dimanche 29 avril 2018

الشجرة الكبيرة





وقفت اتطلع إلي هذا الشاب الواقف هناك يستظل بشجرته . كهلًا صرت بعدما حُزت الدنيا بما فيها . كان الليل على وشك السقوط . كنت اعتاد الذهاب للمكان ذاته يوميًا مع زوجتي , التي فارقتني الأسبوع الماضي . كانت جميلة . كانت أكثر مما طلبته في خيالي . كنت أحبها , بل مع الوقت صرنا أحباء . كنت تعيسًا و لكني كنت راضيًا عن حالي . أصبحت الآن وحيدًا . لم ننجب سوى طفلًا وحيد مات قبل أن يطلق للعالم صرخاته الأولى .
هذا الشاب لا يحرك ساكنًا مثلي . هل مات مثل زوجتي ؟ كيف يكون قد غادر الحياة و هو ما زال واقفًا كالشجرة ؟
كانت الحديقة يغادرها الجميع , فمن عادة سكان المدينة النوم مبكرًا . فهي ليس مدينة ساهرة .
أمسكت بعصا اتكأ عليها و توجهت نحوه . كان على قدر من الوسامة لا بأس به , ارتدى قميصًا وردي اللون يشبه تلك الزهرة التي يحملها في يده , أما بنطال فقد عبث به طين الحديقة حتى تحول أسوده إلى بني شاحبٍ . لم يكن ينظر سوى إلى اتجاه واحد . اقتربت منه بخطوات متكاسلة ... لقد مسني الكبر و عبثت بي شيخوختي و لم تكن بالمرة رحيمة . سأموت قريبًا ! لطالما خفت من فكرة انتهاء الدنيا و كثيرًا ما يصيبني بمرارة معذِبة كون أعمالي ستُنسى و سأكون مجرد دعوة في لسان بشر قد يتذكروني .
 لكنني الآن , لا أكف عن الضحك حين أقابل قابض الأرواح ... لقد أصبح صديقي .
وصلت بعد عناء كبير و وقت مر مرور ليس بيسير . ظل الشاب كحائط مشروخ آيل للسقوط . لا تغفل عيونه و لا تنغلق جفونه . أقدامه موحلة في التربة اللينة , حتى ظننت أنه ورقة خريفية صفراء .
قلت له في سكونه هذا :
- يا بني ... أنت بمفردك ؟
قال بحزن عميق :
- دائمًا .
كأنه يحدث أحد غيري . يرد علي و عيونه لا تغفل عن هذا المبني المهجور . هذا المبنى الذي لا يقترب منه أحد في الحديقة .
قلت له :
- ألم تسأم من الانتظار ؟
قال و هو غير مكترث :
- ستأتي ... حتما ستأتي .
قبضت بيدي الهزيلة ذراعه العريض القوي , و أخبرته أن عليه أن يريح نفسه قليلًا . نظر إليّ حينها و كانت عيونه تتوسل إليّ , كأنها سجينته . يحبسها و لا يتركها تغفل . يعذبها دون هوادة .
أخبرته :
- إذنً , من تنتظر , لعلنا ننتظر نفس الشخص ؟
- انتظر من لن تأتي أبدًا .
- من هي ؟ زوجتك ؟ حبيبتك ... أمك ... أختك ؟
- كلهن .
- تنتظرهن مرة واحدة ؟ لِم لا تجعلني اتصل بهم ؟
- لا هي واحدة ... أنا يتيم , و ليس لي أخوة و لا أخوات .
السماء فتحت أبوابها حينها . الأمطار لم تكن بتلك القوة منذ حين . كأنه على وشك أن يخبرني بسر فضّلت السماوات عدم إذاعته . سر أم بكاء أم تعاسة ... لا أعرف بعد .
قال لي بعد أن أجلسني على طينة الشجرة و أملت أنا ظهري المتهالك إلى جزعها الضخم , أحاطت بنا أفرع الشجرة الكبرى و جلست جواري و كأنه يريد أن يفضي . لكن لم يتفوه . قال لي :
- أنني خائف .
- كلنا نخاف ... لكن ما عسانا نفعله ؟
- نهرب ... من موت الدنيا لموت آخر ينهي قصتنا التعيسة .
- لِم تصفها بالتعيسة ؟
- لا أعرف ... هكذا ألفتها يا .... يا ... أنتَ .
- لم تخبرني من تلك التي تنتظرها ؟
حينها صمت ... طويلًا . كأني سببتها , لم يكن يعرف أني أريد أن اتحدث مع أي أحد , لقد غادرني الجميع و لا أريده أن يموت مثلي رغم أنه في شبابه .
فصمتنا و الأمطار قلت حدتها . كان غضبه الداخلي يُصب من السماء .
فقررت أن أحكي له , و إن لم يسمعني , فلقد أغتنمت فرصة التحدث إلى أحدهم :
- هل تعرف يا بني .. ما أسوء ما في الانتظار ؟ اليأس ... و الأسوء من اليأس , هو الأمل الزائف . لِم تنتظر هنا . تلك الشجرة , لا تنتظر أحدًا , أعطتها من روحك القليل و ستجد فروعها ممدودة نحو السماء و ستتحرك إن أمكنها ذلك . التعاسة ليس في الفقدان , بل في بخل عطائك لنفسك .
لم يكترث لما أقول . يا له من بائس آسير لحزنه !
فجأة قال لي :
- هل تريد أن تموت ؟
قلت له :
- ليس اليوم .
- و ماذا عن الغد ؟
- حينها ربك سيسهلها .. و أنت ؟
- أنا أريد أن أموت بالأمس .
- و بعد ما ستموت ؟ ماذا ستفعل ؟
- أنهي ماسآتي , هذه الجائزة الكبرى التي يحصل عليه الأموات .
- و تترك الحديقة ... و الشجرة ؟
- كما ستتركها أنت . يوم مماتك .
- لن أتركها بإرادتي , سأطلب في الجنة أن أزورها بروحي كل يوم . سأطل عليك هنا كل يوم .
سخر مني :
- جنة و نار ؟ لِم نحتاج حياة أخرى ... ألم نكتفِ بما عشناه ؟
- معك حق ... لكنها أمنيتي .
- أرحل يا شيخ ... الليل قد هبط و ليس باستطاعتي مساعدتك و لن أضيع وقتي معك .
كان في قلبي حزنٌ ما . لا أعرف بسبب ما قاله أم أنها عدوى . الأموات يصيبون الأحياء بالعدوى , لهذا لا أحب أن أذهب للمقابر .
لم أقدر أن أقوم ... فحاولت الاتكاء على العصا و غرستها في الطين اللين , و كان المطر قد توقف .
ساعدني في القيام .. شكرني و رجع لموضعه . أما أنا فرحلتُ . سرت بقدمي في الوحل و لكن كنت منتشيًا . لقد تحدثت مع أحدهم . شعرت بنسيم مريح يأتيني , صقيع بدأ يلمس جسدي المتعرق و صوت همس في أذني . كان أحدهم يقترب مني . أسير على مهل , فإذ بأحدهم يهمس و يخبرني , انظر وراءك و تمنى شيئًا قبل أن أسقط ... قبل أن نرحل سويًا ...

                                                  *******

كان هذا اليوم التاسع و الخمسين . شهرين تقريبًا , انتظر موعدنا . اسعى لرؤيتها في الحديقة . اتسمر في مكاني تحت الشجرة الكبيرة كما أخبرتني .
قالت لي قبل أن تستتر :
- انتظرني ستين ليلة , في إحداها ستنال مني نظرة و عناق .
إنها الليلة قبل الأخيرة . عدم يقين تمكن مني حينها و أخبرني أنها لن تظهر . لقد تناستني . المطر هذا لم يذكرها بما بذلته لها . الوردة في يدي لا طائل منها . أحيانًا أراها ... خُيّل إليّ أنها تلك المرأة التي هناك . و لكني لم أحرك ساكنًا . فهي تعرفني و تعرف الشجرة الكبيرة و إن أرادت لجاءتني .
الموت سيأتي قبلها  على ما يبدو .
لا أرى في الحديقة أمامي سوى لون أخضر باهت مائل للأصفر .
أصفر شاحب مثل وجه هذا الشيخ القادم تجاهي . يسير نحوي سير الأموات إلى جحيم النار .

سمعته و لم أرد أن أجبه . سيتحدث معي و لست في مزاج جيد لأسمع و استمع . كل جسدي الآن مشغول بكِ , أين أنتِ ؟ تبقت ليلة واحدة , و قد افارق الدنيا حينها . انتظرها قبل أن تأتي و بعد أن ترحل انتظرها دون ملل . أريدها ... كالجنة المزعومة , لا أريد غيرها . لكن هل الرغبة و السعي وحدهما سيحققان غايتك ؟ لا أظن هذا . 
قاطعني و سألني .. لم أرد . و اسنتده إلى جزع الشجرة . فلا أريد أن يموت و يأخذني قابض روحه معه . فسألته عن الموت ... لأنه أكثر علمًا مني . لم تكن إجابته مقنعة لكن هناك شيءٌ في نفسي جعلني أظن أنها رسالة مبعوثة منكِ ليطمئني أنك بخير و أن مازال في الحياة ما يستحق أن نعيش من أجله . ظل يتحدث و أنا أهيم شوقًا إليكِ . الطمأنينة كانت في وجوده جانبي . 
قرر الرحيل فلم أمانع . ظل يرحل كنور الشمس وقت الغروب حتى اتخفى الضوء من ناحيته . و صار الضوء ينبعث من البيت المهجور . ضوئك أنتِ ... لقد بدأ الحياة لتوها بمجرد نظرك ناحيتي . كنت أجري , حتى وقعت في الوحل . قمت من جديد و أنتِ تقتربين و كدتُ ابكي . لم يكن من المفترض أن يحصل هذا ... لكن خيبتِ ظني . خفت أن أعنقك من كثرة وحلي . فعانقتني .

في طريق عودتي أنا و هي , وجدنا الشيخ قد رحل ... إلى هناك ... إلى الشجرة الكبيرة ... إلى زوجته ... ليسمع صرخات طفله . 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire