mercredi 8 avril 2015

بداية و نهاية


ظلتْ واقفةً  تنظُر فى ساعتِها . إنها الثامنة و ليس من المُعتاد أن يتأخر عليها ، عيون تخترقها و هى بإنتظاره و كأنَها قِطعة من الحَلوَى ألقَى بها صبيًا فتكالبت عليها حشرات الأرض . أمسكت بهاتفها ، و استدعته و لكنها لم تجد سوى رد سخيف فى رسالة مُسجلة تُخبِرها أن هذا الرقم غير مُتاح . و كلما مرت دقيقة ، ازدادت توترًا و قلقًا ، فأخذت تُراجع نفسها و تنظر لساعتها لتراها و قد مر على وقوفها نِصف الساعة .

كان الشارع مُزدحم ، فيه ضجيج يعلوه ضجيج نفسها ، قلبًا يخفق كقارع طبول الحرب ، لم تُدرِك ما الحل ,  أتتركه يأتى ليقف وحيدًا ... أَم تنتظره و إن طال إنتظاره ؟
سيبدأ الفيلم الذى طالما انتظرته بفارغ الصبر ، لتشاهده و هى بين يديه ، كانت تحلُم بهذا و تُرتِب كل شئ من أجل يوم ، ظَنتْ أنه لن يُمحَى من ذاكرتِها حتى مماتها . أتخذت قرارها ، فرمان من ذاتها لا يمكن عصيانه ، قرار بالرجوع و عدم المكوث أكثر من هذا . أول عربة أجرة مضت أمامها ، أشارت لسائقها و دلته على عنوان البيت فرجَا السائق الكهول منها الركوب سريعًا  .
طوال الطريق ، فى أذنيها السماعات تَسمَع لموسيقى عُمر خيرت ، تتذكر أول لقاء جمعها بأحمد .. ذاك الشاب صاحب البزة السوداء الداكنة و رباطة العُنق البيضاء ،  هذا الذي طَلب منها ان تُفسح له المَجال ليمُر و يجلس فى مِقعَده الواقع بجانبها . تتذكر تصفيق النهاية مع كل مقطوعة يُنهيها الموسيقار ، و عيناه تَنظُر لها في إعجاب و روحها حينها كانت تحلق فى الفردوس الأعلى و هى تختلس منه تلك النظرات .
مشهد حاضر لا يغيب عنها و لو لحظة ، انتهت الحفلة و قام أحمد و بدون أى تردد ليُعّرِفها نفسه بإبتسام لم تَعرف التكلُف و لا الخِداع  :
_أحب اعرفك بنفسى .. اسمى احمد و انت؟
_أنا ملك .
قالتها و هى مترددة و على وجهها كسوفا حاولت ان تخفيه بالابتسامة  .
_أنتى بقى أول مرة تحضرى لعمر خيرت حفلة بيان عليكى .. مش كده؟
_بسمع له على طول بس دي أول مرة أحضر له حفلة .. أنت عرفت منين ؟
استمرت تلك الابتسامة المطبوعة كنِسر الجمهورية و بدأ التوتر فى الزوال .
فأكمل أحمد و هو يتأمل وجهها ، و كأنها لوحة الموناليزا من أى اتجاه ستراها بديعة  :
_كانت روحك بترفرف مع كل نغمة بيعزفها .. مع كل كمان بيعزف بتروح روحك معاه و ترجع فى ثوانى مع كل إيقاع يعلى و يوطا
_عرفت كل ده فى ساعة ؟ قالتها و هى تتنتظرالمزيد ليقوله  .
فأردف أحمد  :
_من اول ثانية يا ملك ... أصل شوفت نفسى فيكى انهاردة ... شوفت انا كنت عامل ازاى اول يوم جيت هنا .
لم تجد ردا ، و كأنها عادة طفلة فى عمر الثالثة تريد إيصال معنى او شعورًا و لكنها تكتفى ب ( آآآآ ...و ممممم )
أستمر أحمد و لم يتوقف لثانية فى مساعيه و الحاحه فى كشف ملك و معرفتها لربما لن يجدها ثانيًا و بالفعل ظفر بما أراد .... رقم الهاتف  .
_نازلة فين بالضبط يا بنتى؟ .. أرجعها الرجل الطاعن فى السن من حالة نشوة لم تعرفها قبل وجود أحمد ، فأضطرت إلى إغلاق الهاتف لتركز بصرها و تتدراك نفسها من هذا التيه الذى حط عليها .  
_خُش الشارع اللى جاى شمال .
أوصلها الكهول أمام المنزل و أخذ ما يستحق دون فصال أو مجاملات من نوع البقشيش .
وضعت ملك مفتاحها فى الباب ، و دخلت فإذا بصوت تغطيه نبرة السخرية ... إنها هاجر الأخت الصغرى  :
_إيه ده هى المذاكرة عند ندى صحبتك .. بتخلص بسرعة كده؟ و لا روحتى لقتيها عزلت  .
_لا يا خفة ، حصل عندهم ظروف فى البيت و اضطرت تنزل فكلنا نزلنا .
أقتحم صوت حان الحوار ، فإذ بالأم تستكمل التحقيق :
_ظروف ايه ديه ؟
_حد قريبهم مات .. معرفش مين من بعيد كده .
_طب أحضرلك العشا ؟
_مش عاوزة اكل حاجة ... مليش نفس  .

ملك الى غرفتها دخلت و امام المرآة ثابتة ، عيونها فارغة كروحها لا تعرف ماذا حدث اليوم ؟ و لم حدث ؟
أخذت تتساءل و هى على فراشها و الهاتف بجوارها تترقب اسمه يظهر على شاشته .. حينها سيختلف الأمر و بدأت التساؤﻻت و الخيالات و التفاصيل تعرض اما عينها محدثة نفسها ( هو انا زعلته فى حاجة؟ .. ما كنا حلوين و بنتكلم ... يمكن حصله حاجة ..لا بعد الشر .. سافر مثلا ..ﻷ كان قالى ... يكونش جيه بس متأخر بعد ما مشيت ... ﻷ بردو كان حيكلمنى....)

لم تعرف ان عينها قد أوشت بها ، دخلت هاجر و سألتها دون ان تدرك الموضوع من كل نواحيه :
_أسنتيه و مجاش صح ؟
أفاقت ملك من غيبتها و ردت بإستنكار :
_هو مين ده اللى مجاش .. بُصي أنا جاية مصدعة و مش فاضية لاشتغالتك ديه .
لوت الصغرى فمها و زفرت نفسًا و ردت  :
_أنتى حرة .. أنا اصغر منك بس بفهم يا ملك .. و انا اختك ستر و غطا عليكى ، أنا حقوم أتعشى أحسن .
أوقعت ملك هاتفها و وضعته على المكتب و افسحت مكانا لتدعو هاجر فيه للمكوث و تراجعت فى قرارها قائلة  :
_عشا ايه دلوقتى؟ ! ... أحمد مجاش يا فقر.
قالتها و ترقرقت دموعها بين جفونها و خضبت بلون الكحل الاسود الذى استخدمته حتى تبدو امامه فضلى نساء العالم  .
أخبرت بما كان فى قلبها منذ أول لقاء حتى يومها .. و كأنها نهرا لم يجد سدًا يوقفه
                                                 
                                                      ****


_ كل ده و انا معرفش حاجة ... انا مبقتش مسيطرة فى البيت ده خلاص .
حاولت ان تهدأ من حزن اجتاح أختها الكبرى . ابتسمت ملك و ارتمت فى حضن هاجر :
_شوفتى بقى ... أنتي خايبة ازاى؟
أمسكت هاجر برأس أختها المنكسة و رفعتها بصعوبة و قالت لها :
_مين احمد ده اللى يخيليكى تزعلى .. ده لو احمد زويل بجلالة قدره .. ميخلناش نزعل يا ملوكة  .
أنشغلت ملك و هاجر معًا ، و أخذتا بالتحرى و البحث عن هذا الأحمد و كأنه لص سرق ما هو نفيس , نعم انه لص اختلس قلبا و رحل فى وقت ليس من حقه الرحيل فيه .
بعد مرور بضعة أيام ، و بعد ان أتمتا التحريات ... دخلت هاجر مسرعًة نحو باب غرفة ، أوصدته بإحكام و تأكدت ان أمها فى المطبخ و راحت تخبر ملك و تزف اليها هذا النبأ السار  :
_عرفت اجيب قراره .. سى أحمد بتاعك .
_شوفتيه .. إزاى و فين ... عامل ايه هو كويس؟ . كان السؤال يلاحق الاخر دون هوادة .
و كانت هاجر تتنهد و تتلاحق أنفاسها .. حتى قالت :
_عرفت اوصل لواحد صاحبه و شوفته من على ال Facebook بتاع أحمد بتاعك ده .. و اشتغلت له فى الازرق و قابلته و سألته و دلق كل اللى يعرفه عن أحمد أفندى  .
_و قالك ايه ؟  قالتها و كلها خوف من أن يكون قد أصابه مكروه .
_هو كويس ، بس بقاله فترة مش بينزل لصاحبه و لا بيكلم حد و تليفونه مقفول على طول .. ده اللى قدرت أعرفه من عمر صحبه ده ، على آخر الزمن نشتغل زى المحقق كونان علشانك يا ست ملك .
_حبيبتى يا هجوووورة ... خودى المية جنيه ديه بما اننا فى أول الشهر بقى و أنا لسه قابضة . قالتها و هى تستعيد روحها من جديد و هى تتنفس من هواء أملًا بعثته اليها بهذا النبأ السعيد .
صبيحة اليوم الثانى ، كانت هناك ما انهى كل قطعة رممت من قلب ملك المفتور .. رسالة من صاحبة الجلالة أحمد بيه افندى ، قرأت ما حاوته و كلها إنتباه و ملامحها أشبه بموج البحر يعلو تارة عندما يذكرها بكلمة حبيبتي و يهدأ تارة عندما يذكرها بأن الطريق قد وصل لمنتهاه . رسالة غابت فيها العلل و الايضاحات ، هى فى الأساس لم تكن بحاجة اليها .. فكفاها ما حاوته ...
لم تدمع عيونها تلك المرة ... بل هرعت نحو الباب كالمموسة و أرتفع صوتها و كأنها ممثلة على خشبة المسرح قائلة ( لقد انتهى العرض يا سادة !! )
إشارة لم يفقها الأب و لا الأم ، فقط هاجر هى من وصل لها الخبر السئ كما زفت هى النبأ السار مسبقًا .
أستمرت الحياة ، أحمد فى حفلة عمر خيرت التالية و بجانبه فتاة فاقت ملك جمالًا فى عينها التى لم تعرف الجمال يوما ..
ملك تذهب لعملها ، جالسة على مكتب الموظفات تنجز مصالح العامة ، متمنية من الله ان يرزقها بمن تستحق .
مرت أيام عدة ، وجدت هاجر فى قمة أناقتها و فى ابهى صورها ، فسألتها امها :
_على فين العزم ان شاء الله ؟
_رايحة أذاكر عند ندى صحبتى .
غمزت لها ملك و اتجهت بها ناحية الباب قائلة لها :
_ندى بردو؟ مفيش إبتكار خالص .
ضحكت الصغرى و قالت :
_المرة اللى جاية حأذاكر عند حد تاني  .
قبل أن تنزل هاجر ، هرعت الى وسط الصالة و صعدت بقدميها على طاولة و ارتفع صوتها : ( حان اﻵن موعد رفع الستار ... لقد بدأ العرض يا سادة )
نظر الأب و هو يتابع مبارة الاهلى و طلائع الجيش مطفئا سيجارته و قال زافرًا اخر نفس منها ... ( وسعى يا بت الكلب .. عاوز اشوف الماتش )
ضحكت الاختين كما لم يضحكا من قبل ، طبعت ملك قبلة على خد هاجر و انصرفت .
****

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire