lundi 10 décembre 2018

الصمت



يجلس ( عيسى ) أمام أخيه ( يحيى ) على طاولة منزلهما بعد أن باغت الموت أباهما و من قبله أمهما الضريرة . منزلهما الخشبي يقع وسط جزيرة تطل على المحيط الهندي . جزيرة لا يتعدى عدد سكانها المئات . كانا يمكثان في ليلة شتوية , سماء تمطر منذ فجر اليوم حتى المغيب . لم تطل الشمس فأنابت الريح عنها لتحرك ما تبقى من أوراق باردة ذابلة يتيمة فتسقط في الوحل. كان ( عيسى ) قد فرغ لتوه من إطعام حصانهما و حلب بقرتهما جيدًا و أخذ يضع الإناء على نار بحطب متقد لا ينطفئ داخل البيت , أما مهمة ( يحيى ) فكانت تقتصر على عصاه التي أدخل بها غنمه إلى الحظيرة بعد أن أطعمهم .اليوم لم يكف غلاف الأرض عن تسريب المياه , فاضطر أن يذهب بهم إلى مأوى . يؤنس الأخوان بعضهما , فلا يوجد جوارهما سوى بيت مهجور غادره سكانه بعدما توفيا في ظروف غامضة . دخل ( يحيى ) و في يده عصاه الخشبية المكسورة و بضع سمكات قد اصطادها . مكث على الأريكة بعد أن أغلق ورائه الباب و كانت الريح عنيدة كأنها ديك شركسي لا يرغب أن يلقى نحبه أمام غريمه على مرأى من المشاهدين الحمقى .
أخبر ( يحيى ) أخاه ( عيسى ) أنهما سيأكلان اليوم سمكتين مما قد اصطاد هو و بعد ذلك , سيتعين على ( عيسى ) أن يخرج ليتأكد من إغلاق باب الحظيرة في حين سيعتني ( يحيى ) باللبن قبل أن يغلي غليان دماء الشيطان لحظة توبة أحدهما . كانت حياتهما مقسمة بالعدل بينهما , اتفقا على أنهما لن يتزوجان , كان ذلك العهد مقدس بينهما . فقد رُبوا على كون المرأة هي السبب في الفتنة و سبب لعنة الإله لعبيده . كانت وصية والد ( عيسى ) و ( يحيى ) ألا يتخاصما يومًا و ألا يجعلا شيء يفرقهما أيًّا كانت ماهيته و أيًا ما كان السبب . أٌقسما الاثنان لوالدهما على تنفيذ تلك الوصية , و لكنه لم ينصت لهما حينئذ و ظلت عيونه باهتة تنظر إلى سقف المنزل الخشبي مذهولة حتى غفى غفوة أبدية .
كان الدفء يملأ قلبهما و يحيط المنزل من كل جانب . كل منهما أخذ ينظف بطن سمكته بيده و عيون ( يحيى ) مرتبصة بإناء اللبن حتى لا يفور كالبركان قبل فوات آوانه , أما ( عيسى ) فبعدما انتهى من إعداد سمكته , غرس قطعة ألومنيوم في عيون السمكة و تركها أعلى الحطب لتشوى , ثم شرع يرتدي سترة شتوية ليغلق باب الحظيرة منعًا لأي سرقة و يتأكد أن ماشيتهما في أمان و ينعمان بنوم هانئ .
خرج ( عيسى ) تاركًا ( يحيى ) لمهتمه . ظن ( يحيى ) أن أخاه سيطيل الوقت , فلم يلبث أن غادر أخوه حتى سمع طرقًا للباب في خفة تشبه سيمفونية دخول الجنة التي تعزف ابتهاجًا بسكانها الجدد . قام يحيى ليفتح , فإذ به يرى أحدهم يبتسم و يخبره متسائلًا :
- هل أزعجتك ؟
رد ببشاشة يحيى فقال :
- بالطبع لا , تفضل .
كان برد الشتاء قارسًا , فأدخل يحيى هذا الرجل ذا العباءة السوداء و الوجه الذي يشع نورًا كالقديسين . لم يكن حينها أول ما ورد إلى ذهنه أن يعرف من هذا الرجل الغريب . هل هو راهب ؟  لكن كل من على الجزيرة لا يهتم بمثل تلك الأشياء .  في جميع الحالات كرم الضيافة و حسن الاستقبال و سوء الطقس كانت هي العوامل التي ساعدت هذا الرجل بابتسامته غير المريحة ( و إن ألفها يحيى نفسه ) على الولوج إلى البيت مطمئنًا . فإذ بيحيى يجد اللبن على وشك الغليان و سمكة يحيى احترق منها جزءٌ , فتردد حين رأى الرجل يسمع أزيز الإناء و يخبره أن يبعد الإناء قبل أن يفور منه اللبن و يفسد كالسمكة . أجلس الرجل الأبيض ذا الرداء الأسود نفسه على كرسي وثير يتوسط الأريكة و كرسي آخر خشبي يترنح يخص أباهما    ( اتفقا أن يجلس أحدهما يومًا عليه و الآخر يتبعه في اليوم التالي كما أوصاهما أباهما ) . الأم لم توصِ بشيء , فهما لا يعرفان عنها منذ ولدا . صمم الأب ألا يخبرهما عنها , و ألح عليهما أن ينسياها فهي في مكانٍ آخر كما يقول .
هرع يحيى و أبعد اللبن عن النيران لكي يهدأ فلا يثور و رمى سمكة عيسى من النافذة سريعًا قبل أن يهجم عليه السقيع . ثم سأل يحيى الضيف :
- هل أصب لك بعض اللبن ؟
صمت قليلًا كأنه يفكر , ثم أجاب :
- يروقني ذوقك يا يحيى ...  شكرًا , فلست هنا لأشرب اللبن .
فوجدها فرصة جيدة ليعرف حقيقة هذا الضيف و ذلك الرداء الأسود . حينها كف المطر عن الهطول و أخذت الريح تدوي , فيجد الضيف الفرصة ليخبره بهدوء :
- أنا الموت ...
دفع عيسى بيده اليمنى الباب حاملًا في يده جبنًا . فإذ به يدهش بوجود أحدهم و تزداد دهشته حين يرى وجه أخاه مذهولًا . كان يحيى كالحطب يتأكل و النيران تنبعث منه لا تجد من يخمدها فتنهش في روحه ضباع التساؤل و الحيرة .
قطع عيسى ذلك الصمت المطلق و سأل الضيف :
- من تكون يا أنت ؟
رد الرجل و لم يغير حينها من ابتسامته :
- كما أخبرت أخاك يا عيسى ... أنا الموت , فلتظهر لي بعض الترحاب , فليس أمامك الكثير لتفعله . لقد حان وقت أحدهم هنا .
أغلق عيسى الباب بعنف و ضحك مقهقهًا , ثم توجه ناحية الكرسي الذي يجاور يحيى و الضيف , ثم قال :
-  ماذا ستحصد يا أنت ؟ أرواحنا ؟ بئسما تفعل . لسنا صيدًا ثمينًا كما تظن .
فقال الموت مباغتًا :
- إذًا , فأنت لا تريد الحياة . لا يبدو على وجهك الخوف . أظن أنني عثرت على من سيجعل مهمتي سهلة تلك المرة .
فُزع يحيى , فضرب بعصاه كموسى الذي شق البحر , ليعلن قائلًا :
- لا , لا أحد منا يخافك . نحن لم نكتفِ بعد من الحياة .
جلس عيسى و قلبه أخذ يخفق كفؤاد بلبل يتهاوى قبل ارتطامه بالأرض حتى لا يسمعه الموت , ثم توجه بكلامه للضيف و قرر أن يهينه فقال ساخرًا :
- هيئتُك تشبه الشيطان . لا تبدو لي كالموت . فالموت لا يبدو سخيفًا مثلك .
فسأله :
- أخبرني كيف يبدو لك ؟
- الموت لدي بائس . لا يشع نورًا بل يحصد من أرواحنا نورًا أولًا فيخمده بسائلٍ ما يشبه ملح المياه المائع ( كان يشير بسبابته نحو النافذة التي تطل على المحيط المفزع الذي شابه حينها روح يحيى يعلو مضطربًا و تتهاوى أمواجه التي كادت تصل أعنان السماء لكنها تسقط سقوط الملائكة بعد انتحارها ) , الموت لا يبتسم , الموت لا يأتي بغتة سوى في حوادث عارضة . الموت تائه , شريد , لا يجد من يؤنسه .
فتحولت الابتسامة الزائفة إلى وجه صارم ينصت في هدوء و ينتظر المزيد , فإذ بأخوه يحيى يكمل :
- إلم ترمي يا رجل من مجيئك إلى منزلنا الهادئ ؟
- إنه هدفي ... فأنا مثلكم عندي هدف . فإن لم يكن لي هدف , فماذا يثبت وجودي ؟
فانتبه يحيى لكلامه فسأله :
- هذا الهدف ليس من صنعك , لقد خُلقت به . فما الجدوى منه ؟
قال عيسى ليربك الموت متسائلًا :
- و أين ستذهب أرواحنا إن تركناك تسلبها ؟
أخبره على الفور :
- ليست الإجابة عندي ... فأنا هنا لأقبضها .
فخفت الهدوء في روح يحيى فقال :
- لن تأخذنا , فلم يحن موعدنا بعد . أمامنا الكثير لنحياه . الجزيرة مليئة بأناس ينتظرونك , فلِم لا تذهب إليهم ؟
رد عليه عيسى بدلًا من الضيف :
- لأنه لا يحب المباغتة . خسيس كالضبع , لا ينقض على فريسته بنبل , بل ينتظر حتى ينل حصته مما تبقى من أرواحنا .
كان الموت على وجهه علامات المتعة و في قبضة يده نردًا أخرجه لتوه , فأخذ ينظر لهما بعدما أخذا يتكلمان دون توقف , ظننًا منهما أنهما قد يخدعاه و يأخرانه . أخبرهما مقترحًا :
- ليس لي حاجة سوى بقبض روحًا واحدة من هذا المنزل , فهلا تعاونني على هذا ؟
بساذجة و طيبة سأله يحيى  :
- أي روح ستأخذها ؟
عيسى في سكون تام و هو يأرجح كرسيه و نظره متربص بالضيف , يقول :
- سنسلب نحن روحك .
أمعن الضيف النظر في عيسى , ثم انفجر ضحكًا ليقول ساخرًا :
- و من سيحل مكاني ؟ لنفكر سويًا ... هيا فكر يا يحيى , بدلًا من إخفاء الخوف البادي على روحك ! هل تظن أن عيسى قد يتمكن من إيلام أحدهم بحقيقة الموت ؟ فعلى حد علمي , و كما تقولون , أنا الحقيقة الوحيدة الموجودة في تلك الغرفة الآن .
صمت الجميع , ثم نظروا إلى الإناء الذي ينفث هواءً ساخنًا , فقال الموت لهما :
- هل تفضلون أن يختار هذا النرد من سيموت أم يضحي أحدكما لأخيه لينعم بحياة جديدة , يتزوج و ينجب و ينعم بمثل هذا المنزل و تلك الحظيرة الجميلة دون أن يقتسمها مع أحد ؟ الجوع ليس حاجة بل دعوة إلى رذيلة تدّعي العِفة . ما ألذ الطعام المقنّع بوجه العدل ! هذه آخر مرة ستتقاسمان فيها رأيًا , فحاولا أن يكون قراركما سديدًا .
قال يحيى مترددًا :
- لا يمكن لك أن تترك النرد يحكم بنهاية أحد , لأن هذا عبث لا يفسره سببٌ . الوصية تنص على أن نبقى سويًا . سنموت سويًا , هذا ما أوصانا به أبونا , لن ينل منا الموت سوى سويًا . لن يرى أحدنا العالم الآخر سوى مع أخيه . لن يحلم أحدنا بالآخر و يذهب لدجال الجزيرة ليفسر له هذا الحلم . لن نشك. سنعرف فقط حقيقة من كنا و من سنكون . لن تخيّرنا , فأنت نفسك لا تملك من أمرك شيئًا .
ضحك بثقة ثم توجه بلسانه ناظرًا نحو النيران و في يده النرد , ثم قام من جلسته فجأة و ألقى بالنرد في النيران لتلتهمه , ثم أخبرهم :
- إذن لن تدعا الحظ يحكم و ستتركون لنفسك الحق في تحديد مصيركما ؟
زعق عيسى و لكنه كان يمدد ذراعيه على الكرسي الخشبي الذي يتأرجح و لكنه كان يؤلمه بشدة و فوقه كان نور المصباح مضطربًا و إن ظل مسلطًا عليه , حتى يختلط على الناظر المشهد , فلا يعرف إن كان النور يشع من المصباح أم هو قادم من تحت رأسه الذي تتوّجه الشكوك , ليقول :
- الحظ هو الإنصاف بعينه . الظلم قد خمّر حكمك الذي لم يصدر بعد .
فلم يهتم الموت لما يُقال و سألهما :
- من يستحق أن يعيش منكما ؟
خاف يحيى و انطلق منه لسانه مباغتًا عيسى الممد على خشب الكرسي الذي حمله عن أبيه , فقال :
- أنا من أريد أن يعيش ...
بات بكلمة وحيدة خائن . فنظر إليه عيسى و أخذ يبكي فجأة , فأردف يحيى قائلًا في أسى و يأس :
- لا أريده أن يموت ... أرجوك , ليس عليّ أن اختار . أنا لا أخشى الموت , لكن هل تضمن لي أن هناك مكان ما ستحلق فيه روحي ؟
قال الموت عاجزًا :
- لا أضمن لك سوى النهاية . النهاية المُستَحقَة .
عيسى داهمهما فقال و قد خلع عن نفسه رداء التعفف :
- أنا أريد ألا أموت ... لا أرغب في إنهاء حياتي الآن . هناك أشياء , أريد أن أفعلها , أريد أن أغيّر هذا البيت من الخشب إلى الطوب , أريد أن أصمم مدفأة بدلًا من ذلك الحطب الذي سيأتي وقت و ينفذ من تلك الجزيرة . أريد أن أهاجر تلك الجزيرة , و أذهب لقرية , أريد أن أنعم بزوجة أعاشرها و أنجب أبناء يكترثون لأمري أكثر مما يكترث به أخي . لا يهمني ما سيؤول إليه الأمر حين أموت , لكن على الأقل , يجب أن يحيى ... جسدي ثم عقلي . حينها لن أتمرد عليك , حينها لن تحتاج لنرد لتقرر من منا يستحق الموت .
قال يحيى و هو في ثورة عارمة :
- الآن تنسحب و تهرب كالغنم . الآن تهرول قبل حتى أن تسمع صوت الضبع . صدقني أيها الضيف , اذهب به بعيدًا , فمثل تلك الحياة التي يرغب بها , لا يريد منها سوى لذة مؤقتة . اتركني أنا , فأنا أبحث عن خالقي , هل تعلم لِم بعثك الآن ؟ هل يريد مني لقاءه ؟
لم يجبه الموت , فسأله عيسى و هو يستعيد هدوءه بعدما ثار يحيى و أظهر ما أخفاه من نوايا ناحية أخيه :
- إن كان الرب موجود , فما حاجته بك ؟ ما حاجته بي ؟ ما حاجتك بنا ؟ هذا الهزل لا طائل منه .
فرد الضيف بثبات :
- لكنك لن تتمكن من نكران وجوده .
فقال عيسى :
- الرب عندي هو الصمت .
فسأله يحيى :
- لكن للصمت معانٍ جمة . فما هو نوعه ؟
رد الموت عليهما و عيونه تمتلئ بغيوم سوداء تنبعث من الحطب المحترق :
- قد يكون الصمت ... لا مبالاة . قد يكون أسى و شجن . قد يكون ثورة مكبوتة . قد يكون إشفاق لحالنا . قد يكون حتى هذا الصمت ... هو غياب الصمت نفسه . لكن هل يمكن أن تجمع بين علامة الاستفهام و الموت في سؤالٍ ما كما تفعل معي . أنا عن نفسي كادت تنال مني الشفقة رثاءً لحالكم , فالنزاع هذا منذ أن وطأت قدمكم أرض المعاصي وفي النهاية ... ستنعمون بصحبتي مهما حاولتم .
في يأسِ تام , أومأ عيسى برأسه :
- ستأخذني أنا ... فأنا أريد الحياة . أنا الآن ثمرتك المحرمة , ستأخذني لأنني أريد عكس ما ترغب أنت .
الموت بات مرتبكًا . لا يعرف روح من سيحصدها . تمنى لو أنه غير موجود . استغاث بربه فلم يسمع سوى الصمت . أخذ نور وجهه يخفت , أما المصباح فأخذ يشع نورًا خجولًا من فوق عيسى و النيران من خلف يحيى تتمايل برقة و تنهش في الحطب كصقر يهبط ليحلق بفريسته الجريحة . الريح لا تزال تدوي والصمت مطبق . صمتٌ لا يخالجه أزيز الإناء المتجمد الآن . صمت بيتهما يعبقه صمت البيت المهجور ...

vendredi 30 novembre 2018

الحلاق المجنون



أُمسك بين يدايّ رواية لكافكا . اقرأ و أخذت عيوني المرهقة تشتكي حتى كادت تبكي . سواد يطوّق خيالي الخالي . الغرفة ضيقة . أثاث متناثر .. كرسي خشبي غير مريح متسمر أمام طاولة من الحديد المخلوط بنقش نحاسي بخس الثمن , تعلوه قشرة باهتة من الذهب . الكتب مراتصة كالهرم الأكبر فوق بعضها البعض . اللون الأسود يجعل عنوان الكتب مختلط عليّ . أمسك بين يداي رواية لكافكا . يقول المترجم في مقدمته عن الروائي , أنه مثلي , كان طفلًا يعاني من سلطة غاشمة . يضربه أبوه في غلظة و يعنّفه حتى لاذ كافكا بالفرار من الدنيا أخيرًا . لم يشارك المترجم شعور كافكا الذي أوصله لي . كان كافكا يصرخ طيلة الرواية , كالسجين . سجين في المطلق . لا يكف في كل سطر عن إزعاجي . هناك كتب أخرى لهامنجواي . تُرجم اسمه إلى هامنغواي . لا أرى فرقًا . على الناحية الأخرى من الغرفة , تجد كتب متناسقة الألوان متراصة كسور الصين العظيم . تسند بعضها البعض في قوة متناهية . كانت تلك الكتب تغري عيون من يزور غرفتي . تعمدتُ أن اعتني بألوانها خير عناية , فمن سيستعير مني كتاب لن يُجذب إلى كتبي سوداء الغلاف ككتب ديستوفيسكي أو أورويل . الغرفة بها دولاب . يكتظ فيه كتب بالية قديمة , أحرص أشد الحرص على اقتنائها . لن أبيعها , بل سأورثها لابني . أمسك بين يداي رواية لكافكا . سمحت لنفسي بنسخ جملة من الرواية التي اقرأها الآن ... أبحث عن قلم ... ليس لدي سوى هذا القلم فارغ الحب...
جئتُ بقلم جديد . بداية جديدة . سأكتب قصة الآن . سأحمل بين يداي رواية كافكا . أقلدّه . إنه يهوى الصخب . مزعج في روايته . واضح جدًا لحد الغموض . كاف.... إن القلم لا يعمل ... سأبدله الآن . سئمت العيش وحيدًا . لا أملك ابنًا . فقط أمسك رواية لكافكا بين يداي ...
طرق أحدهم باب غرفتي . صوت عذب يقرع الباب و يناديني باسمي ... فرانز . قمت من سريري الحديدي الذي جعل ظهري يشبه هضبة ملساء غير منتظمة . سمعته من هناك .
دخل فقال مباغتًا إياي :
- فرانز ... شاب , أصلع , عيونه خضراء , يملك شارب ملفوفة أطرافه , رث الثياب , تفوح منه رائحة نتنة اعتاد عليها من قلة خروجه من غرفته , طويل القامة , عيونه واسعة مخيفة تشبه نظرات الشيطان الغاضب , خجول , قنوع بما قُسم له , كاذب , لا يملك أسرة إلا أنه غير يتيم , الأب يكرهه , الأم تخاف الأب فتكرهك , ممل ... معتاد ... جبان ... ساخط للأبد .. فقير القلب .
من المفترض في القصة أن أقدم نفسي بنفسي , لكني إن فعلت ذلك سأكون غير منصف .
لن أخرج من غرفتي مهما كان . دخل هو بعدما يأس من إقناعي بالعكس . لم اسأله من هو .
أزاح الكتب السوداء و جلس قبالتي فأسندت رأسي للحائط و لم أعره انتباه و أخذت اقرأ , فسألني على الفور :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
( أخفيت الكتاب فجأة حين سمعت طرق الباب ... لم أجد أحدًا حين فتحته . ربما كان أحد الأطفال يعبث معي كعادتهم . عدتُ لأمسك بين يداي مذكراته ... )
فسألني من جديد :
- ماذا تقرأ ؟
- أمسك بين يداي رواية لكافكا ...
فما كان من هذا الشيطان إلا أنه دفعني لداخل الشقة . لم أجد نفسي إلا ملقى على الأرض و لكن لم يسقط من بين يداي الكتاب . كان يبدو على ملامحه الغضب مثلي . سألني :
- لِم هذا الكتاب ؟
- لأنه وقع بين يداي ...
- هل أخبرك قصة ؟
- لا أريد ...
صوته كان مزعجًا . كان صوته يؤرقني كصوت ضميري .
- إذن فلنفترض أني أعزف لك معزوفة لشوستاكوفيسكي ( والتز رقم 2 ) . تلك المقطوعة التي تعزف في بهو قصر بيرمنجهام و قصر فرساي . مقطوعة تسللت إلى أذن ملوك و أمراء غزوا العالم . امبراطور كنابليون يعشق الموسيقى . هوغو ينظم الشعر و كان شديد البراعة . ماذا كان يبرع فيه كافكا ؟ الموت ... حتى في هذا تفوق عليه الكثيرون .
- الخيال .
- كان خياله مزعج و كئيب سوداوي لدرجة مزعجة ... مثل جملتي تلك .
- هكذا كان يرى الدنيا . مثل نيتشه . فقد نالت منه أشد النيل .
مدّ لي يده ليساعدني على النهوض ثم سألني :
- لِم تقرأ له تحديدًا ؟
فرددت ببلاهة :
- و لِم لا ؟
- و لِم نعم ؟
فسألته في غيظ :
- لِم ترهق ذهني ؟
قال الشيطان بعدما وقفت على قدمي في وهن :
- لِم تسألني ؟ لِم فتحت لي من الأصل ؟
- لأنك طرقت الباب و قد خِفت أن تكسره , فيتهيأ لأي أحد أن باستطاعته الإقدام على احتلال هذا البيت , و سرقت ما تحوي غرفتي من كتب .
- قد تبني بعدما أكسره خيرًا منه .
- ليس عندي وقت . فأمامي ألوف الكتب مما لم اقرأها .
- هل يمكنك أن تتذكر أيّ مما قد قرأت ؟
فحاولت ثم نظرت نحوه :
- هناك قصة بعنوان ( الحلاق المجنون ) ... هل تريد سماعها ؟
صمت مقيم , كأننا بتنا في غابة فسيحة مهجورة , لا نسمع سوى حفيف أوراق الكتب بالداخل ...
( ما هذا كله ؟ ماذا يريد هذا المسخ أن يخبرني به  ... هل فعلًا هو مختل كما يقولون ؟ هل انتحر كما يُشاع أم أنه قتل ... ؟ تلك الشقة مريبة , سعرها المنخفض رغم وجودها في مدينة بارعة التألق كبراغ  ... في شارع كارلوفا ... الملتوي المؤدي إلى ميدان المدينة القديمة الذي أخذ شكل متوازي أضلاع مشوّه ... )
حدجني بنظرة يائسة فجأة حين لم أبدِ أي اهتمام بسماع تلك القصة . لقد تخشبت عظامي و تحول لساني لقطعة من رخام آلهة إغريقية دفنت في قاع محيط هادئ .  بعدما دفعني , أخبرني أنني قد تسببت بصمتي هذا في مقتله . لم أفهم و لم اسأل , فكان الجنون يخيم كسحب ديسمبر الثقيلة على عقلي . براغ حينها كانت صامتة . تنتظر مني أن استفهم فلم يكن بمقدوري استبعاد احتمال جنوني . لكن ما أدراني ... ماذا حلّ بي , إنها تلك اللحظة التي يتساوى فيها كل الناس , فلا تجد للجنون و التعقل وجود . إن عقلي بات مفتوحًا على مصرعيه مثل نوافذ غرفتي . شيءٌ ما يمنع إدراكي لتيقن ما إن كنت أحلُم أم أنني أهلوس . صوت مقطوعة أخرى , أوبرا تحكي ملحمة أوديب , عويل من هنا و هناك . أذني قد علق بها صوت الشيطان الذي خرج لتوه و تركني أكمل الورق . الآن الموسيقى تتسارع ... تجري جريان الدماء في عقلي الذي أخذ يستعيد همته و قلمي أخذ يجري على الورق الفارغ . وجداني حينها لم يكن موجودًا , سالت منه العاطفة حتى صُفيت كدماء البوهيميين في معركة الجبل الأبيض على أطراف مدينة براغ . أمسك بين يداي برواية لكافكا . لاستلقي بها على سريري , اقرأها و أنا في حيرة بين ماسأة , تهكمه عليها , صفحه عمن يؤذيه ,  سخطه المنصب على نفسه الهزيلة التي لا تبرأ ذاتها مما قد فعلته بها ظروف الحياة الطاحنة . فتشعر للحظة أنه يستحق ما آل إليه . الموسيقى لا تنقطع من المنزل . أخرجت رأسي من نافذة غرفتي و ما زال كافكا بين يداي . رأيته ... رأيت الشيطان من جديد . ينظر نحوي و في يده نصل يلمع كلمعان عيون آدم حين رأى الشجرة المحرمة . لا يحالفني الفضول اليوم , لكنني آثرت أن أعرف ماذا يحمل هذا الشيطان وراء عيون اللامعة الخادعة . جسدي يرتجف مثل الساعة الفلكية و لكنه كان خاشعًا مثل منحوتات الرسل الذين حملوا بعد المسيح آلامه . الشيطان ينتظرني في لهفة . سأنزل له الآن ... سأعود بعد قليل لأدون ما قاله لي ... لعل القلم يتحمل ما سيكتب .
( نزل فرانز و كانت الساعة الأولى بعد انتصاف الليل , براغ في العادة مدينة خائفة , كالمتحف لا يريد سوى زوار فلا يقطنه سوى من يعتني به و لا يتجرأ أن يعبث بإحدى محفوظاته . استيقظت من غفوته مع كافكا و لكنه لم يترك الكتاب , قطع جزءًا من آخر صفحة قرأها في الرواية ليعرف أين كان يقف .... حين رأه الشيطان ابتسم و أخذا الاثنان يتمشيان في ألفة غير مبررة , كأنهما أبرما هدنة مدى الحياة ... هدنة وقع عليها هابيل و شيطان قابيل ... آدم و إبليس ... رسل المسيح الاثني عشر مع الروم قبل عشائهم الأخير ... )
لقد أخبرني أننا سننزل من جديد ليريني متحف كافكا , الذي لم أكف عن التحدث عنه طيلة الليل . قال لي هذا الشيطان فجأة :
- سأدعك تكمل ما تحكيه لكن ألم أثر في نفسك الفضول لمعرفة قصة ( الحلاق المجنون ) ؟
قلت في وجل كطفل يحلم بقصة ساذجة خيالية ذات نهاية مرضية :
- طبعًا , لكني كنت أحمل بين يداي رواية لكافكا ... يمكنني الآن أن احمل عنك عناء إصرارك هذا و استمع في إنصات تام لقصة ...
كان كل ذرة أكسجين تحبس بين أنفي المتجمد ترفض الخروج حين انقبض وجه الشيطان . بدأ يحكي فإذ به يقول :
- في يومٍ ما , كان هناك حلاق يقطن تشيكيا , و تحديدًا تلك المدينة براغ خلال ولاية ردولف الثاني  , سعيدًا عكسك و عكسي . لديه مكانة إجتماعية متوسطة لكنها اتاحت له أن يحظى بحب الطبقة العليا من الناس و جشعه جعله يطمع في المزيد , فنال من قلب الورع الطموح و اختلس الطمع منه زهده بسبب أنه لم يكن يحصل على ما يكفيه منه مال ليصل إلى أوساط أغنياء حي المدينة القديمة . ففي يومٍ من الأيام , تعرف على خيميائي قرر وقتها أن يحلق له هذا الحلاق , كان هذا الخيميائي قد تمكن من إقناعه أنه بين ليلة و ضحاها سيغدو من أغنياء أوروبا كلها بل و العالم القديم بأسره . لمعت الفكرة في عقل هذا الحلاق فصفى أعماله و أغلق حانوته الذي يدر له دخلًا لا بأس به . حوّل منزله لمصنع لخلق الذهب . في بادئ الأمر , تمكن هذا الخيمائي و الحلاق من أن يحصلا على ذهبًا خالصًا بأساليب محفورة في مخطوطات غريبة الشكل قد آتى بها الخيميائي تشبه تعاويذ تحضير الجن و شياطين جحيم دانتي . بث هذا الرعب في قلوب بناته الثلاثة و امرأته , فلم يكن يقتنعن بما يفعله هذا الحلاق الخرف , الذي وقع على وثيقة تجعل منه عبدًا بصيغة ما للخيمائي . باع نفسه لشيطانه . سرق منهن كل ما يمتلكن في سبيل تحضير مزيد من الذهب , فلم تعد الصيغة تعمل كما كانت ذي قبل . حينها باع المنزل بناءً على تعليمات من الخيمائي طمعًا منهما أن يشتريا مخطوطات من بلاد الهند ستعينهما على تحضير الذهب , فعندما رفضت زوجته , سدد لها اللكمات حتى كاد يفقدها للأبد . باع المنزل , و طردهن منه و أعطى المال بأكمله للخيمائي و توسل إليه كالمدمنين ليرجع له ما فقد . لم يكن يعلم أنه حينها لم يعد يمتلك حتى نفسه ليبيعها . بعد مرور بعض الأيام , جاءه الخيمائي و أخبره أنه عليه التصرف في المزيد من المال , فمن سيعطيهم الصيغة النهائية يطلب منه نقودًا , و لم يستطع أن يناقشه في تلك المسألة فالمكسب الذي سيعود عليهما سيعوضه عما قد قامر به طيلة حياته و أزهقه . باع الحلاق زوجته و بناته الثلاثة في سوق النخاسة , بسعر زهيد و لكنه كان يفي بالغرض . الآن لم يعد يملك شيئًا , انتظر الحلاق الخيمائي في موعد قد حدده الأخير في شارع كارلوفا , و تحديدًا  أمام هذا المنزل . لم يظهر ذلك الخيمائي أبدًا , حتى جنُ جنون الحلاق , عندما علم انتحار زوجته و بناته من أعلى سور في براغ و انتهى بهن البؤس بدماء لازالت عالقة أسفل هذا الجسر ... شاهد الحلاق بناته ملقيات كقطط شاردة و زوجته بوجهها الأبيض تعبث بها غربان جائعة تنهش في جسدها الذي مزقه الزبائن في سوق الرقيق . رجع الحلاق بعد انتصاف الليل و في يده لا يحمل سوى نصله الحديدي الحاد , أخذ يطلب من المارة و عشاق المدينة يوميًا أن يعطوه ما يكفيه ليأكل ... كسرة خبز ... و مع الوقت لم يعد أحد يعطيه حتى الماء , فهزل جسده حتى بلغ مس منه شيطانه و شرع بنصله يؤذي كل من يتمشى في شارع كارلوفا . حتى بلغ عنه و جاءت مجموعة من قوات الشرطة و لقى نحبه على يديهم . ظلت عيونه رغم موته لا تنغلق , عيون شيطان متيقن من عذابه متلذذ بما فعل , ملقى على ظهره و ينظر إلى السماء في سكون ...
( حينها أخرج النصل الخاص به و أخذت أدقق فيه لأعرف ... أنه عرفني , عرف أنه أنا ... أنا الحلاق المجنون الذي قتله . فستجدني انتظرك كما انتظرته في شارع كارلوفا , فلن ترحل من ذلك الشارع دون أن اتملك روحك كما فعل الخيمائي معي ... ها أنا أكمل ما دونه هذا الشاب الساذج الحزين ... براغ سيدة ترتدي السواد لتبدو أنيقة لكن ما تظهره ليس سوى الجمال الذي يخفي ورائه شراهة الناظر و لهفة المنظور إليه ... )

dimanche 14 octobre 2018

لا أعرف !



إنها الخامسة صباحًا , وجدتُه ميتًا , مُلقى على بطنه كحيوان نافق  في إحدى الأزقة  , يعبث به كل من شاء . شتاء ببرد قارس و سماء ملبدة بغيوم متكاسلة ثقيلة , طريق مزدحم , صفارات الشرطة تحيط بأذني من كل اتجاه .
هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة باسئلتها . فغالبًا , الحقيقة هي القصة الأكثر إقناعًا .
ذهبت و صرت أسير , دون وجهة . اتذكر الآن , شكل الجثة . يخرج منها رائحة عفنة لا تقدر أنف بشر أن تتحملها . يحيطها بركة من الدماء اللزجة , المتجمدة . على الأرجح , لقد مات هذا الرجل منذ وقت ليس بالقليل . أمر الآن وسط وجوه لا تطالعني . أصبحت وحيدًا . للحظة أشك أني الجاني . لم يتملكني الجوع . أصبحت شرهًا لمعرفة الحقيقة , لكني خائف و للغاية . هل كان يخشى هذا الرجل الموت حين قُتل مثلي الآن ؟ ماذا يخشى الموتى بعد وفاتهم ... الجحيم ؟ و ماذا يخشى أهل الجحيم بعد نيران تعذيبهم ... الخلود ؟ و لِم لا نعتاد الخلود في العذاب ... إن كنا معذبين في الأرض أًصلًا ... عذابٍ عبثي ؟
بعد مسيرة نصف الساعة . دلفت إلى حانة , كانت يداي ترتعشان . كانت الحانة مكتظة بالناس , وجوه عابسة  مثل الصخور و الأشجار و الثلوج . كانت هناك فتاة حمقاء لا تكف عن النحيب , و ظل صوتها مزعجًا لحين غادرت  . و لكن مع الوقت , اعتادت أذني النحيب و تجاهلها عقلي . قفز إلى ذهني , أنني احتاج إلى كأسٍ من الخمر , أسدل به الستار على ما ممرت به لتوي . جلست فوجدتها أمامي , فتاة في الثلاثين , شقراء , مثقوبة حلقة أنفها , يلف الخلخال كعبيها , ترتدي بنطال رياضي أبيض مسطور على جانبيه خطين أسودين , و قميص يشف محاسنها . كانت براعة الحسن و عيونها تشع طاقة . صبت لي كأسًا فسألتني :
- هذا الوجه الذي ترتديه ... وجه خوف , لن يجعلك تستمتع بكأسك الأول .
فرمقتها بنظرة لا تنم عن شيء و قلت :
- لقد رأيتُ جثة نافقة لتوي ... في الزقاق المقابل .
فردت قائلة :
- هل أنت من قتلها ؟
فقلت :
- هل أبدو لكِ قاتلًا ؟
فشربت كأسي الأول و قالت و هي تصب كأسي الأول و كأسها الثاني :
- هل تظن أن القتلة تحمل أيديهم الدماء ؟ القاتل هو الشخص الوحيد الذي يملك يدين تشبه أيادي الملائكة .
- إذن فإنكِ تظنيين أنني فاعلها ؟
- لا يهم ما أظن , الأهم هو أنك واثق من حقيقة نفسك .
كان شيء ما بداخلي , يجعلني أريد أن أكمل حديثي معها . فخير من تحدثه , يكون من لا تتوقع من أين تأتي أفكاره .
شربت من الكأس قبل أن تشربه هي , فما إن انتهيت . ذهبت لتصب كؤوس أخرى .
كان يمكث جواري , شاب في مثل عمري , حوالي الأربعين . سألني :
- هل ستشاهد مباراة اليوم ؟
- لست من هواة الكرة . بوجهٍ شاحب و ذهن مضطرب أخبرته .
صمت للحظة و قال :
- حاول أن تجد فيها المتعة , صدقني هكذا هي الحياة . إنها قد لا تفهم لكن هناك سحر بها يأسرك و يوفر لك الدافع لمعرفة المزيد .
فجأة شعرت أن هناك شيءٌ مريب من حولي . لِم أشعر فجأة أنني محاط بفلاسفة و عرافين ... يرون ما لا أرى . هل رأوا الجثة المتعفنة ؟ كان هناك غصة في صدري . هذا السر لا أقدر أن أبوح به لهم , فقد يتهمونني أنني القاتل و بصمتي سأكون أنا القاتل الجبان أو المتذاكي الأحمق . ماذا أفعل الآن ؟
ما زال أمامي خيار أن  اتيقن من عدم ارتكابي لتلك الجريمة . هذا سيتم عبر تذكري أين كنت قبل الساعة المشؤومة .
لن أقدر أن أعود أدراجي الآن , فالزقاق يقع جوار منزلي . و إن عدت يجب أن أملك سيناريو محبك جيدًا في حال سألتني الشرطة .
بدأ رواد الحانة في الانصراف . كانت الفتاة المشغولة , تذهب و تجيء بين الفينة و الأخرى .
كنت أنا بمفردي , شربت حتى كدت أثمل . لا أثمل بسهولة بالمناسبة . امتلئت مثانتي و قررت أن أفرغ ما فيها .
الساعة على الحائط كانت الخامسة !
نظرت إلى ساعة يدي , فكانت العقارب متوقفة عند الخامسة .
دلفت إلى دورة المياه , كانت الرائحة كريهة لدرجة لا تحتمل , فالغائط يغطي أرضية الحمام . كانت الصنابير صدئة , يصعب فتحها , كحفرة المجاري يعبث فيها من القوارض من كل نوع كما شاءت .
هناك شيءٌ ما جعلني أدلف للداخل و أن اتحمل هذا كله . الفضول و الرغبة في المعرفة قد يدفع بنا إلى حافة جبل من جمر لا يكف عن الاشتعال .
دلفت و تقيأت ما في جوفي , ومن ظهري فجأة قبضت يد غليظة على رأسي المحشوة و عقلي الفارغ و أخذت تضربني بلا هوادة بعد أن أفقدتني الوعي . لم أقاوم , لم استطع ... لم أبالِ .
 بدأت عيوني في التفتح كزهرة خجولة تنظر لتلقى الفتاة الشقراء تحمل رأسي الدامية . كانت تبسم لي , و لم تبنث بكلمة , مدت لي يد العون حتى استقمت و شد عودي و سرت معها كطفل تخلص لتوه من الحبو . كانت ملابسي عفنة إثر الواقعة , اختلط بها البول مع فضلات البشر و بعض الطيور النافقة و لكن لم تتمكن مني الحشرات , إلا إذا نظر أحدهم إلى حالي سيرمقني بنظرة إشفاق و تقزز دون أدني شك .
كانت الحانة على وشك الإغلاق . أجلستني و أخبرتني أنها ستذهب لتعطني ثياب نظيفة و عليّ القدوم غدًا إعادتها لأنها تخص زميلها في العمل , الذي يبدأ عمله في العاشرة  من صباح الغد .
لم انتبه لما قالت و اكتفيت بتبديل ملابسي و لم انتبه إذا ما كان هناك من يراني أم أن الجميع قد رحل . فاختلس سواد عيوني نظرة دون إرادة مني , فلم أجد سواها في المكان . تركتني و راحت تنظف الطاولة المجاورة . قلت لها :
- هل رأيتي أحد يدلف إلى دورة المياه بعدي ؟
كانت منهمكة في عملها و يدها تعبث كما يتوجب عليها لتمسح الكراسي , لتخبرني بسخرية :
- دورة المياه مغلقة للإصلاحات . ألم ترى اللافتة ؟
فسألتها من جديد بلهجة بها بعض الحدة و الجدية :
- هل سمعتِ ما قلت ؟ اسألك ما إن رأيتِ أحدهم يدخل إلى تلك الغرفة القذرة بعدي ؟
نظرت إليّ فجأة و انقطع عملها و مالت نحوي بجذعها و بفمها المضموم و شفاهها الوردية التي اختطفت عيناي , قالت :
- لم يدخل بعدك سواك .
- إذًا أنا من ضربني على رأسي ؟ تظنيني مجنون ؟
- لا , لست هنا لأحكم . أنا هنا لأساعد إن طُلبت مني و أظن أن بارتادك تلك الملابس التي أعطيتها لك  , فإنك على ما يبدو تطلب المساعدة . على أي حال يا صديقي , كلنا بحاجة للمساعدة .

لم اتردد تلك المرة و فقبلت منها أن تمد إلي يد العون . كانت يدها خشنة تشبه أيادي عمال التراحيل أو رجال المناجم . لعلها تمتهن عملًا أخر غير تقديم كؤوس الخمر للزبائن في تلك الحانة الصغيرة القذرة .
قالت لي فجأة :
- لكن أولًا علينا التخلص من الفوضى التي أحدثتها
انقبض قلبي و راحت أنفي تتذكر رائحة العفن المختلطة بفضلات بني آدم و بعض الطيور النافقة , فسألتها على الفور :
- لا تعنين بهذا أننا سندخل لننظف دورة المياه , صحيح ؟
- بالطبع , لا . فتلك غير قابلة للنظافة , تمامًا مثل آثم أدم و شهوته المؤقتة التي نعاقب عليها حتى الآن .
لم أفهم ماذا تقصد . فإن كانت حينها تعني القصة السخيفة المذكورة في الكتب السماوية , فهذا لا يعنيني , فهذا لا يعنيني في شيء . أنا لا أؤمن بشيء . أؤمن فقط بكوني أشك في كل ما حولي . نظرت تجاهها و سررت لأنني لن أدخل تلك المقبرة من جديد و نبهتني أن أنظف مكان المقاعد و ألتقط بعصا خشبية في آخرها قطعة من الحديد , الزجاجات الصفيحية و أضعها في كيس أسود يشبه الكحل الذي تضعه حول عيونها الأسيوية الذابلة .
انحىى ظهري و شرعت بالعمل و خفت الخوف و إن لم يكف قلبي عن الخفقان . عيوني تراقب الأرض التي نال منها البلل و رائحة البيرة التي كانت تملئ فمي و إن لم تمس عقلي بسوء . كان عقلي مقدس , مهما شربت لا أغيب عن وعي و لو للحظة . تصورت أنها قد تغلق الباب خلفها و ستريني مفاتنها , فنظرات الإعجاب و سعيها لمساعدتي , خيّلا لي أنها فتنت لمظهري , رغم أنني كنت رث الثياب و رأسي تقطر منه دماء و إن كانت غير غزيرة و لكن مقززة . كنت أضغط عليها بمنديل و لا أكف عن الشرب حتى يحمي النبيذ الآلم . النبيذ كالحلم , يحميك من ضراوة واقعك , لكنه يفتك بك تو استيقاظك ليخبرك أن عليك تحمُل بدل الآلم آلام لا حصر لها .
انتهيت من دوري و عُدت أجلس على مقعد خشبي من البلاستيك مجاور للباب . كانت قد فرغت من عملها و أغلقت الحانة و اقتفت آثري و كانت قد سألتني عن مكان الجثة . لم يمر الكثير من الوقت و لكني لم أرد أن أعود ثانيةً , فعادت الساعة تدق في يدي و تخبرني أنها الساعة الخامسة صباحًا . ها هي الشمس تلوح في الأفق , و لكن كان الشارع ما زال مثل نفسي لا يكف عن الصمت .
ها نحن قد وصلنا ... رأيت الجثة ممددة على وجهها و لا يوجد آثر للشرطة . موت عبثي لشخص لا يآبه به أحدٌ في تلك المدينة المنشغلة ليل نهار .
سمعتُ من بعيد همس أحدهم , كان شابًا مفتول العضلات , يعاني من عرج بسيط , في وجهه ندبة كادت تصل بين عينه اليسرى و فتحة مناخره , كان أصلع و عيونه تشع غضبًا عندما رآني , لم أعرفه قط . لكنني كنت حينها أمام الجثة و لم أفقه من سبيلي سوى الهروب . كانت الشقراء تحاول أن تعثر على دليل واحد لتاريخ هذا الميت ... حافظة ... بطاقة شخصية ... أو حتى صورة له مع أحد أحبائه . لكن الوقت لم يسعفنا . فاشتد خوفي . كان يسير نحونا الرجل ذات الندبة و فجأة بدأ يهرول ناحيتي و أنا لا أفهم من هذا و لِم قد اختارني لتلك المطاردة . كان يهرول ورائي . كنت سيزيف بلا حجر , أهرول و لا التفت ورائي ... لاأريد أن انظر كأوديب ... لا أبالي كغريب كامو ... لكنني كنت خائفًا تمامًا رغم ذلك . لم أفكر أنني بصحبة إحداهن , نسيت و كدنا نفترق إلا أنها لم تسمح لي و رافقتني دون أن تعرفني . كنت ألهث كالكلب الضار الفار من شرطة الحيوانات الضالة . فجأة توقفت . أخذت اتنفس بصعوبة و كانت الجميلة تسألني عن هذا الشخص الذي فقد آثرنا بفضل الأزقة الضيقة و هذا الصندوق الخشبي الذي سمح لنا بالاختباء ورائه .
سألتني بعد ما تمالكت أعصابها :
- لِم يسع هذا الرجل خلفك ؟
- لا أعرفه ... صدقيني .
- لا تعرف ؟ إذن لِم هرولت ؟
- لأنه كما كنت ترين , يسعى ورائي .
- و لِم يسعَ المرء وراء شيء في ظنَك ؟
- لأنه يريده .
- و لِم قد يريدك ؟
- لا أعرف . لعل يريد قتلي .
- كيف لي أن اتيقن من هذا ؟
- لن يمكنك سوى تصديقي .
- لا استطيع .
- إذن عودي من حيث جئتِ .
- لا أريد . فهناك في داخلي ما يدعوني لتصديقك . لكن ماذا سنفعل الآن ؟
- لا أعرف ... لتفكري أنتِ .
- ألستُ أنتَ القاتل ؟ ألا تتذكر من الحادث شيئًا ؟
- أقسم لكِ بكل ما أوتيت من صحة , أنني لا يمكنني حتى أن أقتل الآلم بداخلي , فكيف لي أن اقتل شخصًا لم أره قط .
أخبرتني أن أسير نحو منزلها , فمنزلي ليس بأمان بالتأكيد الآن . سأقضي هذا اليوم هناك و سأغادر متى شئت . فلن يشعر أحد بالراحة سوى حين ينام .
لم يكن يبعد منزلها عن مكان الحادث سوى بعض الشوارع . كانت تقطن شقة متوسطة الحجم , غير نظيفة , دخلنا فوجدت هرتها تجلس على الأريكة لا تتزحزح قيد أنملة و كانت تنظر نحوي في غيظ كالرجل ذات الندبة . كانت سمينة بيضاء , عيونها الخضراء تشبه الصبار , مغرية و مؤذية .
دخلت لتبدل ثيابها و أخبرتني أنني يجب أن أغتسل و أعطتني ثيابًا من عندها . دلفت إلى الحمام الصغير و تخلصت من ملابسي و وضعتها على حافة حوض الماء و أنزلت جسدي تحت شلال المياه الدافئ و أغمضت عيني فعاودت رؤية هذا الرجل العنيف و هو يجري نحوي , و خِفتُ ألا ينجلي من عقلي , فروّضته بلجام جسد الشقراء و وجهها الذي لا يشع سوى نورًا و تخيلتها معي تحت الماء . تمر الماء بين أجسادنا في عبث . نلتصق و لا نوُجد للفراغ مكانًا . كنت حينها أفكر , هل يكون هذا الالتحام بدافع الحب ؟ هل حين كنت أنام جوار العاهرة الروسية و أمرها أن تخبرني بالإنجليزية أنها تحبي و أنها تريدني أن أقبّلها ... هل حاجتي للحب أكثر إلحاحًا من حاجتي المؤقتة للمس جسدها العاري و تصوراتي المراهقة مغلوطة للجنس الآخر ؟
لعلها ليس معجبة بي من الأساس . هل هيأ لي أنها تتبسم لي ؟  و إن كان هذا صحيحًا , لِم قد تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تنتزعني من غفوتي و ارتباكي ؟
دائمًا ما تعبث داخلي اسئلة , سرعان ما تفتح لي أبواب لا تنغلق سوى بالإجابة المعروف لي ( لا أعرف ) . شيطانٌ فقط من قال أنه يعرف . لا أحد على دراية من أمره شيئًا . نقنع أنفسنا بما نريد الاقتناع به . نشبه من يشبهنا , نرفض أن نواجه أنفسنا بما يعيبنا . تمامًا مثلما أفعل الآن , ليت تلك الماء ينكر حقيقة قتل هذا الرجل البرئ !
ليت هناك ذنب يُغتفر , إنني لا أؤمن بقوى أعلى . أحسد هؤلاء المؤمنين بديانات سماوية , أحسد عباد البقر و الشمس ... أحسد من لقى في نفسه إلهًا كفرعون و الإسكندر الأكبر ابن آمون . أحسدهم لأنهم لديهم من يغفر لهم . من يخبروني أنفسهم أنه سيستقبلهم بالتوبة و المغفرة , أنا و شيطانهم سيان , لا يفرقني عنهم سوى سعيه المهدر في محاولة إرضاء من حوله ... إن صحت الرواية السخيفة . لِم قد يتلذذ إلههم بعقاب من عصاه و هو الأعلى شأنًا ؟  و إن كنا دمى يعبث بها القدر كيفما شاء , ما المتعة في مشاهدة ما رُسم مسبقًا ؟
فرغت من اغتسالي و خرجت محملًا بآثام السؤال دون صكوك غفران إجابات مُرضية . خرجت بعد أن ارتديت قميصًا و بنطال لا يناسباني مقاسي . قالت النادلة أنها تخص أحد الرجال الذين نامت معهم من يومين . فسألتها على الفور :
- و كيف خرج ؟
قالت و هي تضحك :
- بقميص و بنطال من جاء قبله .
فلم اهتم و جلست بجوار القط السمين الذي لا يزال صامتًا . فارغ النظرات , لا يبالِ , لا أخشى سوى أنه قد يعرف حقيقتي . حقيقة أنني متورط في جريمة , و قد أكون مرتكبها .
سألتني و قد ارتدت ثياب فضفاضة و شفافة تبرز ما وقر تحتها , لكني كنت مشتت الذهن , فلم تثيرني . سألتني :
- فلنخبر الشرطة .
قلت دون تفكير :
- لا طبعًا .
- و لِم لا ؟ أنت تقول أنك لم تقتله ... هل تكذب عليّ ؟
- نعم هذا ما اعتقده .
- لا يوجد هنا اعتقاد ... هناك حقيقة واحدة , أن هذا الرجل قد قتل  و لم ينتحر , و أنك لست قاتله . هذه هي القصة التي ستسردها للشرطة , أليس كذلك ؟
- بلى , لكنني رغم ذلك لست على يقين من ذلك .
- إذن , اسرد لي أين كنت قبل قدومك للحانة .
شرعت لأخبرها أني أعمل في أحد المتاجر الكبيرة في المدينة التي تعمل 24 ساعة في اليوم , طوال الأسبوع و عملي يبدأ من الثامنة مساءًا لانتهي في الرابعة صباحًا , ثم أعود أدراجي لأنام بعد مسيرة حوالي الساعة لأرفه عن نفسي , فليس لدي ما أقوم به غير ذلك . لست متزوجًا , فالزواج عندي إثم لا يغتفر و يولد هلاك لتلك البشرية التي ينبغي أن نضع حد لجرائمها في حق نفسها . لا أملك سوى تلفاز قديم , أعيش في شقة ورثتها عن أبي , أعيش مع سلحفاتي . فأنا لا أحب الكلاب و إن كانت وافية . السلحفاة هي أقرب الحيوانات إلى قلبي . ليس لدي دخل في حياة من حولي في العقار , أسكن متى يغادرون و أغادر متى يسكنون . أعشق كوني وحيدًا . دخلي يكفيني وحدي . لست شرهًا في الأكل و تتجلى شوهتي في الجنس . فلابد لي أن امارسه مع إحداهن في بيتي , على الأقل مرتين في الأسبوع و في الإجازات يكون الأسبوع مكتظًا و في أماكن مختلفة عبر المدينة أقصد بيوت العاهرات . لست من هواة الارتباط , فقط تنتهي العلاقة بيني و بين الفتاة مع آخر قبلة أطبعها على كتفها و أترك لها النقود على الطاولة و أذهب للحمام لاغتسل و أخبرها أن تخلي البيت قبل خروجي . لكنني كريم للغاية بالمناسبة . أنا نباتي لا أعشق سوى الجزر و الخيار . لست لأني أؤمن بحرمانية ذبح و تعذيب الحيوانات , لكني لا أحب اللحم و الدجاج . أنا أؤمن بشيء واحد : ألا أؤمن بشيء واحد . اتعامل مع الجميع على قدر من المساواة , لا بالعدل . فالعدل مفهوم لا يدعو للمساواة . اخبريني ما العدل في معاقبة مجرم ؟
تاهت فيما أقول و قالت بعد أن قطعت شرود ذهنها بسؤالي :
- أنه مجرم ... سارق ... قاتل ... مغتصب . ارتكب جريمة .
- هل سيكف حين توقع عليه عقوبة بمليون سنة حتى ؟
- هكذا اخبرونا .
ضحكت منها و أردفت قائلًا :
- سأكون صريحًا معكِ . كل ما يعنيني ألا أُعدم لذنب لم أقترفه ... على ما أظن .
- إن ظنك هذا هو ما سيجعلك تسكن المهالك .
كانت تعد الحساء لكلينا و قبلها وضعت للهرة المتكاسلة طعامًا و بجاوره إناء لبن بارد .
أخذت أشرب و أمسكت بالطبق في يدي و كان دافئًا لا بأس به و إن لم يكن ساخنًا بدرجة كافيًا و لكنه يفي بالغرض و على أي حال لم أكن جائعًا .
أخذت تخبرني عن حياتها و إن لم أكن مهتمًا , قائلة باهتمام و عيون تشع نشاطًا :
- ... بالإضافة إلى كوني أرملة و كنت أم لطفلة جميلة , أجهضتها بسبب إهمالي لنفسي . كان لابد لي أن اتخلص منها . فأنا كما قلت لم أكمل تعليمي , و لم أرَ بُدًا سوى أن اعمل كراقصة عارية و كان العمل لمن يحملن غير مسموح به في الملهى الذي اشتراه رجل أعمال سلوفاكي , شهير يمتلك نصف الملاهي في المدينة . كانت أشد اللحظات قسوة في حياتي . أن تفقد حتى الحق في الرفض , فإن أبديت رفضي سأموت , لن يقتلني مثل أفلام العصابات , بل كانت سيتركني حتى أموت . و تعرف أن في انتظار الموت , موت غير رحيم بالمرة ...
كانت ثرثارة . كنت حينها أفكر فيما سأفعل . ليتني امتلك من أمري شيئًا . سرت أبدي اهتمامًا خارجيًا و أهز رأسي موافقًا أحيانًا , متعاطفًا أحيانًا , بالكاد انصت لما تقول .
كنت أريد حساءً أخر , فاستأذنتها للذهاب للمطبخ لأضع المزيد . فلم تمانع . سألتني :
- هل توصلت إلي ما ستفعله ؟ رأيي أن الوقت حان للذهاب لمركز الشرطة . إن صحّ ما قلت فلن يتهموك . و لكن هروبك من هذا , لن يجعلك تعرف حقيقتك و لا حقيقة من يجري و يسعى للقبض عليه . لعله هو القاتل , ألم تفكر في هذا ؟ لم تشاهد تلك الندبة العميقة التي حفرت في وجهه العابس ؟ بالتأكيد أن الشرطة ستميل لروايتك إذا ما وصفت لهم هذا الرجل و لعل له سوابق جنائية .
فكرت و أنا أصب حساء الخضار المائل للأخضر بسبب كثرة وضعها للبزلاء التي لم تكن محببة لقلبي و لكن مع كل حبة بزلاء تنقذني قطع البطاطس بطعمها اللذيذ . سمعت وقع أقدام خلفي و فجأة ذراع ضخم و يدين تشبهنا رأس الطرقة تطبق على رأسي الصغير التافه . لم أسمعها تدوي صخبًا , لعله خدّرها , فهو كما تقول أشبه بالمجرمين . كان يقول بصوت يشبه زئير أسد غاضب من رعاياه في الغابة :
- لقد قتلته و ستقتل على يدي . لن أسمح لك أن تحيا هانئًا أبدًا .
كان أحاول أن أضربه برأسي و لكن كل ما أشاهده في التلفاز الصدئ لم يجدِ نفعًا . فكالعادة , لا يذيعون في التلفاز سوى ما يرضي الخيال , أما الواقع فلا يجب أن يكون ذو نهاية سعيدة . كنت أنادي بصوت زاعق :
- ياااا أنتِ .... ساعديني .... من تكون أيها الرجل ؟ لم أقتل أحدًا ؟
حاولت أن أصيبه بقدمي , فضرب بحذائه الضخم العظم الذي يربط بين ركبتي اليمنى و فخذتي . كنت أتوه و لكنه أخرسني بيده و إن تمكنت من التنفس بأنفي الصغير . كنت في يده كالأرنب في يد الساحر , كالأضحية التي تقدم للإله طلبًا لرحمته . نغسل أثامنا بالدماء ... يا لها من مفارقة !
في النهاية كدت أرى الظلام و أموت نهائيًا . لكنه تركني , و كانت الشقراء أمامي , تنظر إلي و تضحك ضحكة غربية ... و قالت لي و في يدها سكين ظننت أنها قتلت به المجرم :
- أنتَ المجرم , ستموت و أنت تظن هذا . لقد حملت لك الحقيقة . لقد قتلت زوجي و هو الجثة الهامدة في الشارع الآن . الحقيقة التي أمليها عليك هي المطلقة . لست مؤمنًا بشيئًا , فلتؤمن بشيءٍ واحد فقط , أن تؤمن بكل شيء . لن تجد في موتك حتى راحة .
غرست في بطني السكين في برود , و كان الرجل ذات الندبة يقيدني و لم اتمكن من الافلات :
- ألم ترد نهاية لذلك العبث ؟ لك هذا . و لكن هذه هي حقيقتك ... أنت قاتل , و ستظل . لقد أدعيت ما أدعيت , و لكن جسدك يأبى الكذب  كما يأبى الحياة الآن . سلامًا يا هذا ...
نشرة أخبار الخامسة عصرًا بعد هذا اليوم بشهرين :
( قبضت اليوم شرطة مدينتنا على السيدة م. مايلز البالغة من العمر 28 سنةً و عشيقها ب.مايكل المجرم الهارب من عقوبة بالحبس 15 سنة , بجريمة قتل سيدين , الأول و هو زوج المتهمة الأولى و الذي عُثر عليه مقتولًا في إحدى الأزقة و بتحريات من جميع الأجهزة تمكنا من التوصل إلى الجناة و بالتحقيق معهم , تبين أن هناك قتيل آخر ملقى جانب صندوق خشبي لا يبعد الكثير عن مكان الحادث بعدما شككنا أنه انتحر في بداية التحقيقات .... و أثبتت التحريات أن القتل بهدف الاستيلاء على حقيبة حملها الزوج المتهمة و كان يحمل بها تنازل كامل عن كافة ممتلكاته لابنته الوحيدة من زوجته المتوفاة و كان عشيق المتهمة قد ساعدها للايقاع و توريط الضحية الأخرى بإقحام بصماته على السكين المستخدم في الانتحار و قبلها عملية قتل الزوج ....)
 تبدو لكم القصة غير مقنعة ... حاولوا ألا تلقوا مصير هذا العابس الذي مات عبثًا و كفوا عن التفكير .


jeudi 26 juillet 2018

أعداء السماء



ملقاة على جانب الطريق , جثة هامدة دون حتى أن يلتفت إليها أيٌ من المارة . كانت ليلة في شتاءٍ مستبد يحكم بسوطه البارد , أحد أهم ألد أعداء سمائنا هي الشمس التي لم تمر بمدينتنا منذ عشرات السنوات . فالنجم المشتعل على الدوام لم يكف يومًا عن معاندة السماء لدينا .
فلم تستقبل عيوني خيط دافئ واحد منذ ولدت . المدينة لا يباغتها رغم ذلك قطرة ندى حتى .
 فالليل عندنا مقيم و لا يغرب عن أزقتنا الظلام .
مدينة متناقضة كالميت , جسد تلمسه دون روح تعبث بها و لها و معها . لا ألم في الجسد المتصلب ولا يقين منا للروح و لا من الروح لمسارها .
كنت حينها اشتري علبة من الشمع لأشعل بها دياري . فأنا بخيل , لا احتاج الكهرباء في منزلي , مجرد بضع الشمعات أوقد بها لنفسي أثناء القراءة . لم ألقِ الشمع من يدي حينها و لكني وجدتها سيدة مثقوبة الرأس في يدها اليمنى المتجمدة سكين و اليد الأخرى تنطوي تحت جسدها الذي يشبه عود الكبريت المقصوف . كان الفضول يداعبني , فجلست و أجلست الشمع جواري , في وقت لم يمر فيه أحدٌ .
تسللت بالجثة بهدوء ناحية زقاق و كأني الجاني . لم يساورني الخوف حينئذ و لكن سيطر عليّ الفضول .
كانت تحمل حقيبة يد سوداء غير مغلقة , كأن يد اللص التافه
عالقة بها حتى الآن . كانت تبتسم و هي تموت . نظرت إليها و لم أجد داخلي سوى هذا الظلام الذي يحيط بنا . كنت أشعر بأني كذرة الهواء ... هل تعرف كيف هذا الشعور ؟ ... الخفة و الرفعة , هذا ما تظنون ؟  لا , بل إنه شعور اللاشيء . فالهواء مجرد عابر سبيل , يدلف عبر فم شخص يتثاوب ليخرج منه و هو يسعل , دون هدف. لِم من الأساس يوجد هواء ؟ لِم لا نتنفس تفاحًا ؟ أنا أحب التفاح .
هل تحبين التفاح أيتها الجثة ؟ لا تأكليها و أنتِ في الجنة ...
يستمر البحث و لا اسمع حولي سوى صوت الفئران العالقة في سراديب المنازل و على أسقف صناديق القمامة , و بعض الكلاب تعوي , ليثبت هذا الكلب القذر أنه بمقدوره أن يهزم هذا الضعيف . مع من يجب أن اتعاطف ؟ مع القوي الذي لا يعيبه سوى غروره , أم مع الضعيف الذي لا يميزه سوى وضعاته ؟
لم أجد في الحقيبة سوى المزيد من الأوراق الفارغة ... لا يمكنني قراءة ما سطر عليها . كانت هناك ورقة واحدة فقط , استطعت قراءتها . إنها رسالة .
قرأت الرسالة  ( اقتل نفسك بهذا السكين ... )
سألت نفسي حينها , لِم قد أفعل هذا ؟
فوجدت ردًا جاهزًا , و لِم لا تفعل ؟
فأخذتُ السكين من يدها و قتلتني , كانت ميتة سخيفة , فقد شققت رأسي من الخلف . تمدد جسدي جوارها . خرجت بخفة من جثتي الثقيلة و نظرت جواري لأرى المرأة التي ماتت حية تنظر نحوي و تتأملني و على وجهها علامات أثارت في ذاتي التخوف و الحظر .
لم تعرفني بنفسها , قالت لي على الفور بنبرة عملية :
- سنذهب الآن إلى بيتي ... هناك ستعرف ما سبب وجودك هنا .
قلت لها :
- هل دومًا يلزم أن يكون لوجودي سبب ؟
قالت لي :
- هنا على الأقل , هناك سبب . صدقني , سترى السعادة في عيونك التي لم تغادرها الظلمة في لحظات .
لم أرد حينها .. شعرت أنها امرأة ممسوسة . لم اعبأ حتى بسؤالها عما إن كنت في الجنة أو النار .
سألتني في الطريق :
- هل قرأت رسالاتي التي تركتها في الحقيبة ؟
- لا , لم تسطري فيها كلمة واحدة . فكيف لأحد قراءتها ؟
- لكنك قرأت الرسالة الأهم على أي حال ...
- ماذا تحوي تلك الرسائل الفارغة ؟
- كل شيء بذلته في حياته ... قصائد شعر , أغنيات ألفتها , خرافات و حكايات لأناس قد ماتوا ... أضغاث أحلامي التافهة لهم ... تواريخ وفاة أحبابي و ميلاد أعدائي ... أسماء كلاب اقتنيتها ... عدد السيارات التي ركبتها ... جميع المسرحيات التي عرفتها ... عنوانين الكتب ... مجموع ما دفعته على طاولات المطاعم ... لون حذائي المفضل ... مدى كرهي لأختي حين تستعير مني فستاني المفضل ... عدد القبلات التي طابعها المنافقين على وجنتي ... مجموع الساعات التي أهدرتها في التفكير فيما سأقول ... عدد الحماقات التي ارتكبتها ... عدد من أحبوني و لم يتمكن قلبي من حبهم ... عدد من يجبر بخواطر غيره في حياتي ... عدد الحسنات و عدد السيئات التي تمكنت من حصرها ... كم مرة أخبرت من أحب أنني أعشقه ... كم مرة نافقت من أكره و لم أخبره ... كيف تبدو الجنة في خيالي ... كيف أحلم ... بمَ أحلم ... عدد أنفاسي ... و في النهاية ذكرت كم مدينة زرت قبل أن أزور تلك المدينة السوداء .
- و في النهاية متِ كأي شخص تافه ...
شعرت بالسذاجة فيما تقول , فسألتني :
- ماذا تحمل الورقة التي في جيبك قبل أن تأتي لهنا ؟
- قلت ... فارغة , الجانب الظاهر فارغ ... أما الجانب الخفي فهو الجانب الأكثر فراغًا .
وصلنا إلى بيتها , دخلت هي أمامي . لم يهمني تفاصيل البيت إلا أنني رأيت ما اسموه النور لأول مرة في حياتي القصيرة . كما تقول الأسطورة بالضبط , خيوط بيضاء متجمعة في حزمة تحيطك من كل الجوانب , تحاصرك لتخرج من جسدك صورة يتأملها كل ناظر , تكشف قلبك لك ثم لمن يجاورك , تكشف الحقيقة . خيوط رفيعة هشة لا يوجد منها مهرب , لا بداية لها و لكنها تنتهي في خفوت و تحتضر حين يغزو اللاشيء روحك . النور هي الشيء إن غاب حل محله الفارغ . نحن أعداء السماء في مدينتنا .
ثلاث أشخاص يحملون في أيديهم ورق و قلم . قالت لي السيدة الميتة أن لي الاختيار الآن .
هناك ذلك المَلِك الطاعن في السن , ذلك سيهبك الخلود هنا و فقط .
تلك الفتاة ستهبك ما تحتاجه من نور , لنفسك و لتضيء المدينة و لكنك سترجعك للحياة المظلمة من جديد , لكن حين تغادر لا مجال للتراجع , و قد تموت في لحظة ما هناك .
تلك السيدة السمينة , ستهبك النشوة دون ملل , شغف لا يقتله سأم ... فهي قاتلة الاعتياد .
ذلك الشاب , يجعلك لا تندم على شيء , فهو يمكنه أن يعيدك إلى وقتما تريد مرارًا و تكرارًا ... لكنك لن تموت هناك حينها ... ستظل حبيس هذا .
ما هذا العبث ؟ , هكذا كنتُ أخبرها و أنا مشتت .
لا أريد الاختيار . فالاختيار هو الاختيار الوحيد الاجباري أمامي الآن .
و إلا عانيت من كل هذا , من الخلود ... من النور ... من النشوة ... من التكرار ... عدم الندم .
إنها قصة مزعجة , و ستقف عند هذا الحد ... اختاروا لأنفسكم خيار واحد و إلا أخفقتم في هذا الامتحان . 

mardi 3 juillet 2018

رفقًا بنفسك


لقد اشتقت إليها . لقد رحلتُ عنها دون تفسير . في مثل هذا اليوم من عشر سنوات , كان قلبي يتلهف لكي يسمع مجرد نبرة لصوتها . لم أرحل , لقد هربت . لم أهرب منها و لكن من نفسي معها . يا لك من تافه و ساذج ! تعض الآن أناملك ندمًا على ما فوّت . لم تتحمل بضع اللحظات . غادرت دون سبب تقوله . لم أجد حينها كذبة مقنعة تجعلها تصدق أنني لم أرد أن اتركها هكذا . هي سترى ما يطفو من حقيقة أمري ... شخص متخلف و مشوش يهرب دون سبب و نتيجة هذا ستنساني .
هاتفي يرن الآن . إنها تتصل بي . عشر سنوات و لم تمحُ رقمي . جسدي بات كموج يتصاعد ليلتقط غيوم سماوية ثم يهبط ليسمك برمال شاطئ الطمأنينة . أصبحتُ أعمى , فقعت عيناي لكي لا أعذب نفسي برؤياها . لكن قلبي ظل مرابطًا . لم ييأس يومًا منها . كنت أخبره أنني يأست , و أن كل نبضاته مُهدرة , كان يقول لكني أحب أن أظل معها , أحب أن أراها ... اتركنا نحظى بنعمة تأملها . كنت حينها بصيرًا . عشر سنوات من دونها كانت كافية لأكون ضريرًا .
سمعت صوتها فانشرح صدري و ذابت أضلعي المُحاصِرة . أرادت أن تقابلني , لقد قالت أنها تريد أن تقابلني .
تقابلنا في أول مكان جمعنا ... لم أتمكن من مشاهدتها و لكني تخيلتها .
كانت ترتدي الأبيض و الأسود و عيونها البديعة تتأملني كما يتأملها قلبي البصير , بخصلات من شعرها التي أمدت به الشمس و عبّادها , أزاحت ما وقر في روحي من ضياع .
الآن أدركت السبيل . عقدٌ من التيه و في لحظة تجد نفسك قد وصلت لوجهتك التي لم تكن يومًا متيقنًا منها .
كنت أسمع صوتها ... قالت :
- أين عينيك ؟
ضحكت و أخبرتها :
- معكِ .
سألتني من جديد و بنبرة جادة :
- كف عن مزاحك ... ماذا حل بك ؟
أخبرتها :
- لقد اشتقت إلى ... محادثتنا .
قالت :
- و لِم لم تحدثني ؟
- لأني كنت جبانًا ... لكن فلتخبريني أين أنتِ في الدنيا ؟ لا أجد لكِ آثرًا .
- لا تغيّر الموضوع ... ماذا حدث لك ؟
- لا شيء ... لقد وقعت على دماغي ... فضاع نظري , بكل بساطة .
- إذن و كيف جئت إلى هنا ؟ لماذا لم تخبرني بهذا ؟ كنت سآتي لمكان قريب لمنزلك .
قلت بسخرية و رثاءً لحالي :
- أنني صرت ضريرًا فقط , لم أصبح مشلولًا بعد .
ثم ضحكت من نفسي . حينها كنت أريد أن أضمها إلي و أخبرها أنني آسف .
فإذ بي اسألها :
- و أنتِ ؟ أين أنتِ ؟ هل تزوجتي ؟
- لا , بل انتظرك .
انتفض قلبي المضطرب و سألتها :
- تنتظريني أن اتزوج قبلك ... هل هذا ما تقصدين ؟
لم أرى وجهها و لكن الابتسامة جعلت السماء تمطر احتفالًا ليس بكاءً .
فقالت بثقة :
- نعم انتظر زواجك ... أليس في نيتك ؟
- في نيتي ... لكن من سيقبل بمن أضاع نظره ... لسبب ساذج . تخيلي , لقد كان حادث تافه , تعثرت قدمي قليلًا بقدمي الأخرى و هبطت مؤخرة رأسي لتقابل سن الرصيف . تمامًا كالأفلام الرخيصة .
- هناك من ستَقبل ... لكن لا تَخف و ستآتيك في أي لحظة . ألا تذكر حين كنتُ أنا خائفة ... هل تذكر ما كنت تقوله ؟ كنت تخبرني أنني أقوى و سأتمكن من المضي للأمام دون حتى مساعدتك . هل تذكر وقتما حدثتك عن كل شيء ؟ أين ذهبتَ يا ندل ؟ و الأهم ... لماذا ذهبت و أنا في أمس الحاجة إليك ؟
لم أملك حتى الآن ردًا . لا أملك ردًا واحدًا .
- لا أعرف . لكن ما كنت أعرفه ...  أنك دوني لن تتأثري .
فسألتني على الفور :
- و ماذا عنك ؟ ألم تتأثر ؟
- أنا في كل الحالات متأثر ... أنا في كل الحالات ضعيف , و مبالغ في نفسي , و سرعان ما أهرول ناحية باب الطوارئ حتى قبل إندلاع الحريق .
- لكن ماذا فعلتُ أنا ... هل لتلك الدرجة آذيتُك ؟
- ستعرفين في وقتٍ ما ... أنكِ السبيل الوحيد لشفائي من الضرر الذي أصاب عيني ... فكيف للدواء أن يكون داءً ؟
- لا أعرف و لا أفهمك .
- و لا أطلب منك سوى أن تتقبلي عذري عن هروبي , و لكني أجدك الآن تبلين بلاءً حسنًا .
- إذن فالعمى لم يصب عيونك فقط , بل أصاب شغاف قلبك ... أيها الغبي !
لم تتجرأ على قولها من قبل . و تركتها تكمل فتقول بغيظ :
- بلاءٌ حسنٌ . أنت تصدق ما تقول ؟ لقد رحل عني الجميع و لم أملك أحد غيرك يحنو و يُسمِعني كلمات تحتاجها روحي . كنت تشعرني أنني لست بمفردي , كنت أريدك أن تتكلم . كنت أخشى فقدانك . كنت أقلق على غياب سؤالك عني , كنت أخشى أن تفرقنا الحياة , و كنت تخبرني أننا نفترق عاجلًا أم آجلًا . لِم لم تترك الظروف تفرقنا ... لِم تستعجل الفراق ؟ لِم الرحيل مبكرًا ... إن كان حتميًا ؟
أنا منذ ذلك الحين و أنا أشعر بالذنب ناحيتك .
أُعاقِب نفسي على ذنب لا أعرف إن كنت قد اقترفته أم أنني بريئة . هل كنت احتاج لعشر سنوات من أجل إيجاد تفسير لما فعلته ؟ لِماذا ... ؟
اندفعت و قلت :
- لأني كنت أحبك . أحب من لا يحبني كما ينبغي . القلوب و الأرواح ليست بأيدينا , لم يكن من الممكن أن أجعلك تنظرين إليّ كما نظرت أنا إليكِ . لم أكن محظوظًا , فلم أرد أن أصبح تعيسًا . لقد حمدت الله على العمى . أنا الآن في هذا الظلام لا أرى سواكِ . لا أحد يشوش عليّ خيالي . لا أحبط هنا ... هنا في الجنة التي أنتِ ملكتها . لهذا لم أطلب منك الرحيل ... لأني أعرف أنك لن تقبليه بسهولة . لم أرد سوى مأوى يحميني من تهوري و كلماتي غير المحسوبة . كنت سأخسرك للأبد ... مثلما أفعل الآن !
-  من قال أني سأخسرك ؟ كنت أريدك أن تخبرني بهذا منذ عشر سنوات .
- و ماذا كنتِ ستقولين ؟
- لا أعرف ...
- كنت لتقولين ما سيخمد نيران شوقي هذا ... كنتِ ستخذلين أوهامي . حمدًا لله أنكِ لم تخبريني .
- لا تحكم هكذا عليّ ! كف عن هذا ! كنت اتركها لي ... ليتك خاطرت بهذا .
- و ليتك أدركتِ بمفردك !
أمسكت بيدي حينها و بدفء منبعث من أصابعها الحريرية و عذوبة صوتها الذي تحاكيه أبرع الأصوات و هدوء يشي بما حاوه قلبها قالت لي :
- رفقًا بنفسك ... رفقًا بها !
ثم رحلت من جديد .


dimanche 29 avril 2018

الشجرة الكبيرة





وقفت اتطلع إلي هذا الشاب الواقف هناك يستظل بشجرته . كهلًا صرت بعدما حُزت الدنيا بما فيها . كان الليل على وشك السقوط . كنت اعتاد الذهاب للمكان ذاته يوميًا مع زوجتي , التي فارقتني الأسبوع الماضي . كانت جميلة . كانت أكثر مما طلبته في خيالي . كنت أحبها , بل مع الوقت صرنا أحباء . كنت تعيسًا و لكني كنت راضيًا عن حالي . أصبحت الآن وحيدًا . لم ننجب سوى طفلًا وحيد مات قبل أن يطلق للعالم صرخاته الأولى .
هذا الشاب لا يحرك ساكنًا مثلي . هل مات مثل زوجتي ؟ كيف يكون قد غادر الحياة و هو ما زال واقفًا كالشجرة ؟
كانت الحديقة يغادرها الجميع , فمن عادة سكان المدينة النوم مبكرًا . فهي ليس مدينة ساهرة .
أمسكت بعصا اتكأ عليها و توجهت نحوه . كان على قدر من الوسامة لا بأس به , ارتدى قميصًا وردي اللون يشبه تلك الزهرة التي يحملها في يده , أما بنطال فقد عبث به طين الحديقة حتى تحول أسوده إلى بني شاحبٍ . لم يكن ينظر سوى إلى اتجاه واحد . اقتربت منه بخطوات متكاسلة ... لقد مسني الكبر و عبثت بي شيخوختي و لم تكن بالمرة رحيمة . سأموت قريبًا ! لطالما خفت من فكرة انتهاء الدنيا و كثيرًا ما يصيبني بمرارة معذِبة كون أعمالي ستُنسى و سأكون مجرد دعوة في لسان بشر قد يتذكروني .
 لكنني الآن , لا أكف عن الضحك حين أقابل قابض الأرواح ... لقد أصبح صديقي .
وصلت بعد عناء كبير و وقت مر مرور ليس بيسير . ظل الشاب كحائط مشروخ آيل للسقوط . لا تغفل عيونه و لا تنغلق جفونه . أقدامه موحلة في التربة اللينة , حتى ظننت أنه ورقة خريفية صفراء .
قلت له في سكونه هذا :
- يا بني ... أنت بمفردك ؟
قال بحزن عميق :
- دائمًا .
كأنه يحدث أحد غيري . يرد علي و عيونه لا تغفل عن هذا المبني المهجور . هذا المبنى الذي لا يقترب منه أحد في الحديقة .
قلت له :
- ألم تسأم من الانتظار ؟
قال و هو غير مكترث :
- ستأتي ... حتما ستأتي .
قبضت بيدي الهزيلة ذراعه العريض القوي , و أخبرته أن عليه أن يريح نفسه قليلًا . نظر إليّ حينها و كانت عيونه تتوسل إليّ , كأنها سجينته . يحبسها و لا يتركها تغفل . يعذبها دون هوادة .
أخبرته :
- إذنً , من تنتظر , لعلنا ننتظر نفس الشخص ؟
- انتظر من لن تأتي أبدًا .
- من هي ؟ زوجتك ؟ حبيبتك ... أمك ... أختك ؟
- كلهن .
- تنتظرهن مرة واحدة ؟ لِم لا تجعلني اتصل بهم ؟
- لا هي واحدة ... أنا يتيم , و ليس لي أخوة و لا أخوات .
السماء فتحت أبوابها حينها . الأمطار لم تكن بتلك القوة منذ حين . كأنه على وشك أن يخبرني بسر فضّلت السماوات عدم إذاعته . سر أم بكاء أم تعاسة ... لا أعرف بعد .
قال لي بعد أن أجلسني على طينة الشجرة و أملت أنا ظهري المتهالك إلى جزعها الضخم , أحاطت بنا أفرع الشجرة الكبرى و جلست جواري و كأنه يريد أن يفضي . لكن لم يتفوه . قال لي :
- أنني خائف .
- كلنا نخاف ... لكن ما عسانا نفعله ؟
- نهرب ... من موت الدنيا لموت آخر ينهي قصتنا التعيسة .
- لِم تصفها بالتعيسة ؟
- لا أعرف ... هكذا ألفتها يا .... يا ... أنتَ .
- لم تخبرني من تلك التي تنتظرها ؟
حينها صمت ... طويلًا . كأني سببتها , لم يكن يعرف أني أريد أن اتحدث مع أي أحد , لقد غادرني الجميع و لا أريده أن يموت مثلي رغم أنه في شبابه .
فصمتنا و الأمطار قلت حدتها . كان غضبه الداخلي يُصب من السماء .
فقررت أن أحكي له , و إن لم يسمعني , فلقد أغتنمت فرصة التحدث إلى أحدهم :
- هل تعرف يا بني .. ما أسوء ما في الانتظار ؟ اليأس ... و الأسوء من اليأس , هو الأمل الزائف . لِم تنتظر هنا . تلك الشجرة , لا تنتظر أحدًا , أعطتها من روحك القليل و ستجد فروعها ممدودة نحو السماء و ستتحرك إن أمكنها ذلك . التعاسة ليس في الفقدان , بل في بخل عطائك لنفسك .
لم يكترث لما أقول . يا له من بائس آسير لحزنه !
فجأة قال لي :
- هل تريد أن تموت ؟
قلت له :
- ليس اليوم .
- و ماذا عن الغد ؟
- حينها ربك سيسهلها .. و أنت ؟
- أنا أريد أن أموت بالأمس .
- و بعد ما ستموت ؟ ماذا ستفعل ؟
- أنهي ماسآتي , هذه الجائزة الكبرى التي يحصل عليه الأموات .
- و تترك الحديقة ... و الشجرة ؟
- كما ستتركها أنت . يوم مماتك .
- لن أتركها بإرادتي , سأطلب في الجنة أن أزورها بروحي كل يوم . سأطل عليك هنا كل يوم .
سخر مني :
- جنة و نار ؟ لِم نحتاج حياة أخرى ... ألم نكتفِ بما عشناه ؟
- معك حق ... لكنها أمنيتي .
- أرحل يا شيخ ... الليل قد هبط و ليس باستطاعتي مساعدتك و لن أضيع وقتي معك .
كان في قلبي حزنٌ ما . لا أعرف بسبب ما قاله أم أنها عدوى . الأموات يصيبون الأحياء بالعدوى , لهذا لا أحب أن أذهب للمقابر .
لم أقدر أن أقوم ... فحاولت الاتكاء على العصا و غرستها في الطين اللين , و كان المطر قد توقف .
ساعدني في القيام .. شكرني و رجع لموضعه . أما أنا فرحلتُ . سرت بقدمي في الوحل و لكن كنت منتشيًا . لقد تحدثت مع أحدهم . شعرت بنسيم مريح يأتيني , صقيع بدأ يلمس جسدي المتعرق و صوت همس في أذني . كان أحدهم يقترب مني . أسير على مهل , فإذ بأحدهم يهمس و يخبرني , انظر وراءك و تمنى شيئًا قبل أن أسقط ... قبل أن نرحل سويًا ...

                                                  *******

كان هذا اليوم التاسع و الخمسين . شهرين تقريبًا , انتظر موعدنا . اسعى لرؤيتها في الحديقة . اتسمر في مكاني تحت الشجرة الكبيرة كما أخبرتني .
قالت لي قبل أن تستتر :
- انتظرني ستين ليلة , في إحداها ستنال مني نظرة و عناق .
إنها الليلة قبل الأخيرة . عدم يقين تمكن مني حينها و أخبرني أنها لن تظهر . لقد تناستني . المطر هذا لم يذكرها بما بذلته لها . الوردة في يدي لا طائل منها . أحيانًا أراها ... خُيّل إليّ أنها تلك المرأة التي هناك . و لكني لم أحرك ساكنًا . فهي تعرفني و تعرف الشجرة الكبيرة و إن أرادت لجاءتني .
الموت سيأتي قبلها  على ما يبدو .
لا أرى في الحديقة أمامي سوى لون أخضر باهت مائل للأصفر .
أصفر شاحب مثل وجه هذا الشيخ القادم تجاهي . يسير نحوي سير الأموات إلى جحيم النار .

سمعته و لم أرد أن أجبه . سيتحدث معي و لست في مزاج جيد لأسمع و استمع . كل جسدي الآن مشغول بكِ , أين أنتِ ؟ تبقت ليلة واحدة , و قد افارق الدنيا حينها . انتظرها قبل أن تأتي و بعد أن ترحل انتظرها دون ملل . أريدها ... كالجنة المزعومة , لا أريد غيرها . لكن هل الرغبة و السعي وحدهما سيحققان غايتك ؟ لا أظن هذا . 
قاطعني و سألني .. لم أرد . و اسنتده إلى جزع الشجرة . فلا أريد أن يموت و يأخذني قابض روحه معه . فسألته عن الموت ... لأنه أكثر علمًا مني . لم تكن إجابته مقنعة لكن هناك شيءٌ في نفسي جعلني أظن أنها رسالة مبعوثة منكِ ليطمئني أنك بخير و أن مازال في الحياة ما يستحق أن نعيش من أجله . ظل يتحدث و أنا أهيم شوقًا إليكِ . الطمأنينة كانت في وجوده جانبي . 
قرر الرحيل فلم أمانع . ظل يرحل كنور الشمس وقت الغروب حتى اتخفى الضوء من ناحيته . و صار الضوء ينبعث من البيت المهجور . ضوئك أنتِ ... لقد بدأ الحياة لتوها بمجرد نظرك ناحيتي . كنت أجري , حتى وقعت في الوحل . قمت من جديد و أنتِ تقتربين و كدتُ ابكي . لم يكن من المفترض أن يحصل هذا ... لكن خيبتِ ظني . خفت أن أعنقك من كثرة وحلي . فعانقتني .

في طريق عودتي أنا و هي , وجدنا الشيخ قد رحل ... إلى هناك ... إلى الشجرة الكبيرة ... إلى زوجته ... ليسمع صرخات طفله . 

vendredi 20 avril 2018

إليكِ .. فقط

لست أنا من سأخبرها أني على وشك الوقوع في حبها .
جلست إلى غصن شجرة كثيفة الأوراق و غزيرة الفروع , تشتت نظرك عني .
 كان في جلوسي هذا يأسٌ متقع . كنت تجلسين هناك ... كنت تنأين بنفسك عنهم .
سمعت من بعيد أحد ينادي . يا لها من جميلة فقط لم تبلغ من حُسنك سوى أقله ! سألتها :
- من تكونين ؟
قالت لي أنها :
- إلهة ... من السماء .
من السماء ؟  لقد جاءت من حيث آتيتِ !
قلت لها :
- لِم تأتين إلى مَن لَم تصب قلبه أسهمك ؟
أخبرتني :
- لقد نفذت أسهمي بسببك .
- كيف ؟
- بمجرد نظرة يائسة منك نحوها .
- إذنً , لماذا هبطت إلى هنا الآن , ما قيمتك هنا و أنتِ بجواري ؟
- سآخذك معي إلى السماء , لتصبح إلهًا .
ضحكت و قلت :
- هل يمكن لإله أن ييأس .
يريدونني أن أكون إله ... تصوري ! إن بت أنا إله , فماذا من المفترض أن تكونين ؟
سألتها عنكِ و قلت لها :
- لِم لا يمكنك أن تجعليها تنظر إليّ كما أفعل أنا دائمًا ؟ ألستِ إلهة ؟
قالت لي بثقة :
- من يدري , لعلها تنظر إليك فعلًا , بقلبها قبل عينها .
احتارت فاخترت أن أنزع عني رداء الخوف و صرخت فجأة معبرًا لكِ عما أود قوله مليًا , ثم بعثت لكِ قائلًا :
( ... )
ماذا ؟ هل تريدين معرفة ما كتبت ؟ أم أنك لست مهتمة من الأساس ؟
لا أجد كلماتي ... وله ... عابد ... عاصي ... يائس .. بائس ... ناسك ... ناسي ... لاهث ... متحفظ ... سعيد ... تعيس ... غيور ... حريص ... حرية ... فتور ... سفر ... مستقَرْ .
سألتني من جديد :
- لِم لا تذهب فتخبرها الآن قبل أن تموت ؟
فقلت :
- هي أم أنا ... من سيموت ؟
قالت :
- هي .
- هي لن تموت , هي من يبقيني على قيد الحياة ... هي من يبقي للحياة روحًا , إن ماتت مُتِ أنتِ يا إلهتي .
- كيف لك أن تحب من لم تتأملك عيونها ؟
- هناك دومًا ما يجعلني أسير نحوها ... لا منطق فيما سأقول ... لا منطق لشيء معها ... أحبها أو على وشك , هل يمكن لأحد أن يحب من يمقته ؟
- من قال لك أنها تمقتك ؟
- هي لا تحبني كما ينبغي  ... إذن فالمحبة و الكره حينئذ سيان . هل يمكنك أن تخبريها أنني انتظرها هنا منذ دهر ؟
- لا اذهب أنت و قل لها ما يحويه قلبك .
- لن تراني ...
- كم أنت يائس ... ستطيح بفرصتك في قاع نهر يصب في بحر نسيانها .
- يكفيني تأملها ... سأكتب لها رسالة أصرح لها عما يجول في خاطري .
أعطتني الإلهة قلمًا و رسمت بحبر دماء قلبي على سحب سماوية خفيفة .
( إلى من لا تهوى ... أهواكِ ... بلا أمل  ... لكن هذا ما يبقيني حيًا ... )
لن أخبرك بباقي ما كتبت . ستخبرك به إلهة العشق , فهناك الكثير مما أفصحت عنه لها و لن أقدر أن تقرأيه .

إهداء إليك ... و فقط 

mardi 20 mars 2018

في بلد بعيد سعيد

الراوي :
في بلدٍ بعيد لا يسكنه أهلٌ فالعالم كله من ساكنيه , رحلت ( مودة ) إلى هناك بعد أن قرأت
إعلانًا دعائيًا عن هذا البلد السعيد . لافتة كبيرة في شوارع مدينتها الحزينة يحث سكانها التي فاض بهم البُغض و التي سال على أراضيها دماء لأفكار متصادمة لتناقضها مع أخرى . يوميًا تسال دماء و تزهق أرواحًا دون سبب منطقي . فما كان من مودة أن تحلم أن تذهب إلى مكان جديد بعيدًا عن تلك الفوضى .
و ها هي مودة نفسها , ستحكي لكم ما رأته في الجانب الآخر من القصة . فلقد انتهيت أنا من القصة ومنكم .
مودة :
حزمت أمتعتي , و أخذت القطار المتجه لقرية السعادة . إنها بلدة صغيرة بالمناسبة عكس ما يصفها الراوي الذي سبقني ... إنه لا يكف عن الكذب بالمناسبة .
حملت بين يدي تذكرة العبور  إلى تلك القرية و حين وصل القطار إلى مستقره , سمعت صوتًا من بعيد , خافتًا لكن ظل مسموعًا قائًلا :
( مرحبًا بضيوف مدينة السعادة , الأرض التي يتحقق فيها ما لا نجرأ حتى أن نحلم به , انسوا إحساس الفقدان هنا , انسوا شعورالوحدة فأنتم دائمًا ستحظون بصحبة , لم يمر أحد بمديتنا إلا و ظل يحمد القدر الذي أوصله إلى هنا ... على كل الضيوف الانتظار حتى يأتي أحدهم لصحكبتكم لمدة يوم كامل ... نتمنى لكم لحظة سعيدة تكفيكم طوال حياتكم . )
الهدف من إنشاء تلك المدينة هي تلبية طلبات ضيوفها مقابل المال . أنا من عائلة متوسطة الحال لكني أدخرت مالًا طيلة العشر سنوات المنصرمة لكي أحظى بيومٍ واحدٍ كهذا .
قد اخترت شابًا وسيمًا , يُدعى ( خالد ) . كان هناك العديد من الفتيان الذي بلغت بهم الرجولة أوجها . كان يعجبني , فاستقرت عيني و قلبي عليه من ذي قبل . حمل عني الحقائب حين هبطت من القطار . قد عرفته و عرفني . فهو موظف , يعرف زبائنه . لكن هل في ذلك عيبٌ ؟ لا أرى ذلك .
 كان خالد حسن الطلعة و بابتسامته غير المفتعلة غمر قلبي بالحياة , ثم حياني و قال :
- هل تريدين أن نذهب لنسترح قليلًا ؟
قلت على الفور :
- لا سينتهي اليوم سريعًا . لقد استرحت في القطار بما فيه الكفاية . هيا لنذهب لمكانٍ من اختيارك .
أخذني من يدي – يا له من شعور ... كأنه انتزعني من موت محتم , بعثني من جديد بتلك الحركة ! – سيذهب بي حيثما أراد , لا يعني لي المكان كثيرًا الآن . لم أرد أن نكون مثل هؤلا ء العشاق , نتسكع وسط زحام ... أردت أن انأى به و بنفسي إلى سفح جبلٍ ما أو على ضفاف نهر ضيق المجرى تحاوطه صخور لينة , فنجلس إليها كمكوث النحل في قلب زهرة ربيعية عطرة . كل هذا ما كنت فقد أفكر به ... في مجرد ثوانٍ , أحاط بنا الفراغ و اختفى الناس و صرنا وحيدين . فسألني :
- ما رأيك ... هل تمانعي إن ذهبنا على متن بساط سحري نحو الشلالات التي تلوح في الأفق ... هناك , هلا شاهدتيها ! إنها رائعة .
فلم أرد أن أحرجه و قلت :
- لنذهب سيرًا و ندع البساط لخيال الأطفال . السير معك و التحدث عن أي شيء هذا ما أردته .
فلم تختفِ الابتسامة من وجهه ما جعلني أصاب بالريبة . لكن على الفور , انسحبت البسمة منه وجهه و حل محلها الاعتياد . وجهه البشوش مازال حاضرًا لكنه الآن أكثر واقعية . تمامًا مثلما طلبت . صحب قلبي معه ثم سألني :
- ها حدثيني عن نفسك ... ماذا تحبين في الحياة هنا ؟
قلت على الفور :
- كل هذا ...
و أشارت بعيني على ما حولنا .
فقال و قد بدأ أصغر أصابعه يقترب من يدي كأنه يهمس لي :
- و أنا أحبتت هذا كله أيضًا . هل تعرفين لِم أحبه ؟
لم أرد و لكن عيني استفهمت , فأخبرني بحنو لم أره في حياتي من قبل :
- أحبه لأنك في قلب كل هذا . أنتِ من يكسب مكاننا هذا كله الحسن حتى وصل لكمال إلهي يشبه قسمات وجهه و صفاء روحه العطرة ... يا مودة .
كنت حينها فعلًا أكاد أن أبكي فرحًا . كيف له أن يكون صادقًا لتلك الدرجة ؟ تعبيرات وجهه تتغير بمجرد تفكيري في تغيرها . لقد خُلق ليكون زوجي . سكن قلبي و لم أفقه ردًا على ما قاله . أخذنا نقترب فجلس إلى سفح الشلال و أخذنا ننظر إلى السماء الصافية . السحب تتحرك ببطء للغاية , و الشمس خجولة كأنها سئمت القسوة , و القمر في الناحية الأخرى ينتظر من سيدته الإذن ليحل محلها . فالليل على وشك السقوط , الوقت يهرب من بين يدي , ليس عليّ إلا أن أقرب نفسي منه أكثر . أصبعه العالق و الساعي للمس روحي قبل يدي , ظل بيننا عائقًا , فما كان مني إلا أنني أسقط سياج الاحتياط لكي يمر خالد بيده بين ثنايا راحتي . كان جلده بين نعومة مفرطة و خشونة مزعجة , فبات حقيقيًا تمامًا كما تمنيته . بالخطأ أو عمدًا , احتكت أجسادنا ببعضها و نحن نجلس أمام مياه الشلال القوية و المندفعة في غزارة متجهة نحو سفح لا يستقبل سوى العشاق . سألني فجأة ... تمامًا مثلما أراد شيءٌ ما داخلي :
- اخبريني يا مودة , هل تريدين أن تخلدين هنا إلى الأبد ؟
- صدقني إن كان لدي المال الكافي , لأرهقت روحي سعادةً هنا .. معك يا خالد .
- هل لتلك الدرجة تعانين في دنياكِ ؟
- أكثر مما تتصور ... أكثر مما ينبغي .
الموسيقى الخافتة التي طلبتها و أنا أحجز تذكرتي , بدأت تعزف من السماء , كأن القديسين يعزفون لنا .
فقال لي :
- صفِ لي أكثر ما يبهجك ؟
فكنت متحمسة للغاية حينها و أنا أرد ... فها هو يهتم لأمري , فاسندت رأسي إلى كتفه و عيوني سارحة في إنعكاس صورتنا في مياه الشلال و قلت :
- كل هذا يبهجني ... و لكن أكثر ما يبهجني اكتراثك لأمري . أنا في مدينتي وحيدة , من العمل إلى البيت , لا أحدث أحدًا و العكس صحيح . هل أخبرك سرًا ؟  عندنا الناس أصابهم الخرس من قلة الكلام ... فالكلام عندنا أصبح من الكبائر . فهو لا يولد سوى القتل و الكراهية , و أنت أكثر ما يصيب قلبك بالبهجة ؟
- سعادتي في وجودك جانبي الآن ... لا أريد من الدنيا غير هذا , سأظل محتفظًا بكِ في قلبي الخاوي و سانتظرك على باب جنتك بعد حتى أن أموت .
حل الظلام و حان وقت الرحيل . نضب منبع مياه الشلال و باتت صورتنا معًا باهتة . لكن احتفظت بيدنا متشابكين . أخبرني أنه سيوصلني للمحطة و سيظل ينتظرني للأبد .
يا له من يومٍ لم يجرأ عقلي على نسيانه ! أصبح كل هذا في طي الذكرى حتى إني الآن أشك أنه حدث بالفعل . وصلنا معًا سيرًا للمحطة و أمام القطار نظر إلي بعينه حتى بكيت من آلم الفراق ... فما كان مني إلا أني احتضنته و طلبت منه ألا ينساني ... و ها قد أقسم أنه لن يفعل.
أصابني بسُكر الحب و رحل دون أن يخبرني أين سبيل اليقظة منه . عاد القطار بي إلى مدينتي مخلفًا وراءه سعادتي .
الراوي :
بعدما رحل القطار بقليل , أصر المذيع الداخلي إعلانه اليومي : ( عملٌ مذهلٌ أيها الموظفين العشاق . غدًا عطلة رسمية , و قريبًا هناك علاوات لبعضٍ منكم و منكن ... شكرًا يمكنكم الانصراف الآن ) . 

mercredi 7 février 2018

حضور و لا إنصراف



تطل الآن على الحضور و رائحة قذرة تحيط المسرح المتسع , ترتدي قماشة تستر بها شعرها الحريري الأسود .
-كيف عرفت أنه ناعم هكذا ؟
لأن عيني اختلست بعض الخصلات الفارة من محبسها .
كانت حينها عارية تمامًا إلا من تلك القماشة .
سألني شابٌ يبدو عليه الغباء : لِم ترتدي كل تلك الملابس ؟
قلت له بغباء يفوق غبائه : - لعلها خجولة .
اصمت الآن لأصغي فهي تعلن للمشاهدين و فمها مكتوم بداية المشهد :
" أهلًا و سهلًا بجميع الحاضرين , الفقراء قبل الأغنياء ... العاصي قبل الواعظ ... الجاهل قبل المتعلم ... القارئ قبل الأمي ... الأصم قبل المنصت ... الفاهم لكلماتي بعد المفسر لها ... أهلًا بكم في الحفلة السنوية لتوزيع جوائز ما - لم يتحدد لها اسم بعد - في نسختها المائة و الثلاثين .
لن أطيل عليكم في التقديم , و لمن يشرفنا بحضوره لأول مرة ... لا تستعجب من غرابة ما سترى و لا مجال للاعتراض على أراء الحُكام , فأنتم لستوا هنا سوى لتصفقوا , من سيفتح ثغره سيتلقى فيها نار موقدة لا تنطفئ .
الفئة الأولى و الأخيرة : ليس لهم مسمى حتى لا نصنفهم . "
المتسابق 1 ...
يدخل شاب في العقد الثالث من عمره , بلا أقدام , يزحف على بطنه , لا يتفوه بكلمة ... لا نعرف إذا كان أخرس أم أنه يدعي هذا ليربح تلك المسابقة .
تصفيق حار من الحاضرين , وقف أحدهم و لكن لم يتبعه أحدٌ فاستكملت السيدة تقديم المتسابق و هي تقول أنه من عائلة فقيرة للغاية , استطاع أن يكافح حتى وصل إلى ما هو عليه الآن , يعول أسرته بعد وفاة أبيه و أمه , يعمل بورشة حدادة و قنوع باليومية التي يتقاضاها , حوالي الخمسين جنيهًا ....
قربّت المقدمة صحن يحتوي على رملًا ساخنًا و فيه حصى و وضعته للمتسابق 1 , لم استوعب للغاية ما يحدث مثلكم , لست هنا لأشرح ما أراه ... فجأة يقترب من الإناء الموضوع زحفًا و يلعقه بلسانه فيحمر وجهه و يعاني و هو يصرخ ... هل يدّعي ؟ لا أحد يعرف , و إن كان فإنه يستحق التصفيق الذي ناله بعد تلك الحركة . قامت لجنة التحكيم من مقاعدها و صفقت له .
قالت السيدة في الميكرفون : " أداء عظيم يا رقم 1 , و ستنال 5 من 10 . "
كاد المتسابق يبكي لتلك النتيجة , فصفعته على وجهه بكفها خشن الملمس , السيدة العارية قائلةً : " ليس لدينا كل الوقت "
المتسابق 2
سيدة , في الأربعين من العمر , ترتدي ملابس تشي بثرائها , واثقة من ذاتها , عزباء و عقيمة أو لأنها عقيمة . تبنت طفلين وو استطاعت أن تكافح في الحياة رغم الضغوط و التفرقة التي جعلتها تطرد من عملها بسبب مضايقات تعرض لها , تعيش الآن وحيدة .. فأولادها بالتبني قد رحلوا إلى حال سبيلهم و تركوها مع كلبها الذي يحرسها . تبكي كل يوم حتى ضاع نظرها بكاءًا لفراقهم .
أمسكت السيدة بكلبتها و قيدت السيدة بأغلال في أقدامها . نالت الكلب من بين يدي سيدته وأخذت تنحر عنقه كالأضحية . السيدة كانت تقاوم في مقعدها , تبكي في حرقة و اشتياق لهذا الكلب . تبقي و تحاول الصراخ لكن أدركت حينها أن منظمي المسابقة لا يسمحون للمتسابقين أن يتكلموا .
التصفيق في تلك المرة , فاق التوقعات , وجود عامل أنثوي جعل المشاعر تتأجج و بالفعل شرع التقييم سريعًا و نالت النتيحة على لسان مقدمة الحفل و النتيجة :
7,5 من 10 .
ضاعت دموع السيدة و قل حدة التصفيق و كان حينها الاستعداد للقادم جُل همهم . الجمهور دائمًا يطمع في المزيد .

المتسابق 3
رجل , في أواخر العشرينات , تقي , يحب الله , مهمته هداية الناس , لا يكذب , لا ينافق , لا يطمع , لا يزني , ليس كسول , لا يقتل . لا بفارق دار العبادة , يقول أحيانًا أن العمل عبادة و أن الإنسان عليه أن يعمل ليرضي نفسه و ربه . يخشاه شيطانه , فكلما وسوس له لجأ لربه . سألناه من ربك ؟ قال هو ربنا جميعًا .
يعشق تلاوة الأسفار ... أقصد الآيات ... أقصد الأحاديث ... هو يسميها نهج هدايته . فكلنا بشر . لم يعاني في حياته الكثير , إنه يعترف بذلك , لكنه كان السبب في خلاص الكثير من العصاه الضائعين ... بإذن ربه . لم تقرب المعصية حتى خياله , يقول أن الدنيا من صنع الله أو الرب أو الخالق  لهذا يجب أن نكون جديرين بما أمرنا بفعله .
أول مرة أرى الناس متحمسين هكذا لمتسابق , هذا سيفوز بكل شيء . لكن شروط المسابقة تحكم أولًا و أخيرًا . سيخضع لاختبار .
جئنا برجلين و فتاة بهية . الرجل الأول أخذ يصفع الفتاة و لا يكف . وسط ذهول الجمهور , انتفض رقم 3 و اقترب و صار يحميها منه و يتلقى الصفعات بدلًا منها .
لم يصفق الناس و زعق أحدٌ منهم قائلًا " الحرية يا أنت ! " , و أخر يصرخ
" العقاب الآلهي أيها التقي ! " . أما الرجل الأول فانسحب و ترك الفتاة , و كان الرجل الثاني ينتظره فأخبره " هل لي أن أخذ بركتك من أجل صفع تلك الفتاة دون أن تأنبني ؟ "
أعطاه الرجل بركته و سمع صوت موسيقى يصدر من آلة جاءت بها المذيعة ...
موسيقى قبيحة و مزعجة ... أحبها الجمهور و أحبها الرجل , رغم ذلك و هو يدير ظهره للفتاة التي لا يكف الرجل عن صفعها ... أخذ رقم 3 بتكسير الآلة ... لكن الصوت بقى في أذنه ... المعصية لا تزال راسخة لا تتلاشى .
جاء صوت المذيعة النتيجة : 6 من 10 .
المتسابق 4
هذا الأسود القبيح , يأتي هنا كل سنة , لا يحصل حتى على نتيجته , فهذا لا يكترث الناس لأمره . يرونه غير موجود بينهم  و لا أمامهم .
أظلموا المسرح بالكامل , أما باقية القاعة من جمهور و لجنة حكام فهي تنير نورًا لا يقل شدة عن نور الشمس في منتصف صيف استوائي حار .
يُطلب منه كل يوم أن يشرح معاناته , و هو أبكم لا يستطيع حتى تحريك شفاتيه . فقرر تلك السنة , أن يؤدي حركات جسدية جتى يوصل رسالته للجمهور .
لم يفهم الجمهور شيئًا مما فعل , و لم يصفقوا فهم لا يكترثوا .
النتيجة : 0 من 0 . هي الدرجة النهائية , لا يعرف أحد ما الشعور الذي يجب أن ينتاب كل منهم .
قبل أن تنتهي المسابقة و تغلق السيدة تلك القصة العبثية ... قلت في نفسي ... لِم يسعى كل هؤلاء لكسب عطف الناس ... إنهم لا يتقاضون مالًا , أليس كذلك ؟ إن المعاق هذا يصفق لمن يشبهه فقط لأنه يعرف أن جُل ما يمكن أن يحصل عليه من الجمهور هنا هو التصفيق المثير للشفقة هذا . لِم نتنظر من السيدة أن تختبرنا هي و لجنة التحكيم لقد عانينا بالفعل في السابق ؟ لِم يعجبهم كلام هذا الرجل التقي و هم يدركون أن الكلام لا يكفي في الحياة ؟ لِم تقام تلك المسابقة كل يوم ... كل ساعة .. كل ثانية و كلنا علينا الحضور لنصفق لننبهر ... لنشعر أننا لسنا على المسرح ... ليسعى الجميع للمشاركة حتى يقيمه غيره . لست هنا بإرادتي , لهذا دونّت هذا هنا حتى لا أنسى تمردي و سخطي . لا أريد أن أكون هنا و إن أجبرت فلن أصعد على هذا المسرح . بالمناسبة لم أصفق طيلة هذه الليلة ... و بالمناسبة الرائحة العفنة تأتي لأننا محبسون هنا منذ قرن و مائة يوم .

lundi 22 janvier 2018

أما أنت فلستَ

أما أنت فلستَ .


يدعونك ( عبد الله ) . مسلم و يحكمون على مظهرك بأنك مسيحي . فللمسيحيين شكل مميز , يُعرفون هكذا من هيئتهم . إنك تعيش بمفردك في شقة صغيرة ... لا تعيش في غرفة ضيقة لكنك ترضى بها . إنك قنوع جدًا . مات أبوك منذ أسبوع من الآن , و لحقت به أمك من يومين . أنت حزين الآن . مكتئب ... لا أنت لا تبالي . العزاء كان بالأمس في منزل العائلة , حضراه عمك و خالتك , أخذتك الجلالة و قلت لهما أنك لن تغادر غرفتك الصغيرة التي تحويك ولن تأخذ إرث أبوك و أمك . قلت لهما أنها- تعني الشقة - منذ الآن لهما يفعلان بها ما لذ لهما .
فلنرجع لما كان عليه ... أنت الآن تعاني من الاكتئاب , الوحدة , العزلة .
يرن المنبه رنينًا عنيفًا صاخبًا , لم تكن من الأساس نائمًا لكنك أغلقته و كاد النوم حينها يخطفك . أنت تعمل بائع جرائد ... لا ... لا , إنك تحب الموسيقى , فهي تليق بك أكثر , إنك متسول . تعزف على كمانك و يضع الناس لك نقود . أنت موسيقار , لكنك لا تحب ما تعمل , أو بالأحرى لا تأبه به . تقوم من رقدتك و تذهب ناحية الصنبور الصغير المثبت في ركن من غرفتك الضيقة , تنزل رأسك داخل الحوض لتهطل مياهه الباردة . إنك في شهر فبراير , أو يناير ... لن يعني لك التوقيت كثيرًا , فأنت تقول في نفسك أن الأيام و السنوات تتشابه , تمر مرورًا بطيئًا , تنتظر فقط أن تنتهي منها بالموت أو بحادث عارض .
ترد فجأة و تنتفض موجهًا كلامك إلي :
- لست تعيسًا ... أنا في غاية سعادتي , و الغرفة في الحقيقة في غاية الاتساع ... أحب الموسيقى بالمناسبة , هي مهنتي و لستُ متسولًا .
لا انتبه لما تقول تمامًا مثل القارىء فاتابع ما أكتب .
تمسك بفرشاة أسنانك لتضع الحصة اليومية من المعجون على سطحها المتعفن القديم , تغسل أسنانك جيدًا ثم تنتبه فتضغط على زر إناء الماء الذي وضعت فيه قهوتك ... لا ... بل وضعت حبات الشاي الناعمة ,فأنت تحبها , لطالما ذهبت إلى مقاهي و غادرت غيرها لمجرد أن الأولى تقدم الشاي ناعم و ليس حصى . تضع الشاي في الماء بعدما تكاد المياه تغلي , تغلي حبات الشاي و أنت تتابع هذا بتمعن , تنفخ بأنفاسك فتنفجر الفقاعات . تأتي بكوب فارغ , يكاد ينكسر .. فلقد أوقعته أنت منذ يومين , الكوب متسخ بعض الشي ء من اليوم . لم تغسله فأنت فوضوي , كسول إلى أبعد حد . ملابسك كلها في الغسيل ... كيف ستنزل ؟ لا دعني أفتعل إفتعالات الرواية و الأفلام , هناك قميص واحد مهندم و نظيف , و إن كان رائحته غير طيبة بعض الشيء .
تشرب الشاي , و تتصفح جريدة الأمس . فأنت تقول أن بائع الجرائد , دائمًا يعطيك أنت دون سائر الناس عدد الأمس . فتترك كل الصفحات و تتهاوى عيونك لتصل إلى مساحة الأبراج , لتعرف حظك اليوم . أنت برج الأسد , كُتب في الجريدة ( احذر من أعدائك فأنت مغفل , حاول أن تبتعد عن علاقة عاطفية جديدة ) ... لا .. لا انتظر , أنت تنظر أولًا في العادة إلى صفحة الحوادث فتجد القصص مروعة , فتغلق عيونك و تشرب كوب الشاي و تتهيأ لترتدي القميص , فهو الذي ينقصك , أنت ترتدي بنطال أسود جينز به ثقب لا ترغب في أن تصلحه لأن هذا سيكلفك مشوار حتى نهاية الشارع , و أنت كما تعرف كسول .
تصرخ من داخلك نحوي و تقول :
- و اللهِ سأنزل بعد العمل و أصلح هذا البنطال .
بالمناسبة , لقد ذهبت و أنت تنتشي بإرادتك , فوجدت المحل مغلقًا ... اليوم الجمعة . لا أحد يعمل يوم الجمعة .
تحدثك نفسك بأني أكذب عليك , فلتنظر إلى النتيجة المعلقة على الحائط و تجد أنه الثلاثاء , فتضحك و تصفني بأني مغفل و غير مرتب ... تنزل و تذهب للمحل , فتجد مكانه محلًا مختلف عن الأول . لقد أغلق نهائيًا , أعلن إفلاسه .. قد يكون مات صاحبه و لا يملك أولاد يديرون المحل .
تدير ظهرك له و تتمشى حتى تجلس كعادتك , في زواية من شارع في حي راقي لا يمكن لي أن أذكر اسمه , لأني ببساطة لست معني بالتفاصيل هذه , فتجلس القرفصاء و معك بيانو ... لا .. كيف لك أن تعزف بهذا كله و أنت مفلس ؟ فلنقل أنك تعزف بأوكورديون , تعزف بإتقان , هي موهبة حباك بها الله . أنت فعلًا موهوب لكن لا تنتبه لذلك . تهمل موهبته و تتسول عاطفة الناس من أجل معيشة . أنت تعتقد في نفسك أنك لست مطالبًا بأن تعمل في مهنة مشرفة , فالدنيا كلها إلى زوال , أنت تعيش اليوم بيومه , لا تريد منهم سوى الشفقة لحالك , فيبرزون مع العطف أموالًا تأكل و تشرب بها . فكرت أنت مرة في أن تصبح ممثل , لم يفلح معك الأمر , فقد جرحك أحدًا من أصدقائك حين مثلت أمامه مشهدًا تراجيديًا ... لا .. لا , أنت وحيد لا تملك أصدقاء . لقد اعتقدت أنك ستكون ممثلًا يومًا ما , لم تحاول إبراز هذا أمام أحد , لأنك ببساطة لا تملك سوى نفسك . تعزف بالأوكوريدون و شفاهك العريضة المضحكة الضاحكة لا تُغلق حتى و إن مللت العزف , فالنقود التي جمعتها لا تكفي . جاءت لك فكرة ... لا لقد ضاعت الآن .
ينتهي يومك مع انتصاف الليل , فترجع لغرفتك الضيقة , لعزلتك المقيتة التي صرت تعتادها و تحبها .
تسألني :
- انتظر لكني أحب ( ألفت ) , لم تذكرها ؟
فانتبهت لما تقول . ليس كل ما تقول انتبه له . لكن هذا الاسم لا يناسب حياتك يا عبده , فلنجعلها ( سارة ) .... لا إنه اسم تقليدي ... ( طاهرة ) اسم قديم لا يوحي بما تريد في حياتك ... ( منى ) لكنك تقول لي أنك لا تتمناها ... ( قديسة ) اسم صعب للتذكر أو الذكر , إنه يصيبك بالإحراج عندما تذكره أمام نفسك ... انتظر سأدخل لاتصفح أسماء بنات , افتح المعجم و ما سيقع أمامي سألصقه بك . ( سدرة ) ... ( ابتهال ) ...(دانية ) .... ( دنيا ) ...
( ديالا) ... ( داليا ) ...(افنان) ... (أشجان) ... فلنقل أنك شاذ .
أنك لا تهوى البنات , تستحي فقط من قول هذا أمام الناس ... لا .. إنك تستحي ليس خوفًا من الناس و من قتلك باسم الدين أو الفضيلة أو الطبيعة , لأنك تعرف أنك تخالف ما فطرت عليه , حبك للرجال و اشتهاؤك لهم عندك يخالف رغباتك الذكورية .
أن هيئتك مريبة و غريبة .. لهذا زهدت الحياة , لا معنى لشيئًا فيها , هي بداية يعقبها نهاية عادية .. ليس هنا قبل و لا هناك بعد . لست تهتم باسئلة وجودك , سألك أحدهم في مرة .. هل هناك الله ؟ فقلت له لا أريد أن أعرف , لا أهتم . أنت ملحد بالمناسبة .
ترجع إلى الغرفة الضيقة , لتجد الكتب و المجلدات الحديث منها و القديم محشورة على رف صغير , أنت مثقف و تحب القراءة كثيرًا ... لا , لا ... الكتب كلها تعود لأبيك الذي مات لتوه , و أنت لم يكن يومًا بمقدورك الاستمتاع بأي كتاب .
لديك شاشة صغيرة , و جهاز فيديو , ترتمي أمامه شرائط لا حصر لها من الأفلام ... ليس أفلام خليعة .. إنها شرائط سجلتها أنت بنفسك للقساوسة وعاظ ... تعشق كلام البابا .
قبل أن تعترض من جديد , أعرف أنك مسلم , لكنني أنسى , أنا في الآخر إنسان ... أما أنت فلستَ . تغدو في نوم عميق ... لا أنك تعاني من أرق منذ يومين , لقد نسيت أن تأكل , تنزل فتجد المحلات جميعها مغلقة فتعود أدراجك ... لم تبالِ و انتظرت لهذا السطر .
يدق الباب فتجد ( ألفت ) , جارتك تقدم لك عشاءًا , و تقول لك أنها تحبك و أنها تعرف أنك بالكاد شاذ و ستعالجك و تخلعك من وحدتك تلك . قطرات الماءمن الصنبور لا تتوقع عن الهطول , إنها تشكل موسيقى هذا المشهد يا سادة . نهاية سعيدة مفتعلة مني , أما أنت فلستَ !