى لقتيها عزلت .
_لا
يا خفة ، حصل عندهم ظروف فى البيت و اضطرت تنزل فكلنا نزلنا .
أقتحم
صوت حان الحوار ، فإذ بالأم تستكمل التحقيق :
_ظروف
ايه ديه ؟
_حد
قريبهم مات .. معرفش مين من بعيد كده .
_طب
أحضرلك العشا ؟
_مش
عاوزة اكل حاجة ... مليش نفس .
ملك
الى غرفتها دخلت و امام المرآة ثابتة ، عيونها فارغة كروحها لا تعرف ماذا حدث
اليوم ؟ و لم حدث ؟
أخذت
تتساءل و هى على فراشها و الهاتف بجوارها تترقب اسمه يظهر على شاشته .. حينها
سيختلف الأمر و بدأت التساؤﻻت و الخيالات و التفاصيل تعرض اما عينها محدثة نفسها (
هو انا زعلته فى حاجة؟ .. ما كنا حلوين و بنتكلم ... يمكن حصله حاجة ..لا بعد الشر
.. سافر مثلا ..ﻷ كان قالى ... يكونش جيه بس متأخر بعد ما مشيت ... ﻷ بردو كان
حيكلمنى....)
لم
تعرف ان عينها قد أوشت بها ، دخلت هاجر و سألتها دون ان تدرك الموضوع من كل نواحيه :
_أسنتيه
و مجاش صح ؟
أفاقت
ملك من غيبتها و ردت بإستنكار :
_هو
مين ده اللى مجاش .. بُصي أنا جاية مصدعة و مش فاضية لاشتغالتك ديه .
لوت
الصغرى فمها و زفرت نفسًا و ردت :
_أنتى
حرة .. أنا اصغر منك بس بفهم يا ملك .. و انا اختك ستر و غطا عليكى ، أنا حقوم أتعشى
أحسن .
أوقعت
ملك هاتفها و وضعته على المكتب و افسحت مكانا لتدعو هاجر فيه للمكوث و تراجعت فى
قرارها قائلة :
_عشا
ايه دلوقتى؟ ! ... أحمد مجاش يا فقر.
قالتها
و ترقرقت دموعها بين جفونها و خضبت بلون الكحل الاسود الذى استخدمته حتى تبدو امامه فضلى نساء
العالم .
أخبرت
بما كان فى قلبها منذ أول لقاء حتى يومها .. و كأنها نهرا لم يجد سدًا يوقفه
****
_
كل ده و انا معرفش حاجة ... انا مبقتش مسيطرة فى البيت ده خلاص .
حاولت
ان تهدأ من حزن اجتاح أختها الكبرى . ابتسمت ملك و ارتمت فى حضن هاجر :
_شوفتى
بقى ... أنتي خايبة ازاى؟
أمسكت
هاجر برأس أختها المنكسة و رفعتها بصعوبة و قالت لها :
_مين
احمد ده اللى يخيليكى تزعلى .. ده لو احمد زويل بجلالة قدره .. ميخلناش نزعل يا
ملوكة .
أنشغلت
ملك و هاجر معًا ، و أخذتا بالتحرى و البحث عن هذا الأحمد و كأنه لص سرق ما هو
نفيس , نعم انه لص اختلس قلبا و رحل فى وقت ليس من حقه الرحيل فيه .
بعد
مرور بضعة أيام ، و بعد ان أتمتا التحريات ... دخلت هاجر مسرعًة نحو باب غرفة ، أوصدته
بإحكام و تأكدت ان أمها فى المطبخ و راحت تخبر ملك و تزف اليها هذا النبأ السار :
_عرفت
اجيب قراره .. سى أحمد بتاعك .
_شوفتيه
.. إزاى و فين ... عامل ايه هو كويس؟ . كان السؤال يلاحق الاخر دون هوادة .
و
كانت هاجر تتنهد و تتلاحق أنفاسها .. حتى قالت :
_عرفت
اوصل لواحد صاحبه و شوفته من على ال Facebook بتاع أحمد بتاعك ده .. و اشتغلت له
فى الازرق و قابلته و سألته و دلق كل اللى يعرفه عن أحمد أفندى .
_و
قالك ايه ؟ قالتها و كلها خوف من أن يكون
قد أصابه مكروه .
_هو
كويس ، بس بقاله فترة مش بينزل لصاحبه و لا بيكلم حد و تليفونه مقفول على طول ..
ده اللى قدرت أعرفه من عمر صحبه ده ، على آخر الزمن نشتغل زى المحقق كونان علشانك
يا ست ملك .
_حبيبتى
يا هجوووورة ... خودى المية جنيه ديه بما اننا فى أول الشهر بقى و أنا لسه قابضة .
قالتها و هى تستعيد روحها من جديد و هى تتنفس من هواء
أملًا بعثته اليها بهذا النبأ السعيد .
صبيحة
اليوم الثانى ، كانت هناك ما انهى كل قطعة رممت من قلب ملك المفتور .. رسالة من
صاحبة الجلالة أحمد بيه افندى ، قرأت ما حاوته و كلها إنتباه و ملامحها أشبه بموج
البحر يعلو تارة عندما يذكرها بكلمة حبيبتي و يهدأ تارة عندما يذكرها بأن الطريق
قد وصل لمنتهاه . رسالة غابت فيها العلل و الايضاحات ، هى فى الأساس لم تكن بحاجة
اليها .. فكفاها ما حاوته ...
لم
تدمع عيونها تلك المرة ... بل هرعت نحو الباب كالمموسة و أرتفع صوتها و كأنها
ممثلة على خشبة المسرح قائلة ( لقد انتهى العرض يا سادة !! )
إشارة
لم يفقها الأب و لا الأم ، فقط هاجر هى من وصل لها الخبر السئ كما زفت هى النبأ
السار مسبقًا .
أستمرت
الحياة ، أحمد فى حفلة عمر خيرت التالية و بجانبه فتاة فاقت ملك جمالًا فى عينها
التى لم تعرف الجمال يوما ..
ملك
تذهب لعملها ، جالسة على مكتب الموظفات تنجز مصالح العامة ، متمنية من الله ان
يرزقها بمن تستحق .
مرت
أيام عدة ، وجدت هاجر فى قمة أناقتها و فى ابهى صورها ، فسألتها امها :
_على
فين العزم ان شاء الله ؟
_رايحة
أذاكر عند ندى صحبتى .
غمزت
لها ملك و اتجهت بها ناحية الباب قائلة لها :
_ندى
بردو؟ مفيش إبتكار خالص .
ضحكت
الصغرى و قالت :
_المرة
اللى جاية حأذاكر عند حد تاني .
قبل
أن تنزل هاجر ، هرعت الى وسط الصالة و صعدت بقدميها على طاولة و ارتفع صوتها : (
حان اﻵن موعد رفع الستار ... لقد بدأ العرض يا سادة )
نظر
الأب و هو يتابع مبارة الاهلى و طلائع الجيش مطفئا سيجارته و قال زافرًا اخر نفس
منها ... ( وسعى يا بت الكلب .. عاوز اشوف الماتش )
ضحكت
الاختين كما لم يضحكا من قبل ، طبعت ملك قبلة على خد هاجر و انصرفت .
****
****
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire