jeudi 31 décembre 2015

حلم ..

حلم منتصف اليوم

حلم و يا له من حلم ، ما أطعم المذاق الذي ينزلق في حلق من يتضور جوعاً . سأحكي مباشرة و بدون مقدمات حتى لا تتطاير التفاصيل .. ما أحلاها تفاصيل !
في مكانٍ ما ، لا أدركه له ماهية . كنت في شارع اعتقد اني مررت به في الحقيقة مرات و مرات و لكن لم يبدو كما بدى يومها الاشجار تظلل رؤوسنا و تحمينا من شمس او قمر .. حقاً لا اتذكر .
فإذا بي أراها تسير من بعيد ، لقد مر الكثير و لم اراها .. هل تتخيل حجم الشوق في قلب عبد مثلي ؟ . عبد ينتظر من مولاته ان تنتبه له في وسط هذا الزحام المفرط من المارة تحت اغصان الشجر المتدلية .
ترتدي ثواب رياضي ، قالت لي قبل ذلك أنها تلبسه في البيت لأنه يريحها . و شعرها الناعم المنسدل ليغطي ظهرها المستقيم و اطالتها الفريدة التي لا تنم إلا أني على حافة جبل من السعادة أو على مشارف بئر شغف ستملؤه بكلماتها بعد قليل . لم تبتسم لي على غير العادة ، و لكن ما عساها تبتسم لي و هي غير مرحبة بوجودي .. تسآلت في نفسي " ماذا جاء بها لهنا و هي الآن أشد الناس كرهاً لي " . صمت و اتجهت نحو لقائها ، و لكن لا اذكر لنا كلام تحية لقاء و سلام وداع .
قالت لي أنها آتت و ليس بيدها شئ تقدمه .
_ لم اطلب منك شيئاً سوى مكوثك هنا .. تواجدك فقط يكفيني . كيف يسير الحال معك ؟
_ لست في افضل احوالي .. و لكن قد مررت بهذا الشارع و قررت لم لا اراك و اجعل تتحسر على ما ضيّعت من يدك .
_أني اتحسر في كل ثانية .. لكنك تبدين جميلة اليوم .
_ هذا ليس شأنك .
كانت في كبرياء النبلاء ، و انا في انبهار الاطفال  . في عزم قلت لها هيا بنا من هذا المكان ، فلم تمانع هي و انطلقنا و افسح لنا الناس كلها المجال لكي نسير . في النهاية وصلنا إلي حيث لا أدري ، على ضفة نيل و أمامنا زوارق في الماء الراكد . طوال هذا و هي تمتنع عن الكلام يا سيدي .. هل يوجد جحيم اشد من هذا ؟ تملك الجنة و لا يمكن ان تتطأها قدميك .
أخذت في التغزل فيها ، و هي لا تبالي و تفتعل عدم الاهتمام و عدم الاستماع .. فسألتها إذا اخبريني ماذا جاء بك إلي هنا ؟
قالت لي : فلان حدثني و اخبرني ان هذه حادثة عابرة لا يجب ان تأخذي على محمل الجد .. و إن أصابك منه ضيق او سأم حاولي مرة أخيرة .
نطقت اسم شاب ، لا اتذكره الآن ، لكن صدقوني لقد احببته جداً لأنه نجح فيما فشلت فيه . الجميع يتأملنا من بعيد و نحن نتحدث سوياً بهدوء ، و ملائكة الكون تحاصرنا برحمتها لتتعبد لسيدتها . عيونها ... و آه من عيناك ايتها الفتاة ، تلك العينين اللتين تطرح قلبي قتيلاً . بدأت تتبسم مرة فالأخرى . حتى اني سألتها : هل ما زلت تكرهيني ؟
_ لا .. ثم سكتت .
حينها كانت تقول في سرها ( اكرهك كيف ايها الغبي و انا القادمة إليك ) ..

 اخرجت الكاميرا من حقيبتها و التقطنا افضل صورة على ضفاف النيل بعد ان طلبت مني ان نجعل هذه اللحظة ذكرى حتى ما إذا بعدنا عدنا سريعاً .... و صحوت ( اسوء افاقة في الدنيا ) .. لم اكذب حين عشقت الاحلام يا حمزة 

mercredi 23 décembre 2015

رسالة إلى مجهول

رسالة إلى مجهول

الرسالة الأولى

إلى من يقع بين يديه رسالاتي تلك , إلى من يهمه أمري و من لا يعنيه , إلى  من يحبني بشدة و من يمقتي , إلى القريب متأملاً خيري و إلى النائي بنفسه تجنباً لشري  ... تحياتي و عناقي لك أما بعد ...
هذه الرسالة هي الأولى التي ستصلك عبر البريد الإلهي و على يد ساعي يحمل معه كل لحظة يمر بها وجدان المُرسِل . لقد عٌدت من حيث جئت , عدت دون مكسب و لا خسارة ... لكني اتساءل دوماً لِم جئت من الأساس ؟ بحثت طويلاً عن إجابة مرضية فلم أجد سوى الحيرة .
دعني أخبرك ما حدث اليوم , ليلة الواحد و الشعرون من شهر ديسمبر و قبل توديعي لعام شارف على أن يصبح ذكرى . تحدثت معها كعادة كل ليلة , و لكن لم أجد صدى لما أسعى وراءه ... لا اتذكر ما هذا الشيء , و لكن على أي حال لم أجده .
جاءتني و قد غلبني النعاس و كاد يودي بي في ظلومات النوم العميقة , و حقاً أشتاقت عيوني لنومٍ عميق , حاولت جاهداً  أن أتمسح بأي عذر لكي أتركها فعندما تفطنت لما أريد إيصاله قالت " اخلد إلى النوم " .. و داعبتني بلفظها لجملة أثارت حفيظتي . لم أعلق و ذابت جفوني في خليط الواقع و الخيال . لقد شفع لها النوم عندي , فالنوم عندي هو النسيان . هذا الحلم لم تكنن هي البطلة فيه كالعادة . صحوت و لم أجد في يومي الكثير لأفعله , رغم أن ورائي جبل من الأشياء و لكن على أي حال .. فأنها روادت خيالي منذ صبيحة اليوم . هارباً من هذا , انكببت على مكتبي محاولاً استذكار أي شيء فأحرز شيء يجعلني أفخر بنفسي أكثر من كلمات رائقة أقولها . كانت حينها هي كالعصفور و أنا الغصن .. تحلق في سماء و تطير بين سحاب و تطعم نفسها و لكن مع كل هذا التحليق سترسو أخيراً على غصن يحمل لها الدفئ . قررت حينها الانفصال عن هذا كله , و قررت الخروج من البيت و قد فعلت . كأني على علم بأنني على حافة أيام يستحوذ عليها حزن و شجن .
فجأة , لم أعد أرغب في التجول و رئتي لا تريد استنشاق هواء ليل الشتاء المنعش و أما المطار فأغرقت العالم و تجنبني .
كل هذا و ملكتي لم تصدر الأمر لي لنتحدث , لكن لها عذرها فلقد كانت مشغولة و قد قصت لي ماذا فعلت .. فأنني لا اتذكر , و ما حاجتي للتذكر .
غالباً عندما يغادرنا شخص أو نغادره , تضمحل معه الذكريات و التفاصيل حتى تنزوي تماماً .
سألتها كيف صار الحال , فكانت تجيب و كلها حماس منتظرة سماع ما يحلو لها دوماً ... فما أبدع عباراتي عندما أتغزل فيها !
حبنها قد فقدت وعي و قبله قلبي .. و استحلت لشخص قاسي لا يأبه لشيء سوى نفسه و فقط . كل تفكيري حينها انصب أن مزاحها معي أمس قد تعدى حدود رسمتها لنفسي . فردت مستنكرة أنها لم تقصد بالجملة إهانتي و أن الموضوع في غاية التفاهة و لا يستحق مني كل هذا الاهتمام . و لكن هل تعلم ما شد انتباهي حينها ؟... سأخبرك ..
إنها لم تكترث بي من الأساس , و كأنها تسعى لنيل شيء إن حازته رحلت .
لعلها أدركت من الحياة ما لم يدركه شخص ساذج مثلي , لا أدعي أني قديس لا يخطئ .. على أي حال , قالت لي مسترسلة في كلماتها , أن جميع الاٌربين يتلقون مثل هذه الجمل و أكثر , بصدر رحب و سألتني لا أفهمك .
كنت أكتب الكثير على الهاتف ثم أمحيه , لكي لا أدخل نفسي في متاهة النقاش معها , لا أمل لي في الخروج منها ..
هل تعلم ماذا قالت لي في النهاية ؟ أنها لن تتغير و كأنها مسألة مبدأ غير قابل للتنازل . أخبرتها أنها ليست بحاجة للتنازل و لا أنا أيضاً و لذلك دعينا نجعل الأمور بسيطة كما هي دوماً . يقتصر الكلام على التحية أو ما شابه ما دمنا على أول طريق و لا نعرف وجهتنا . لم تعلق سوى بعبارات مختصرة , أخبرتني أن الأمور على ما يرام هكذا و شكرتني مقدرة تعبي معها في الوقت القصير المنتهي . ردي جاء " شكراً لكِ أنتي " . دعني أذكر لك جملة استعارت انتباهي , قالت لي " لا أصدقك حقاً " .
و انتهينا من حيث بدأنا ... هذه الرسالة تقرأ مرة وواحدة منعاً للتحسر على أي شيء مضى , لأن القادم أشد وطأة و جمالاً .
و السلام ختام ....







الرسالة الثانية
لم أتأخر عليك كثيراً ... أليس كذلك ؟ نعم فقط الآن أريد أن تحل هذه الرسالة محل سابقتها . سأروي لك مقاطع ستجعلك تقرأ و تبتسم بشدة . هل تتذكر هذا الشخص الذي حدثتك عن فراقه في الرسالة الأولى ؟
إن الحكاية بدأت معه بلقائه صدفة , و لكن حتى لا يقرأ ما يُكتب سأحاول ألا أسرد تفاصيل عديدة .
الحدث الأول الذي اتذكر لهذا الشخص .. كنت في خضم عملي اجادل أحد زملائي في العمل و كانت فتاة غير فاتنة .. أجادلها و أنا في منتهى الغضب .. فالتفت ورائي , فإذ بها تأتيني باعتبارها زميلتي في العمل , و تقول لي لِم أنت غاضب ؟ و من تكون هذه الفتاة ؟ .. صمت لوهلة و لم أجبها , و سعيت لانهاء الحوار مع الفتاة الباهتة الأخرى . أما من كانت فتاتي فما كان منها سوى الابتسام و الضحك المستمر على موقفي و أنا أحاول أن أعير انتباهي لكلتيهما ...
الحدث الثاني , كنت في أحد المطاعم الفاخرة , كنوع من المكافأة من مديري للعاملين بالشركة . لم أكن بمفردي فلقد جاورتني في مائدة طويلة , و لكن لا اتذكر منها سوى وجهها الدموي المفعم بالنضارة و ابتسامة لا نظير لها في الكون .. كل هذا لم ألحظه سوى الآن و أنا أخاطبك . مُددنا بالطعام , صحناً وراء الأخر ... حتى آتى صحن لا أعرف للطعام عليه هوية .. انتظرت حتى سألتها ما هذا فأجابتني هذا كذا .. يجب أن تتذوقه و ذقته و لكن المذاق كان بشعاً و أخذت ألومها طول العشاء , و كدت أقدم استقالاتي لمديري حينها .
الحدث الثالث , كنت بمحض الصدفة في يوم عمل و آتت هي لمكتبي , بذريعة أنها تريدني أن انهي لها ورق معين .. أخذت منها الورق و قالت لي هل يمكننا أن نتكلم قليلاً .. سألتها متى قالت بعد العمل إن أردت فلقد حجزت مقعدين .. و لم تحدد مكان المقعدين , فلم أمانع .  و لكن هل تعلم ما هما المقعدين ؟ .. مقعدين طائرة متجهة لهاواي . هل تدرك صدمتي و نحن متجهان للمطار دون حتى أن أحزم أمتعتي . حينها لم أفكر و ابتسمت لها و عدت صبياً  . حجزت لنا في أحلى فندق يطل على الماء المالح المتسع .
 اتذكر تلك الليلة التي بدى فيها الطقس صعب الظروف , كانت بجواري و سألتها ( هل تعلمين لِم هذه النجمة في بساط السماء تتلألأ أكثر من غيرها ؟ ) . حلقت بنظرها إلى أعلى و قالت بفم متوجه لرب السماء المتعالي ( هذا قمر صناعي .. ) . قلت لها ( من الجائز و لكن ما أعلمه أن النجوم ذات عمر محدد و أن هذا الضياء الساطع ما هو إلا انفجار فيحدث وميض ) . أكملت قائلة ببراءة الأطفال ( يموت النجم .. هذا ما اتيقن منه ) .
الحدث الرابع .. و قبل تجمعنا في هاواي .. صعدت هي و التقينا في حوار صحفي معي أنا باعتباري المدير التنفيذي للشركة و معها باعتبارها المسؤولة عن العلاقات العامة .. كانت تتحدث أكثر مني , و لكني صمتُ منتظراً دوري . لكن قبل الحوار , استقبلتني في مكتبها بكل سرور و حوافة و نظرتها حينها أشعت شغفاً و كلماتها المغموسة في مياه الشوق المقدسة جعلتها تبدو أكثر من العادة بديعة , و جعلتني أتذكر كل كلمة تحدثنا فيها قبل اللقاء و ليس بعده .
كفاني لهذا الحد , لأنها لو عرفت هذا لقتلتني لظنها أني منافق . العام الجديد يطرق الأبواب .. هل تظن أن سأظل أكتب لك في العام القادم ذكريات أم أني سأخلق ذكريات جديدة ؟ و السلام ختام ... جاءت قاسية J

الرسالة الثالثة
كيف تجري الأمور يا صديقي ؟ أليس كل شيء على ما يُرام ؟ ... هل أصبحت تكره تلك العبارة مثلي . هل تتذكر تلك الفتاة التي حدثتك عن ذكريات لن تنسى معها . يا لها من مفارقة .. ذكرياتها لا تُنسى أما هي فلقد نسيتها . أتذكر فقط قصص حكيتها لها و تبسمت , أتذكر القصة و ليست الابتسامة . اتذكر سردها لحكاياتها و لكن لا اتذكر صوتها . صورة باتت باهتة , و لكن هل تعلم أن صورتها و هي طفلة راقتني كثيراً لعلها لا تعلم هذا , و لكني ابتسمت حين رأيت حسنها الطاغي في صورة معلقة في بيتها العتيق الذي تزوره روحي كل غفلة . لم أعد أريد منها سوى بعض الذكريات لتعلق في روحي فتنتعش و تغرد بعيداً . يا صديقي , كم من أحباء فضلت غيابهم . أحب خيالي الممتد أو الواسع أو العميق أو أي ما كان .. لكن أعشقهم و هم بمنأى عن قلبي . أعشق من لا وجود لهم .. هل تعرف لهذا سبباً ؟ هل أدلك .. سأدلك .. إليك هذا يا عزيزي ..
هل تعلم لِم نعشق الأموات ؟ لأننا لن نراهم سوى كما نريد .. سنعشقهم و يعشقونا كما ينبغي للحب أن يكون .. في عقلك فقط . ستحلم بمن فارقك , و ستتلذذ بعناقه حينها .. هو شعور لا ارادي ينتاب كل بشر . فالحلم جزء من الفردوس يحلم معه الأحباء .
ما أحلى خيالي و هو يسبح في تفاصيل أحبائي .. و يا لهم من حمقى لا يدركون مدى جمالهم و هم على مسرح تصوراتي و الحاضرون يحسدونهم على مكانتهم .
حتى أنتَ .. نعم أنتَ .. أحبك لأنك لست موجود من الأساس .
لا اراسلك بل فقط أرسل إليك .. لا يوجد ما أود سماعه من أحد , اكتفي بما في جعبتي .. هل ادركت تلك اللحظة التي تريد أن تفضي و لكن في الوقت ذاته لن تجد من يتفهم , من يمتعك بعيون منصتة لعيونك , و فمك مضموم يوشك على الابتسامة لما تثرثر . يا لهم من مغفلين يا صديقي يقولون أني صعب المنال و غامض , و لم يكلفوا أنفسهم بأن يصلوا لما أفكر فيه .. وجهتي دوماً غير وجهتهم , رأيهم لا يعجبني , تصرفاتهم معي لا تليق بي , حتى نكاتهم تدمي القلب المنتعش حزناً .. نكات تدميني .. نعم .. لأنهم يحاولون الوصول لإضحاكِ . هل تعلم متى أضحك .. حين أرى أمامي من يصدر كلمات حية .. فيها الروح .. ابتسم حتى إذا كانت تلك الكلمات تعبر عن جرح غائر ..
تصبح على خير .. فأنت فقط من ستتقبل أن أغادر لأني لا أجد ما أقوله ..

الرسالة الرابعة
أمس ، يوم يسبق يوم لا اتذكره . رجعت من امتحان لا اتذكر ما إن كان عسير أم يسير . لا اتذكر ما هي المادة التي امتحنها في الاساس . رجعت في وقت ما قبل أذان العصر .. لا بعد أذان العصر .. بل دلفت لبوابة المدينة بالتزامن مع صوت المؤذن .. لكن هل كان عصراً أم ظهراً أم مغرب .. ما أدارني .
هكذا هو أنا ، لا اتذكر شئ و لا اسعى حتى لافتعال ضيقي إزاء ذلك . صرت وسط الناس و زملائي كالاشباح المستأنسة بحوائط عتيقة . يسألني أحدهم كيف حالك و كيف كان الامتحان ، فيرتبك عقلي و يتوقف عن العمل .. لأعود من غيبوبتي و أجيب بلفظ ينقذني عند السعال ( الحمد لله ) . بالطبع ، لا يقتنع أحد بالاجابة لأنهم يريدون مني سماع اجابة شافية لست بمالكها مع كل آسف . يسألونني لم تأتي في موعد الامتحان تماماً ، لا تتأخر و لا تجئ باكراً .. فقلت ( عادي ) . إجابة ليس لها هوية ، و لكنها تظل منطقية .. ( عادي ) أي طبيعي لشخص لا يحتاج لأحد منكم أن يأتي ليقابل أحدكم . الغريب هذا السعي و اللهث لحوذ أي شئ مني ، لا يقابله مني سوى الابتعاد .. سأذهب لطبيب نفسي ، لأفضي له .. هل جننت ؟ .. لا بل هذا الطريق السليم لاستعيد صوابي .
رجعت و قرر الله أن يهزني و فعلاً .. آتى أحد ساكني الغرف المجاورة و تحدثنا دون حرج في كل ما دار في خلدنا و انا كنت في منتهى السعادة .. روحي بدأت تتلقي اشارة البعث من جديد ، و صرت اليوم ارتاب حين اعلم اني في طريقي لمنزلي ، اصبح أفضل جزء في  عودتي هي الرحلة و وضعي لسماعات أذني و الجلوس وحيداً شريداً .. يااااه له من شعور . لكن دعني اخبرك بشئ .. أنا أريد و لا أرضى أن يُأخذ مني و لو حتى اهتمام .. عطف .. حب .... يا لي من شخص مشوه، جميل بديع ،عبقري، مغرور في تواضعه، صاحب فتتات من الافكار المشتتة ، متشاغل العقل عديم العاطفة، وله عاشق ، بغضه للناس بغيض ، ثرثار الروح صامت الجسد ، وقور لحد الهزل ، عابد في معاصيه و تبوته ، قلبه رخو تحاصره القسوة .. نعم هذا أنا .
تريد المزيد .. دع الناس تخبرك هل تعرف ما سيقولون .. سيقولون عاقل ، متعجرف ، خفيف الظل ، ماهر فيما يفعله أياً ما كان ، صموت ، يختلف من اجل الاعتراض ، متسلط ، لا يعنيه سوى نفسه ، يحب بشدة و لا يقبل بأدنى من مثالية أي قيمة ، مرتجل ، في حاله ، يبرز ما يريد ابرازه فقط .. نعم هذا أنا و لكن أنا في عيونهم .
مضى الكثير و لم اكتب لك .. لكني عائد بقوة و سأتفرغ لأخاطبك و أخطب فيك .


الرسالة الخامسة
لا أعرف معك مقدمات سخيفة ، لا اعتادها  في خطاباتي التي أرسلها لك و أعذرني على ما ستقرأه من تخبط في هذه الرسالة بالتحديد ... فقد مضى الكثير و قطعت شوطاً من حياتي ، أيام تمضي دون أن أحرز حسنة واحدة مشهودة و لا سيئة بيّنة للعامة . بعد ما رجعت للقاهرة التي لم تعد تقهرني بل أصبحت إلى حدٍ ليس بقليل تحتويني و أوشك أن أقول أن حديثي عنها سابقاً قد كان محض إفتراء و سوء ظن .. فأصبح الليل فيها أهدأ من ليل البحر و صار النيل أشد مرارة من موج البحر الشاهق . و كالعادة ، عدت لأفراد يحملون هم الدنيا و الآخرة .. حقيقة لم أعد أتحمل معاتبة أيهم لي و لا عناق أي منهم لي ... لست بحاجة لافتعال ، يقولون أنهم صادقون و أرى في عيونهم كذباً بيّناً.. أنني أرغب حقاً في قتل أحدهم لعل هذا الفعل سيشفي ما علق بشرايني من غل و غيظ و يفرج عن كتمان عاطفي يوشك على الانفجار ... تاهت الفتاة الجميلة و أصبحت بعيدة ، أصبحت أبكي لأني لا أبكي عليها ، هل فاتت فرصتي في تمسكي بمن استمسك بي لآخر رمق في روحه العزيزة ... لم تعد مبهرة ، مثل من سبقتها تنزوي كنسمة صيف حار ، كآخر نقطة ماء في اخدود يشق أرض بور ...  كالصبي المتجول في فناء المدرسة ، عدت استأنس بظلي .. بخيالي .. بكتبي .. بكتاباتي التي لم أعد أريد لأحد أن يتصفحها . غيوم الحزن و اشتباك أغصان ورق شجرة معضلات وهمية ، تظلل حياتي .. أسعد فقط بصوت أمي ، لم أكن أتصور حرصي على تواجدها في قصصي ، عيونها تكون الأولى .. فهي أبداً لم تنشغل عني و لن ... سيجمعنا فراق و نحن نتسامر في صمت ليل أسمع حشرجة عيون مبتلة لا تجف .. تريد أن تستوثق من مستقبلي فإذا ما سبقتني إلى روض السماء السابعة ضمنت لي مكان بجوارها ... و أب شاخ و دبلت أوراق زهرته الجامدة حتى تجلت بذور العاطفة الدفينة ... و أخ يخاف ، و يسعى لمن يجاوره حتى لو كان ظله ، يريد أن يحوز قاتل مأجور يقضي على رعبه من مستقبل محتوم و مصير لا فرار منه و لا خلاص . و كيان إنساني ، تتناحر بداخل مشاعر و قرارات ساذجة وجدانيا،ً عاقلة منطقية .. يعشق موسيقاه النائمة يسبح في أي فراغ ممتد ، يغوص في لحظات في بحر فكرة خطرت على باله .. حتى تلك اللحظة لا يحظى بها كاملة لأنه يوجد دوماً شخص يريدك ألا تطفو من جديد بعد وصولك للقاع ... أسهل ما في الأمر أن تكون واحد منهم و الأسهل أن تكون أولهم .. لكن من الصعب أن تكون متكفي بكونك منفرداً ... الجنة بدون ناس لا تُداس ، نعم لا تُداس و لكن هؤلاء الناس من هم ؟ أنهم أهل جنة ، أهل صفاء و ليس تشوش .. أهل صدق لا إدعاء .. أهل كرم لا تكرُم .. صديقي لا أعرف كيف أنهي خطابي هذا ، و وددت لو لا انتهي أبداً .. تصبح على خير ..


vendredi 18 décembre 2015

جزر و مد

أحيتني ثم رحلت
ليس من السهل تقبل حياة لا تجلب لشخص يتضور جوعاً مثل ( حمزة ) صحون طعام فارغة . هذا العام استلذ بتقديم كافة احتمالات الكآبة له و لم تعطيه الفرصة حتى ليتذكر آلامه ، ينتهي من فاجعة لتأتيه التالية بدون رحمة . ( حمزة ) هذا ما كانت هي تدعوني به ، أحببت هذا الاسم لارتباطه في عقلي بوجودها ،    لهذا فمنذ غياب أمي أو تغيبها عني متعمدة و أنا دون هوية , كطائر يبحث عن عش قديم ...
في المعتاد تخبرني أين ستذهب و لكن تلك المرة لم تبلغني ، و كأنها خانتني مع الموت . ما أقبح الموت .. أقبح ما خلق الله .. لا اريد الفراق .. فقط التلاقي هذا ما أسعى إليه ، ما يجعلني اتراجع عن فكرة الانتحار هو اعتقادي ان النار ستحول بيني و بين ملكتي .
لم اعرف في الدنيا سواها ، عملي صباحاً و ليلاً كان السعي لارضائها ، نعيم الدنيا كانت و سخطها       جحيمي .
 كان الأمر يمكن تداركه حين لحق أبي بالرفيق الأعلى و لم يصيبني ضيق ، فكفاني عنافها لي و ربتها
على كتفي ، و أن مرت سنتين من هذا الحدث حتى لقيت نفسي شريداً . لم أفقه معنى الوحدة سوى الآن ، كل شيء يتغير ، لحظة فقط قد تلحق بكيانك أذى لا وصف له ، نظرة  واحدة قد تعطي أمل و قد
تسلبه .                                    
أجازة احتجتها من العمل ، من الدنيا بأكملها . أخذت السيارة متجهاً لمكان ناءٍ . " شاليه " على الساحل    الشمالي ، يطل على البحر ، إنه شهر يناير و تحديدا آخر أيامه . انتظرت هذا التوقيت لأخلو بنفسي و     أُخلي ما علق في روحي من شوائب الحياة المهنكة . الطريق أخذ وقت لا طويل و لا متوسط و لا قصير  لكن قد تبقى عدد من الأيام و انتهي من هذا الشقاء و السأم و الحق بكِ يا أماااه !
وصلت أمام المنزل ، الذي لم أره منذ دهر ، الهواء يلفني ليحيط بروحي المستدفئة بذكريات دفينة في     قريحتي . أدرت المفتاح  و دلفت إلى البيت . البيت ابتهج بقدومي ، لقد هجرته و اكتفيت بتحسر على أيام   إقامتي فيه مع والدي .
 الحصير كما هو ، التراب كهل ، و الحوائط مليئة بالشقوق المتعرجة التي تمر   من أرضية المنزل و
 حتى سقف المنزل المتآكل من ملوحة الريح . رغم الحالة المزرية إلا أني للحظة   شعرت أني اريد ان
 اقبل كل خطوة وطأتها قدمي  لاستعيد ما لا يمكن استعادته .. النشوة و الصوت الصارخ  لصبي يجري
 نحو امه و ابيه .. شبل يحتمي بحضن امه وسط فزعه من الرعد و انبهاره بالبرق .
عيوني البراقة خفتت و استحالت فارغة ، نوافذ المنزل الخشبية باتت متهالكة ، لن اصلحها فأنا اريد أن   احتسي الشاي الآن ، و ادخن سيجارة ، هي الاولى و لا اظنها الاخيرة . تركت امتعتي و دلفت الي مطبخ لا يحوي أي شئ سوى فنجان قهوة متعفن ، و سكر منتهي الصلاحية و انبوبة زرقاء اللون يتدلى منها
خرطوم بلاستيك غير متصل بقطعة الحديد التالفة التي تبدو من ظاهرها انها هيكل بوتاجاز . كل احلامي تحطمت و ما عدت املك شئ سوى بعض الشاي الذي حملته معي في رحلتي و سخان كهربي .. لكن الآن انا احتاح لشيء يسد جوعي ، و سيأتي بعده دور الشاي لا محالة . همت في الطرقات بحثاً عن ما اتذوقه لاقضي على  احتياج لابقى على قيد الحياة . بعض السمك المشوي و خبز ابيض ناعم الملمس عديم
المذاق مصحوبين   ببعض الخضروات منتهية الصلاحية . عدت منفردا في قريتي التي لا يقطن فيها
 إلا صاحب محل  الاسماك و بعض القطط التي تتغذى على حقائب المهملات . البحر امامي يناديني .. انا بحاجة لاكلمه لعل امي تبعث في موجة مد مثلاً
سآتي فقط يغيب النور المنبعث من شمس متسترة بغيوم الشتاء المثقلة بدموع الاحباء . سارعت في اعداد الشاي و امسكت كوباً فارغاً ، و اشعلت السخان فسمعت صوت الماء المتبخر فأخذت في سكب الماء
 المغلي على حباب الشاي المتجمعة في قاع الزجاجة و المختلطة بقدر قليل من السكر .
الليل يطرق بابي ، حان الآن وقت انفرادي بالبحر ... اخذت كوبي و حملت همومي على ظهري و
مشيت بخطوات ثابتة رغم وجود انحاءة بسيطة تنم عن كهولة روح و تعاظم المشكلات .
هيا ايها البحر .. آتيك انا لاغرقك بهمومي . استدفئ بكوب شاي و بسيجارة ثانية أدخنها لكي تخرج
تنهداتي بصعوبة ، فأزفر النفس بمعاناة و لا اقوى على الحياة فافني إلى دار الخلود .. اليس هكذا . مددت نفسي على كرسي خشبي متماسك ، و عليه مرتبة اسفنجية مبتلة قليلا ، ما إن لمس ظهري تلك القطعة
 الاسفنجية حتى انتفض جسدي و بدأ يشعر بالبرودة ، سأقص عليك ما يدور الآن في خلدي .. قد اسألك
 مرة و تسألني انت الأخرى .
أنا فاقد سيهوي ليصبح فقيد عما قريب ، كل ما لي لم اعد املكه . حتى هذا النفس الذي اخرجه لم يعد
ملكي .. تأملي لك ، ذكريات طفولتي هنا على ضفافك لم تعد لي ، الكرسي المتهالك هذا لم يعد يخصني . ببساطة لأني و كما قالها غيري أنا لست لي أيها البحر . و لكن اخبرني لم انت دوماً ملاذ العشاق و
 المفتورة قلوبهم في آنٍ واحد ؟ حينها جاء رده عينفاً بموجة مد اوصلت المياه لتغطي قدمي و تغرق آثار  أقدام السائرين على الرمال الذهبية.
الاغتراب في الدنيا هو اشد اختبار يمكن ان يمر به عبد من عباد خالقك ايها البساط المائي الممتد ،
 كعاصفة تحل بك في ليلة ظلامها دامس لتجعل هذا البساط متعرج عموديا ، تارة يعلو و تارة ينخفض ،
فتكون العواقب وخيمة ، تضطر حينها ايها البساط الإلهي أنا تبتلع أحد مريديك ، و قد يكون أوضعهم ..
مجرد قارب يحمل صياد طموحه أن يظفر منك برزق قد قسمه الله له ، فيلقى رزقه الأخير على متنك .   أصبحت أخاف من مشاهدتك ، يراودني دوما مشهد النهاية عندك ، نهاية الدنيا  التي منك بدأت و إليك
تنتهي . كقصص اللقاء منك تبدأ و منك تنتهي ، فرسائل الحب المدفونة في الزجاجات ما زالت تملأ
جوفك .. هل قرأتها ؟ .. حينها انحسر البساط و قلت حدة الموج و زاد كوب الشاي دفئاً . لا اريد ان اخبر بما يدمي قلبي صدقني ، فقط انني الآن طريح الارض كما تراني ، لا افقه لسعادة ماهية ، جئت كما جاءك غيري ليحدثك بما يخفيه عن الناس . هل تعلم اني اخاف أن يدمي إلي أحدهم .. استأنست بوحدتي و لا
 أريد غيرها بديل ، اصبحت اكره الاختيار و عشقت أن تلقي بي الحياة في ادغال الدنيا بما راق لي و بما لم يرقني ، أمقت المفاجآت و أعشق الاعتياد ، كل بنظام و إستعداد مسبق ، لا اخاف الموت لكن أخشى
 مداهمته لي .
صوت كلب يلهث قطع مناجاتي للبحر ، يهرول نحوي و بدأت ملامح الارتياب تتضح كلما اقترب نحوي ، لا أحب هذا النوع من الحيوانات .. بل أخافه . سارع في النباح  و لم يكف ، حام حولي و أشتم تحت
كرسي و انا أرتعش وسط الليل ، حتى انسكب الكوب شبه الساخن على أصابعي فاطلقت صرخة
 الموتى ظناً مني أني الوحيد هنا .
جاءت مرودته ، سيدة حسناء ترتدي فستان يبدو في هذا الكم من السواد ، أحمر و به أشكال مختلفة من
فروع الاشجار الزرقاء المتشابكة ، لا يستر كتفيها سوى "شال" ازرق اللون ، و شعرها البني الملطخ
بالبنفسجي جعلها تبدو أنثى ارستقراطية ، كانت براعة الأنوثة ، عيونها متسعة مكحولة طبيعيًا ، يداها
 المبسوطتان على ظهر الكلب الهائج تلمعان أكثر من اقرب نجم من البحر بأسره . حاربت نفسي لكي لا  اسألها من تكون و من أين جاءت ، لكنها قتلت هذا الاحتمال و سبقتني .. أولاً بالاعتذار عما بدر من
كلبها المدلل و عن حالة الفزع الذي حلت بي بسبب نباحه المستمر .
تقبلت الاعتذار ، و طلبت مني ان أقبل منها دعوة شاي هنا في نفس المكان بعد ساعة لكي تعوضني عن
 الكوب المسكوب على أصابعي . قبلت منها هذا و رجعت ل"شاليه" واضعًا الكوب الفارغ على حوض
المطبخ المتآكل ، و ذهبت لأضع بعض المياه الباردة على أصابعي المصابة . ذهبت  و نظرت لنفسي في مرآة عفى عليها الزمن و لكنها تظل مرآة . و شاهدت نفسي ، حمزة ، هذا الرجل الثلاثيني ، ذو الحاجبين الغليظين العابسين دومًا ، و العيون الضيقة الناعسة ، و الذقن غير المهذب ، و الشنب الكث ، و الشعر
 المجعد ، و الأنف ذات الندب العميق من آثر حادثة فات عليها عقد او أكثر .. حمزة الذي كان لا يهتم
 سوى بمنظره ، فينظر في إعجاب لنفسه  و يضع أغلى العطور ، و يضع رابطة عنقه بعناية فائقة و
 يهندم عيونه بتغليفها بنظارات انيقة و يتوج يده بساعة نفيسة .. ثم يقبّل يد امه و ينصرف ليبهر العالم
بابتسامته غير المفتعلة . ما أحلاها ابتسامة ... أين ساعتي بالمناسبة ؟ ها هي و كم يتبقى على لقائها ؟
حوالي ساعة إلا ربع . لِم أنا مرهق ، سيفوتني اللقاء .. بالتأكيد إنها لن تأتي قالت هكذا فقط كمجاملة
 بسبب ما حدث ليس اكثر .. سأنام و غداً سأكمل حديثي مع البحر .
لا أريدها يا أمي .. أريد ان اظل كما انا .. لا انها بالطبع ستطلب مني ما لا استطيع بذله لها .. أتركيني
 كما أريد ان اكون . البحر جاء فابتلع زورق أمي و أبي . و ظهر كل ما آلمني طيلة حياتي ، يزعقون
 في .. ستظل كما انت ، لن تتقدم أبدًا ، ستبقى حياً ميتاً . و حينها قُطع حلمي ، بصوت غريب الوقع على  أذني ، انها تلك السيدة ... تضع الكوب الساخن امامي و تقول :
_ أعتذر عن ايقاظك ، كنت سأضع الكوب و أرحل .
_ لا يا سيدتي ، لقد غفوت لم أكن لاتأخر على موعدنا .. فقط غالبني النوم فغلبني .
_النوم عشيق لا يمكن تجاهله يا سيدي ، فأنا من مريده بالمناسبة .
_ عشقه أبدي ، لا ينتهي ، حبه راحة لا تعب فيه .. متى أرتديه يأتيك خاضع في خدمتك دوما ايتها السيدة الحسناء .. اسمي ( حمزة ) بالمناسبة .
_شرف لي انا اتعرف على احد ساكني هذه القرية المهجورة في هذا التوقيت من كل عام .
_هذا الشهر أشد الشهور برودة لذا أُفضِل ان آتي قبل زحام موسم الربيع و اكتظاظ الشاليهات في موسم
الصيف اللعين .
_كم ملعقة من السكر تريد ؟
_لا تقلقي ، سأتدبر أمري .. إنه للطف منك ان تأتيني بكوب الشاي حتى باب الشاليه .
_ آسفة مرة اخرة على الازعاج ، و إن كنت دخلت الشاليه فقط لأنك سهوت و تركت الباب مفتوح .. إلي لقاء سيد حمزة .
ألقيت عليها تحية بيدي و نسيت ان اعرف اسمها او حتى رقم غرفتها هنا ... و لكني ما دعاني لذلك ..
كفاني منها كوب الشاي . الآن حان وقت الاستغراق في نومي .
أعشق النوم ، أذوب في حلمي كالملح في محيط فسيح ، أتراقص دون أن يراني أحدهم . أقول لمن ذاب
قلبي فيه عشقاً " أحبك " دون أن أخجل ، فقط غفوة تحلق بعقلك إلي أسمى رغباتك الدنيوية . في هذه
الليلة ، الوهم وصل لذروته و تجسد لي كل ما تمناه قلبي . في الحلم ، يمكنني ان أسب و ألعن دون عقاب ، بإمكاني أن أقتل من أمقت و أحتضن من أعشقه ... ما ألذ حلم .. الأحلام دوما تحمل عطر الجنة  وأحيانًا
 تحمل حسيس جهنم . 
خيوط الشروق تدخل من دلف النافذة الخشبية لل"شاليه" و أمواج البحر تغرد مع طيور الصباح بصوت حنون ، و اليوم بدأ مع إستيقاظ اذني اولاً ، أين أنا و لم جئت بقدمي إلي مكان لا أجد من يؤنسي .. فقط
 جاءتني تلك السيدة بطالتها البهية و رحلت كما جاءت .. لم أعد الآن أملُك سوى فتتات روحي المتبقية  و
إناء شاي فارغ و كوب قبيح المظهر يحاصره النمل متهافتاً على ما أنزلق من سكر . لكن هيا سأقوم الآن و استرخي قليلاً ، بعد ان أعد قدح القهوة مصحوباً بقطعة خبز من المتبقي معي من يوم أمس ، و سأعيد مشهد التسامر مرة اخري .. فالجو الآن ملائم للحديث ، النهار رغم تجلي وجوهنا إلا أنه ستار ضخم ،
يتخفى ورائه أسرار الليل . الخبز سأسخنه على آثار سخان الشاي ، أما القهوة أين هي و من أين سآتي
بالقدح و أين سأغليه .. استأسر بي حينها شعور الاستسلام و بعد أن كدت أهُم لابدأ يومي ، قد تم تثبيط
عزيمتي . أنا سيكفيني ، كوب شاي هذا هو المتوفر ، و أما الخبز فيمكن ان آكله و هو متجمد . سجن
الاغتراب هذا أفضل من جحيم الأُنس . سكون ساد ، و الامواج تغني و الطيور تطير في سرب و
تحوم لتظفر بسمك صياد ينتظر على ربوة صخرية على ضفاف البحر رزقه . الشمس تداعبني ، تدفئني
للحظة فيحبها جسدي ، ثم تستحي و تتستر وراء غيوم هذا الصباح . لم أملك حينها ساعة يدي متعمداً ،
أردت قتل وقتي مع البحر فأعود لاسأله ..
أيها البحر الفسيح ، لم لا تبدو رائقاً دومًا ؟ و كأنه يرد قائلاً .. من يحبس أنفاسه يلقى حتفه و انا أتنهد لكي أُخرِج أنفاس أعماقي . سكت قليلاً ثم أردف أنا مليء بالاشياء  سأفضي بها و لكن ما من مستمع .. من
يأتيني يأتي ليشكو من أمره الكثير .. هياجي الآن ما هو إلا نحيب على حال التعساء .. فالتعيس هو من لا يجد ما يحيا لأجله . هل ترى هذا الصياد على الربوة .. فنظرت متأملاً .. فقال لي البحر ، هذا الرجل
 يأتيني في فجر كل يوم محملًا بهموم الدنيا ، ييكي أمامي صامتًا و لكن أعطيه من رزق ربي فيعود لي
 من جديد .. إن الأمر يتعلق بالأمل يا رجل ...

_سيد حمزة ، كيف حالك ؟
جاء صوت السيدة يقاطع ثرثرة البحر معي ، لا أعرف من أين تأتيني تلك المرأة و لم تتردد عليّ ،
حاولت الابتسام و الافاقة من الشرودي لوهلة . عيوني تركت الصياد و تأملت شعرها الكثيف و ثوبها
 الأزرق السماوي ، حورية بحر كانت و أنا صائدها ..
_انا بخير يا سيدتي ، كيف حال الكلب .. لا أراه معك .. هل أصابه مكروه ؟
_تركته يلهث وراء ما يحلو له في الشاليه و حميته من برد الشاطئ .
_نعم أنني أشفق على هذا الشال ، هل يدفؤك ؟ أظنني معي ما يكفي من الثياب الثقيلة يمكنني ان أقوم
لأعيرك احدها .
_لا شكراً ، اردت فقط الاطمئنان انك اصبحت بخير ، حتى لا يؤنبني ضميري على فعلة كلبي المدلل .
_شكراً .. هذا للطفٍ منك .
_ تحب البحر أنت .. هذا واضح . ماذا تقول له ؟
سكت و استغربت من تسرعها و جرأتها . فأكملت غير مبالية :
_أنا آتي هنا ، و أثرثر مع معبودي .. ولكن بعد أن جئت لم تعد لي الفرصة .. و أصبحت أناجي البحر
بتأملك من وراء ستار الشاليه .
صدمتني ، فقمت دون إذنْ و اتجهت مؤرجحًا رأسي يميناً و يساراً ، ضارب كفاً على كفٍ . أستمعت لها وهي تقول بعد ان أدرت ظهري لها :
_ سانتظرك ليلاً و اعلم يقين العلم أنك ستآتيني ..
توقفت حينها ، و رجعت حتى لا أبدو جباناً . و سألتها :
_ماذا قلتي يا سيدتي ؟

_ كنت اتأملك ليلاً من وراء الستار ، لا اعرف لِم و رجاءً لا تسألني .

_مجرد فضول قد يكون هذا ما في الأمر .. فأنا كالأشباح لست للتأمل بل فقط إنني مدعاة لسخرية

 الاموات و صرخات الاحياء .

_ و ماذا رأيتِ يا ايتها المتأملة ؟

_ رأيت ما لا ترى .. رأيتُ مسحة الشجن في عيون تدمع فتسقط دموعها في بئر ماضي لا يستحق منك  

إلا النسيان .

_ نظرتك في محلها ... و لكن كيف لمرء  أن يتخلص من داء التذكر و التحسر ؟

_ بالافصاح عما مضى و سعيه  لتحقيق ما سيفوته .

كأنها جاءت من عالم الغيب , عرفت ما لم أدلِ به حتى للبحر .. صمتُ و أيقنت أن الصدفة جاءت بي هنا لسبب ما , شيء لا يعرفه غير مرسِل تلك القديسة .

عندما غصت في صمتي , رجع الكلب يطل علينا و لكنها ثنت قدميها و عيونها تلمع حين يتمسح بوجهه  في ثوبها مترامي الأطراف . لم ألحظه ثائراً , تمنيت لو أمتلك شيء لأحتضنه , أنني لم أعد أحوذ لا
روحاً تضمني .. فقد ماتت أمي , و لا سؤالاً يخصني ...فقد لحق بمكانه الأبدي أبي . أصبحت أعشق  
النهايات الكئيبة  في رواياتي التي أكتبها , فالشجن يليق بها و لا داعي لوجود سعادة بعد رحيل أحبتي .
أصدقائي , منهم من رحل و منهم من نسى و من نُسي .
قاطعني كلبها من شرودي و استأذنت و غادرت الشاطيء ... و أعادت تطلب مني ثانياً ..

_ هل لي بموعد آخر على الشاطئ .. بدلاً من أن تغرد وحيداً ؟

_ لكِ هذا يا سيدتي , فاإن الحديث معكِ بدأ يروق لي .

محلقاً بابتسامة وليدة تشق طينة وجهي العابس ... هل حان وقت البحر الآن .. أليس هكذا سيجيبوني ؟ .

غفلت جزء من الساعة و صُمتُ عن الطعام كراهب متعبد في كهفه يهمس بين يديه ليُسمع ربه أذكار و
 مآسي الحياة الشقية . حين أفقت و- كعادة يومي - أحضرت طعامي  و شرابي و احتسيت قهوتي و حان
الآن وقت لقائي معها . لم أهندم نفسي قدر ما هندمت كلماتي التي سألقيها عليها .

ما إن غادرت الشاليه , حتى تداهمني بثوب أسود ينبعث منه سواد ليلتنا , و ووجه أشد ضياءً من القمر    المتألق الذي استحى من جمالها فاختفي وراء الغيوم .   و بدأنا ...

_ ما أبهى طالتك يا سيدتي .

_ ما أمتع تأملك يا سيدي ... تبدو بحالة جيدة .

_ أنا أفضل طالما كنت بجوار هذا البساط السحري .

_ تحب أن نتمشى قليلاً .. أما تفضل أن نحتسي كوب من الشاي الساخن هنا ؟

_كفانا شاياً , نتمشى إذا لم تمانعي ...

_ حسناً .

مضينا قُدمًا , و الحيرة تحيطني , انتظرها و هي بانتظاري و الكون في انتظارنا . قتلت عيوني الحائرة  
التي أخذت تحوم حول أعينها الفسيحة . ثم فجأة , أطلقت ضحكة بديعة و عيونها حينها تعدت الجمال      الآلهي المُتصور , سكن قلبي حينها و بدأت الحق بها في ضحكتها .. تبسمت فابتسمت و شق حلقي          الجاف ماء ضحكة طال رجوعها و كاد يصبح مستحيل ..

قالت فجأة :

_ هل كنت ستظل هكذا أمام البحر ؟
_ لكنك لست بحراً , قد تكوني كوناً بأكمله .

_ ماذا عساك أن تقول إذا حضر هذا الكون أمامك .. اجعل روحك تثرثر و الكون سيستمع لك .

_ لست بحاجة سوى أن أفضي له , ما بالك إذا علمتي بشخص فقيد , مات قبل أن يحيا , لم يكافأ حتى
 بمتع دنياه ..متحسراً على امرأته العاشقة ... كان الموت يسلبني إيها كل يوم منذ علمت بمرضها اللعين ..
الذي جعلني استمسك بها أكثر و تحديت الظروف و فعلت ما ترينه في الافلام الرومانسية و أكثر .. و
لكن سيظل الفيلم خيال أم فيلمي أنا تلقائي تموت فيه البطلة ثم البطل و حتى الجمهور غادروا القاعة دون
 أن يحيوني . رجعت لأمي لأحيا معها و استعيد ما مضى فلم أجدها .

كل هذا و الابتسامة التي أظهرت مسحة الآسى , أما هي فلم تبدي لي أي تعاطف , بل إنها جعلتني أظن
أني وهن أمامها . صمتت قليلاً وذكرت :

_ هوّن عليك يا ( حمزة ) ... و ثم أردفت : لم تذكر لي من أنت ؟

_ أريد أنا أن أعرف من تكونين يا سيدتي ؟

_ أُدعى ( رحمة ) ..أظن هذا سيكفيك .

_ ماذا كنتِ لتفعلِ يا ( رحمة )  ؟

_ كنت سأحيا , فالموت آتٍ آتٍ , كلماتك الواصفة دوماً قتيلة ... أنت أسوء من ساكني جهنم . لا تنظر لما تملك , و لا تفرح لما مضى .. عذابك من عذابهم .. هل تدرك ما هو سرعذابهم ؟

_ فراق الأحبة ...

_ بل ندمهم على الفراق

كانت تحدثني بثقة و بدت أمامي أكثر فأكثر مثيرة , تداعب عقلي و ترسل لي كلمات لتثير فضولي , و  
على هذا المنوال سرنا في طريقنا . أحسست للحظة , أني نسيت ما حلّ بي قبل لقائي بها . لم تحدثني أبداً عن ما مضى من حياتي , فضولها دوماً عما سأعمله في المستقبل .. و كانت ضحكتها ما أبهاها .
تجعلني اتوقف عن استرسالي في الكلمات و أقف فأتفحص هيئتها و أتمعن حروف منمقة ترسلها لي
بكل اقناع و اقتناع . أحببت صوت البحر مختلط بصوتها , أحببت جلوسنا على الرمال ناظرين إلى نجم
ساطع يحدق فينا و يتلألأ ليثير انتباهنا . ثم داهمتني قائلة :

_ ألا ترى الدنيا فسيحة .. ألا ترى النور الآن ؟

_ ما زال ستار التحسر يعصم عينيّ يا سيدتي ..

_ السكينة ستأتيك , لكن سارع إليها قبل أن تخطفك دوامات الأطلال ...

ما أبدعها أمسية ... رجعنا بعد أن تمشينا و القمر ودعنا و ودعتني هي بحرارة فقلت :

_ سنلتقي غداً

قالت ببسمة في طريقها للزوال :

_ إلى غد قد يطول ...


و من تلك الليلة و أنا انتظر هذا اللقاء , و لكني واثق أنه سيآتي . فلقد فرج الهم و استطعت أن اتنسم فأحيا كما قالت , أما الأطلال فهي سبيلي لبناء ما هدم من جديد ... لقد أحيتني و رحلت .