vendredi 18 décembre 2015

جزر و مد

أحيتني ثم رحلت
ليس من السهل تقبل حياة لا تجلب لشخص يتضور جوعاً مثل ( حمزة ) صحون طعام فارغة . هذا العام استلذ بتقديم كافة احتمالات الكآبة له و لم تعطيه الفرصة حتى ليتذكر آلامه ، ينتهي من فاجعة لتأتيه التالية بدون رحمة . ( حمزة ) هذا ما كانت هي تدعوني به ، أحببت هذا الاسم لارتباطه في عقلي بوجودها ،    لهذا فمنذ غياب أمي أو تغيبها عني متعمدة و أنا دون هوية , كطائر يبحث عن عش قديم ...
في المعتاد تخبرني أين ستذهب و لكن تلك المرة لم تبلغني ، و كأنها خانتني مع الموت . ما أقبح الموت .. أقبح ما خلق الله .. لا اريد الفراق .. فقط التلاقي هذا ما أسعى إليه ، ما يجعلني اتراجع عن فكرة الانتحار هو اعتقادي ان النار ستحول بيني و بين ملكتي .
لم اعرف في الدنيا سواها ، عملي صباحاً و ليلاً كان السعي لارضائها ، نعيم الدنيا كانت و سخطها       جحيمي .
 كان الأمر يمكن تداركه حين لحق أبي بالرفيق الأعلى و لم يصيبني ضيق ، فكفاني عنافها لي و ربتها
على كتفي ، و أن مرت سنتين من هذا الحدث حتى لقيت نفسي شريداً . لم أفقه معنى الوحدة سوى الآن ، كل شيء يتغير ، لحظة فقط قد تلحق بكيانك أذى لا وصف له ، نظرة  واحدة قد تعطي أمل و قد
تسلبه .                                    
أجازة احتجتها من العمل ، من الدنيا بأكملها . أخذت السيارة متجهاً لمكان ناءٍ . " شاليه " على الساحل    الشمالي ، يطل على البحر ، إنه شهر يناير و تحديدا آخر أيامه . انتظرت هذا التوقيت لأخلو بنفسي و     أُخلي ما علق في روحي من شوائب الحياة المهنكة . الطريق أخذ وقت لا طويل و لا متوسط و لا قصير  لكن قد تبقى عدد من الأيام و انتهي من هذا الشقاء و السأم و الحق بكِ يا أماااه !
وصلت أمام المنزل ، الذي لم أره منذ دهر ، الهواء يلفني ليحيط بروحي المستدفئة بذكريات دفينة في     قريحتي . أدرت المفتاح  و دلفت إلى البيت . البيت ابتهج بقدومي ، لقد هجرته و اكتفيت بتحسر على أيام   إقامتي فيه مع والدي .
 الحصير كما هو ، التراب كهل ، و الحوائط مليئة بالشقوق المتعرجة التي تمر   من أرضية المنزل و
 حتى سقف المنزل المتآكل من ملوحة الريح . رغم الحالة المزرية إلا أني للحظة   شعرت أني اريد ان
 اقبل كل خطوة وطأتها قدمي  لاستعيد ما لا يمكن استعادته .. النشوة و الصوت الصارخ  لصبي يجري
 نحو امه و ابيه .. شبل يحتمي بحضن امه وسط فزعه من الرعد و انبهاره بالبرق .
عيوني البراقة خفتت و استحالت فارغة ، نوافذ المنزل الخشبية باتت متهالكة ، لن اصلحها فأنا اريد أن   احتسي الشاي الآن ، و ادخن سيجارة ، هي الاولى و لا اظنها الاخيرة . تركت امتعتي و دلفت الي مطبخ لا يحوي أي شئ سوى فنجان قهوة متعفن ، و سكر منتهي الصلاحية و انبوبة زرقاء اللون يتدلى منها
خرطوم بلاستيك غير متصل بقطعة الحديد التالفة التي تبدو من ظاهرها انها هيكل بوتاجاز . كل احلامي تحطمت و ما عدت املك شئ سوى بعض الشاي الذي حملته معي في رحلتي و سخان كهربي .. لكن الآن انا احتاح لشيء يسد جوعي ، و سيأتي بعده دور الشاي لا محالة . همت في الطرقات بحثاً عن ما اتذوقه لاقضي على  احتياج لابقى على قيد الحياة . بعض السمك المشوي و خبز ابيض ناعم الملمس عديم
المذاق مصحوبين   ببعض الخضروات منتهية الصلاحية . عدت منفردا في قريتي التي لا يقطن فيها
 إلا صاحب محل  الاسماك و بعض القطط التي تتغذى على حقائب المهملات . البحر امامي يناديني .. انا بحاجة لاكلمه لعل امي تبعث في موجة مد مثلاً
سآتي فقط يغيب النور المنبعث من شمس متسترة بغيوم الشتاء المثقلة بدموع الاحباء . سارعت في اعداد الشاي و امسكت كوباً فارغاً ، و اشعلت السخان فسمعت صوت الماء المتبخر فأخذت في سكب الماء
 المغلي على حباب الشاي المتجمعة في قاع الزجاجة و المختلطة بقدر قليل من السكر .
الليل يطرق بابي ، حان الآن وقت انفرادي بالبحر ... اخذت كوبي و حملت همومي على ظهري و
مشيت بخطوات ثابتة رغم وجود انحاءة بسيطة تنم عن كهولة روح و تعاظم المشكلات .
هيا ايها البحر .. آتيك انا لاغرقك بهمومي . استدفئ بكوب شاي و بسيجارة ثانية أدخنها لكي تخرج
تنهداتي بصعوبة ، فأزفر النفس بمعاناة و لا اقوى على الحياة فافني إلى دار الخلود .. اليس هكذا . مددت نفسي على كرسي خشبي متماسك ، و عليه مرتبة اسفنجية مبتلة قليلا ، ما إن لمس ظهري تلك القطعة
 الاسفنجية حتى انتفض جسدي و بدأ يشعر بالبرودة ، سأقص عليك ما يدور الآن في خلدي .. قد اسألك
 مرة و تسألني انت الأخرى .
أنا فاقد سيهوي ليصبح فقيد عما قريب ، كل ما لي لم اعد املكه . حتى هذا النفس الذي اخرجه لم يعد
ملكي .. تأملي لك ، ذكريات طفولتي هنا على ضفافك لم تعد لي ، الكرسي المتهالك هذا لم يعد يخصني . ببساطة لأني و كما قالها غيري أنا لست لي أيها البحر . و لكن اخبرني لم انت دوماً ملاذ العشاق و
 المفتورة قلوبهم في آنٍ واحد ؟ حينها جاء رده عينفاً بموجة مد اوصلت المياه لتغطي قدمي و تغرق آثار  أقدام السائرين على الرمال الذهبية.
الاغتراب في الدنيا هو اشد اختبار يمكن ان يمر به عبد من عباد خالقك ايها البساط المائي الممتد ،
 كعاصفة تحل بك في ليلة ظلامها دامس لتجعل هذا البساط متعرج عموديا ، تارة يعلو و تارة ينخفض ،
فتكون العواقب وخيمة ، تضطر حينها ايها البساط الإلهي أنا تبتلع أحد مريديك ، و قد يكون أوضعهم ..
مجرد قارب يحمل صياد طموحه أن يظفر منك برزق قد قسمه الله له ، فيلقى رزقه الأخير على متنك .   أصبحت أخاف من مشاهدتك ، يراودني دوما مشهد النهاية عندك ، نهاية الدنيا  التي منك بدأت و إليك
تنتهي . كقصص اللقاء منك تبدأ و منك تنتهي ، فرسائل الحب المدفونة في الزجاجات ما زالت تملأ
جوفك .. هل قرأتها ؟ .. حينها انحسر البساط و قلت حدة الموج و زاد كوب الشاي دفئاً . لا اريد ان اخبر بما يدمي قلبي صدقني ، فقط انني الآن طريح الارض كما تراني ، لا افقه لسعادة ماهية ، جئت كما جاءك غيري ليحدثك بما يخفيه عن الناس . هل تعلم اني اخاف أن يدمي إلي أحدهم .. استأنست بوحدتي و لا
 أريد غيرها بديل ، اصبحت اكره الاختيار و عشقت أن تلقي بي الحياة في ادغال الدنيا بما راق لي و بما لم يرقني ، أمقت المفاجآت و أعشق الاعتياد ، كل بنظام و إستعداد مسبق ، لا اخاف الموت لكن أخشى
 مداهمته لي .
صوت كلب يلهث قطع مناجاتي للبحر ، يهرول نحوي و بدأت ملامح الارتياب تتضح كلما اقترب نحوي ، لا أحب هذا النوع من الحيوانات .. بل أخافه . سارع في النباح  و لم يكف ، حام حولي و أشتم تحت
كرسي و انا أرتعش وسط الليل ، حتى انسكب الكوب شبه الساخن على أصابعي فاطلقت صرخة
 الموتى ظناً مني أني الوحيد هنا .
جاءت مرودته ، سيدة حسناء ترتدي فستان يبدو في هذا الكم من السواد ، أحمر و به أشكال مختلفة من
فروع الاشجار الزرقاء المتشابكة ، لا يستر كتفيها سوى "شال" ازرق اللون ، و شعرها البني الملطخ
بالبنفسجي جعلها تبدو أنثى ارستقراطية ، كانت براعة الأنوثة ، عيونها متسعة مكحولة طبيعيًا ، يداها
 المبسوطتان على ظهر الكلب الهائج تلمعان أكثر من اقرب نجم من البحر بأسره . حاربت نفسي لكي لا  اسألها من تكون و من أين جاءت ، لكنها قتلت هذا الاحتمال و سبقتني .. أولاً بالاعتذار عما بدر من
كلبها المدلل و عن حالة الفزع الذي حلت بي بسبب نباحه المستمر .
تقبلت الاعتذار ، و طلبت مني ان أقبل منها دعوة شاي هنا في نفس المكان بعد ساعة لكي تعوضني عن
 الكوب المسكوب على أصابعي . قبلت منها هذا و رجعت ل"شاليه" واضعًا الكوب الفارغ على حوض
المطبخ المتآكل ، و ذهبت لأضع بعض المياه الباردة على أصابعي المصابة . ذهبت  و نظرت لنفسي في مرآة عفى عليها الزمن و لكنها تظل مرآة . و شاهدت نفسي ، حمزة ، هذا الرجل الثلاثيني ، ذو الحاجبين الغليظين العابسين دومًا ، و العيون الضيقة الناعسة ، و الذقن غير المهذب ، و الشنب الكث ، و الشعر
 المجعد ، و الأنف ذات الندب العميق من آثر حادثة فات عليها عقد او أكثر .. حمزة الذي كان لا يهتم
 سوى بمنظره ، فينظر في إعجاب لنفسه  و يضع أغلى العطور ، و يضع رابطة عنقه بعناية فائقة و
 يهندم عيونه بتغليفها بنظارات انيقة و يتوج يده بساعة نفيسة .. ثم يقبّل يد امه و ينصرف ليبهر العالم
بابتسامته غير المفتعلة . ما أحلاها ابتسامة ... أين ساعتي بالمناسبة ؟ ها هي و كم يتبقى على لقائها ؟
حوالي ساعة إلا ربع . لِم أنا مرهق ، سيفوتني اللقاء .. بالتأكيد إنها لن تأتي قالت هكذا فقط كمجاملة
 بسبب ما حدث ليس اكثر .. سأنام و غداً سأكمل حديثي مع البحر .
لا أريدها يا أمي .. أريد ان اظل كما انا .. لا انها بالطبع ستطلب مني ما لا استطيع بذله لها .. أتركيني
 كما أريد ان اكون . البحر جاء فابتلع زورق أمي و أبي . و ظهر كل ما آلمني طيلة حياتي ، يزعقون
 في .. ستظل كما انت ، لن تتقدم أبدًا ، ستبقى حياً ميتاً . و حينها قُطع حلمي ، بصوت غريب الوقع على  أذني ، انها تلك السيدة ... تضع الكوب الساخن امامي و تقول :
_ أعتذر عن ايقاظك ، كنت سأضع الكوب و أرحل .
_ لا يا سيدتي ، لقد غفوت لم أكن لاتأخر على موعدنا .. فقط غالبني النوم فغلبني .
_النوم عشيق لا يمكن تجاهله يا سيدي ، فأنا من مريده بالمناسبة .
_ عشقه أبدي ، لا ينتهي ، حبه راحة لا تعب فيه .. متى أرتديه يأتيك خاضع في خدمتك دوما ايتها السيدة الحسناء .. اسمي ( حمزة ) بالمناسبة .
_شرف لي انا اتعرف على احد ساكني هذه القرية المهجورة في هذا التوقيت من كل عام .
_هذا الشهر أشد الشهور برودة لذا أُفضِل ان آتي قبل زحام موسم الربيع و اكتظاظ الشاليهات في موسم
الصيف اللعين .
_كم ملعقة من السكر تريد ؟
_لا تقلقي ، سأتدبر أمري .. إنه للطف منك ان تأتيني بكوب الشاي حتى باب الشاليه .
_ آسفة مرة اخرة على الازعاج ، و إن كنت دخلت الشاليه فقط لأنك سهوت و تركت الباب مفتوح .. إلي لقاء سيد حمزة .
ألقيت عليها تحية بيدي و نسيت ان اعرف اسمها او حتى رقم غرفتها هنا ... و لكني ما دعاني لذلك ..
كفاني منها كوب الشاي . الآن حان وقت الاستغراق في نومي .
أعشق النوم ، أذوب في حلمي كالملح في محيط فسيح ، أتراقص دون أن يراني أحدهم . أقول لمن ذاب
قلبي فيه عشقاً " أحبك " دون أن أخجل ، فقط غفوة تحلق بعقلك إلي أسمى رغباتك الدنيوية . في هذه
الليلة ، الوهم وصل لذروته و تجسد لي كل ما تمناه قلبي . في الحلم ، يمكنني ان أسب و ألعن دون عقاب ، بإمكاني أن أقتل من أمقت و أحتضن من أعشقه ... ما ألذ حلم .. الأحلام دوما تحمل عطر الجنة  وأحيانًا
 تحمل حسيس جهنم . 
خيوط الشروق تدخل من دلف النافذة الخشبية لل"شاليه" و أمواج البحر تغرد مع طيور الصباح بصوت حنون ، و اليوم بدأ مع إستيقاظ اذني اولاً ، أين أنا و لم جئت بقدمي إلي مكان لا أجد من يؤنسي .. فقط
 جاءتني تلك السيدة بطالتها البهية و رحلت كما جاءت .. لم أعد الآن أملُك سوى فتتات روحي المتبقية  و
إناء شاي فارغ و كوب قبيح المظهر يحاصره النمل متهافتاً على ما أنزلق من سكر . لكن هيا سأقوم الآن و استرخي قليلاً ، بعد ان أعد قدح القهوة مصحوباً بقطعة خبز من المتبقي معي من يوم أمس ، و سأعيد مشهد التسامر مرة اخري .. فالجو الآن ملائم للحديث ، النهار رغم تجلي وجوهنا إلا أنه ستار ضخم ،
يتخفى ورائه أسرار الليل . الخبز سأسخنه على آثار سخان الشاي ، أما القهوة أين هي و من أين سآتي
بالقدح و أين سأغليه .. استأسر بي حينها شعور الاستسلام و بعد أن كدت أهُم لابدأ يومي ، قد تم تثبيط
عزيمتي . أنا سيكفيني ، كوب شاي هذا هو المتوفر ، و أما الخبز فيمكن ان آكله و هو متجمد . سجن
الاغتراب هذا أفضل من جحيم الأُنس . سكون ساد ، و الامواج تغني و الطيور تطير في سرب و
تحوم لتظفر بسمك صياد ينتظر على ربوة صخرية على ضفاف البحر رزقه . الشمس تداعبني ، تدفئني
للحظة فيحبها جسدي ، ثم تستحي و تتستر وراء غيوم هذا الصباح . لم أملك حينها ساعة يدي متعمداً ،
أردت قتل وقتي مع البحر فأعود لاسأله ..
أيها البحر الفسيح ، لم لا تبدو رائقاً دومًا ؟ و كأنه يرد قائلاً .. من يحبس أنفاسه يلقى حتفه و انا أتنهد لكي أُخرِج أنفاس أعماقي . سكت قليلاً ثم أردف أنا مليء بالاشياء  سأفضي بها و لكن ما من مستمع .. من
يأتيني يأتي ليشكو من أمره الكثير .. هياجي الآن ما هو إلا نحيب على حال التعساء .. فالتعيس هو من لا يجد ما يحيا لأجله . هل ترى هذا الصياد على الربوة .. فنظرت متأملاً .. فقال لي البحر ، هذا الرجل
 يأتيني في فجر كل يوم محملًا بهموم الدنيا ، ييكي أمامي صامتًا و لكن أعطيه من رزق ربي فيعود لي
 من جديد .. إن الأمر يتعلق بالأمل يا رجل ...

_سيد حمزة ، كيف حالك ؟
جاء صوت السيدة يقاطع ثرثرة البحر معي ، لا أعرف من أين تأتيني تلك المرأة و لم تتردد عليّ ،
حاولت الابتسام و الافاقة من الشرودي لوهلة . عيوني تركت الصياد و تأملت شعرها الكثيف و ثوبها
 الأزرق السماوي ، حورية بحر كانت و أنا صائدها ..
_انا بخير يا سيدتي ، كيف حال الكلب .. لا أراه معك .. هل أصابه مكروه ؟
_تركته يلهث وراء ما يحلو له في الشاليه و حميته من برد الشاطئ .
_نعم أنني أشفق على هذا الشال ، هل يدفؤك ؟ أظنني معي ما يكفي من الثياب الثقيلة يمكنني ان أقوم
لأعيرك احدها .
_لا شكراً ، اردت فقط الاطمئنان انك اصبحت بخير ، حتى لا يؤنبني ضميري على فعلة كلبي المدلل .
_شكراً .. هذا للطفٍ منك .
_ تحب البحر أنت .. هذا واضح . ماذا تقول له ؟
سكت و استغربت من تسرعها و جرأتها . فأكملت غير مبالية :
_أنا آتي هنا ، و أثرثر مع معبودي .. ولكن بعد أن جئت لم تعد لي الفرصة .. و أصبحت أناجي البحر
بتأملك من وراء ستار الشاليه .
صدمتني ، فقمت دون إذنْ و اتجهت مؤرجحًا رأسي يميناً و يساراً ، ضارب كفاً على كفٍ . أستمعت لها وهي تقول بعد ان أدرت ظهري لها :
_ سانتظرك ليلاً و اعلم يقين العلم أنك ستآتيني ..
توقفت حينها ، و رجعت حتى لا أبدو جباناً . و سألتها :
_ماذا قلتي يا سيدتي ؟

_ كنت اتأملك ليلاً من وراء الستار ، لا اعرف لِم و رجاءً لا تسألني .

_مجرد فضول قد يكون هذا ما في الأمر .. فأنا كالأشباح لست للتأمل بل فقط إنني مدعاة لسخرية

 الاموات و صرخات الاحياء .

_ و ماذا رأيتِ يا ايتها المتأملة ؟

_ رأيت ما لا ترى .. رأيتُ مسحة الشجن في عيون تدمع فتسقط دموعها في بئر ماضي لا يستحق منك  

إلا النسيان .

_ نظرتك في محلها ... و لكن كيف لمرء  أن يتخلص من داء التذكر و التحسر ؟

_ بالافصاح عما مضى و سعيه  لتحقيق ما سيفوته .

كأنها جاءت من عالم الغيب , عرفت ما لم أدلِ به حتى للبحر .. صمتُ و أيقنت أن الصدفة جاءت بي هنا لسبب ما , شيء لا يعرفه غير مرسِل تلك القديسة .

عندما غصت في صمتي , رجع الكلب يطل علينا و لكنها ثنت قدميها و عيونها تلمع حين يتمسح بوجهه  في ثوبها مترامي الأطراف . لم ألحظه ثائراً , تمنيت لو أمتلك شيء لأحتضنه , أنني لم أعد أحوذ لا
روحاً تضمني .. فقد ماتت أمي , و لا سؤالاً يخصني ...فقد لحق بمكانه الأبدي أبي . أصبحت أعشق  
النهايات الكئيبة  في رواياتي التي أكتبها , فالشجن يليق بها و لا داعي لوجود سعادة بعد رحيل أحبتي .
أصدقائي , منهم من رحل و منهم من نسى و من نُسي .
قاطعني كلبها من شرودي و استأذنت و غادرت الشاطيء ... و أعادت تطلب مني ثانياً ..

_ هل لي بموعد آخر على الشاطئ .. بدلاً من أن تغرد وحيداً ؟

_ لكِ هذا يا سيدتي , فاإن الحديث معكِ بدأ يروق لي .

محلقاً بابتسامة وليدة تشق طينة وجهي العابس ... هل حان وقت البحر الآن .. أليس هكذا سيجيبوني ؟ .

غفلت جزء من الساعة و صُمتُ عن الطعام كراهب متعبد في كهفه يهمس بين يديه ليُسمع ربه أذكار و
 مآسي الحياة الشقية . حين أفقت و- كعادة يومي - أحضرت طعامي  و شرابي و احتسيت قهوتي و حان
الآن وقت لقائي معها . لم أهندم نفسي قدر ما هندمت كلماتي التي سألقيها عليها .

ما إن غادرت الشاليه , حتى تداهمني بثوب أسود ينبعث منه سواد ليلتنا , و ووجه أشد ضياءً من القمر    المتألق الذي استحى من جمالها فاختفي وراء الغيوم .   و بدأنا ...

_ ما أبهى طالتك يا سيدتي .

_ ما أمتع تأملك يا سيدي ... تبدو بحالة جيدة .

_ أنا أفضل طالما كنت بجوار هذا البساط السحري .

_ تحب أن نتمشى قليلاً .. أما تفضل أن نحتسي كوب من الشاي الساخن هنا ؟

_كفانا شاياً , نتمشى إذا لم تمانعي ...

_ حسناً .

مضينا قُدمًا , و الحيرة تحيطني , انتظرها و هي بانتظاري و الكون في انتظارنا . قتلت عيوني الحائرة  
التي أخذت تحوم حول أعينها الفسيحة . ثم فجأة , أطلقت ضحكة بديعة و عيونها حينها تعدت الجمال      الآلهي المُتصور , سكن قلبي حينها و بدأت الحق بها في ضحكتها .. تبسمت فابتسمت و شق حلقي          الجاف ماء ضحكة طال رجوعها و كاد يصبح مستحيل ..

قالت فجأة :

_ هل كنت ستظل هكذا أمام البحر ؟
_ لكنك لست بحراً , قد تكوني كوناً بأكمله .

_ ماذا عساك أن تقول إذا حضر هذا الكون أمامك .. اجعل روحك تثرثر و الكون سيستمع لك .

_ لست بحاجة سوى أن أفضي له , ما بالك إذا علمتي بشخص فقيد , مات قبل أن يحيا , لم يكافأ حتى
 بمتع دنياه ..متحسراً على امرأته العاشقة ... كان الموت يسلبني إيها كل يوم منذ علمت بمرضها اللعين ..
الذي جعلني استمسك بها أكثر و تحديت الظروف و فعلت ما ترينه في الافلام الرومانسية و أكثر .. و
لكن سيظل الفيلم خيال أم فيلمي أنا تلقائي تموت فيه البطلة ثم البطل و حتى الجمهور غادروا القاعة دون
 أن يحيوني . رجعت لأمي لأحيا معها و استعيد ما مضى فلم أجدها .

كل هذا و الابتسامة التي أظهرت مسحة الآسى , أما هي فلم تبدي لي أي تعاطف , بل إنها جعلتني أظن
أني وهن أمامها . صمتت قليلاً وذكرت :

_ هوّن عليك يا ( حمزة ) ... و ثم أردفت : لم تذكر لي من أنت ؟

_ أريد أنا أن أعرف من تكونين يا سيدتي ؟

_ أُدعى ( رحمة ) ..أظن هذا سيكفيك .

_ ماذا كنتِ لتفعلِ يا ( رحمة )  ؟

_ كنت سأحيا , فالموت آتٍ آتٍ , كلماتك الواصفة دوماً قتيلة ... أنت أسوء من ساكني جهنم . لا تنظر لما تملك , و لا تفرح لما مضى .. عذابك من عذابهم .. هل تدرك ما هو سرعذابهم ؟

_ فراق الأحبة ...

_ بل ندمهم على الفراق

كانت تحدثني بثقة و بدت أمامي أكثر فأكثر مثيرة , تداعب عقلي و ترسل لي كلمات لتثير فضولي , و  
على هذا المنوال سرنا في طريقنا . أحسست للحظة , أني نسيت ما حلّ بي قبل لقائي بها . لم تحدثني أبداً عن ما مضى من حياتي , فضولها دوماً عما سأعمله في المستقبل .. و كانت ضحكتها ما أبهاها .
تجعلني اتوقف عن استرسالي في الكلمات و أقف فأتفحص هيئتها و أتمعن حروف منمقة ترسلها لي
بكل اقناع و اقتناع . أحببت صوت البحر مختلط بصوتها , أحببت جلوسنا على الرمال ناظرين إلى نجم
ساطع يحدق فينا و يتلألأ ليثير انتباهنا . ثم داهمتني قائلة :

_ ألا ترى الدنيا فسيحة .. ألا ترى النور الآن ؟

_ ما زال ستار التحسر يعصم عينيّ يا سيدتي ..

_ السكينة ستأتيك , لكن سارع إليها قبل أن تخطفك دوامات الأطلال ...

ما أبدعها أمسية ... رجعنا بعد أن تمشينا و القمر ودعنا و ودعتني هي بحرارة فقلت :

_ سنلتقي غداً

قالت ببسمة في طريقها للزوال :

_ إلى غد قد يطول ...


و من تلك الليلة و أنا انتظر هذا اللقاء , و لكني واثق أنه سيآتي . فلقد فرج الهم و استطعت أن اتنسم فأحيا كما قالت , أما الأطلال فهي سبيلي لبناء ما هدم من جديد ... لقد أحيتني و رحلت . 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire