samedi 16 mai 2015

تسحقيها !!

تستحقينها بجدارة 
 رأيتها من بعيد حتى بدت أمامي و شككت أنها قد تكون سراباً اتضح لشخصٍ ظمآن مثلي , لكني نزلت من  السيارة التي تقلني من مقر عملي للمنزل معللاً طلبي بأني قد سهوت عن شئ أريد أن أحوذه و لهذا سأرجع و اشتريه ...هكذا طلبت من قائد الأوتبيس الخاص بشركتنا الموقرة _التي بفضل الله و بمجهود موظفيها المجدين في أعمالهم _ قد أحرزت خسائر هذا العام بلغ المليون دولاراً ...هذا و الحمد لله اليوم تم صرف علاوة لجميع العاملين بالشركة " علاوة إجادة " .
نزلت من الأوتبيس و سلكت طريقاً مختلفاً حتى لا يلحظني أى من زملاء العمل الكرام اتسلل وراء سيدة أو فتاة حتى لو كانت في غاية البهاء ... فالثرثرة هي وسيلة التسلية الوحيدة في شركتنا , حتى بات العاملون فيها يشتغلون عمل الأُدباء في سرد قصص خيالية , فترى من يقص أن فلان على عِلاقة مع فلانة و هذا الفتى المُعين من قبل مجلس الإدارة يشوبه اتهام بالشذوذ الجنسي , و أن مدام ( ميرفت ) _بتاعت الحسابات_ بتسرق حوالي 10.000 ج شهرياً من خزنة الشركة و لهذا تخسر شركتنا المليارات كل عام .
كل هذه القصص المسرودة منها ما يدخل العقل و منها ما لا يفعل ...لكن ما لا يدخل يُدخله الفرّاش عندما يأتيك بفنجان القهوة و يحدثك عن الفجور الذي أصاب الأستاذة ( سَمية ) _ بتاعت العلاقات العامة_ تلك السيدة المتزوجة  و لكنها في الأوائل الثلاثينات من العمر ...فتسمع من ( عم فتحي) _ الفراش الهجاص (هكذا نعته )_ الأساطير حول ( سمية ) التي بلغت من الفجور ما بلغته إمرأة فرعون مع يوسف عليه السلام و الفرق أنها لم تتب  بل و تزيد من الأمر تعقيداً حين تأتي بملابس خليعة قصيرة تثير بها المكتب كله , حتى (عم فتحي) نفسه , لدرجة أنه جاءني و سألني ( ينفع كده اللي بيحصل يا باش مهندس ده ؟ )
فأتعجب منه و اسأله ( ايه يا عم فتحي بس .. حد مضايقك ؟ )
يقول ( الست سمية الله يلعنها ... احنا أعصابنا تعبانة  و كده كتير ... أنا بفكر اقدم استقالتي )
ضحكت له ( استقالة مرة واحدة يا راجل يا طيب ...و بعدين أنت مش كِبرت على الكلام ده )
رمقني و وضع فنجان القهوة و حدثني بصوتٍ منخفض  ( كبرت ايه بس يا عم خالد ... أنت لو جيت معايا البيت دلوقتي حتلاقي صوت الجماعة اللي بتصرخ جايب لآخر الشارع )
فلم اتمكن من أن اسيطر على تعبيرات وجهي حينها و أنفلتت مني ضحكة صاخبة لم يتبينها أحد من أعضاء المكتب الموقرين لانشغالهم بالثرثرة و التطرق لكل ما يخص الجدل و اللغو و اللهو ... أهم شعار عندنا في شركتنا ( لا يوجد وظائف لحاملي الضمير العالي )
نزلت و رُحت اسلك الطريق النائي , حتى أصبحت المَركبة بعيدة بما يسمح لي أن أسير وراءها و أعرف ما إن كان سراب أم حقيقة لا يمكن أن تغفلها العيون الصحيحة .
كلما اقتربت منها بدت بعيدة , دخلا شارع جانبي , فرُحت أخطو خطواتهم لا أغير من وجهتي  قدماً و كان يضع يداه المتسختين بقذارة روحه على كتفيها  ليحيطها و بدا أمامي كالضبع و هي لم تكن ضبعة بل لبؤة أنتهت لتوها من تناول أحشائي بكل شراسة و خساسة ...
حينها أحسست بنبضات قلبي تعلو و تعلو , فما كان لي إلا أن افتح أدراج روحي المتسخة إثر خطوات تلك الخبيثة و أضع داخلها قلبي بنبضاته و معها كل شعور طيب ناحيتها .....من يدري لعلني أفتحة مرة أخرى و أهبه لمن يستحق .
هربت الشمس و لم تغرب , هربت حتى لا ترى خطية مَن لا يعرف في حياته سوي الشهوة الحيوانية ...و ظل الليل غطى عليهم في أحد الأزقة و أنا اتابع عن كثب و أعرف ما سيؤؤل له الأمر و لكن حينها أردت أن أشاهدها لا أعرف لم تسمرت و أختبئت وراء عمود ( دكان ) مبني من الخرسانة يحمل عقار غير مكتمل البناء ..... كان يبعُدني عنهم عشرات الأمتار , لو جريتهم لوصلت لهم و أنهيت القصة و لكني فضّلت الانتظار .
قد شدّها من خِصرها و أدخلها إلى بوابة العقار المقابل المكتوب عليه ( تحت الانشاء ) , فلما دخلا للداخل أختفوا و لم يرهم أي شاهد سوى الله و العبد الفقير لله . تسللت على أطراف أصابع أقدامي و قد فرغ الزقاق من المارة و انغلقت أبواب ( الدكاكين ) , ربما كان يومها يوم الأحد و نحن في أحد حواري المسيحيين .... المهم , وصلت بعد جهد جهيد حتى لا أُحدِث أي ضوضاء و قد تسابقت أنا و دبيب النمل في الليلة الظلماء مسابقة من يحِدث صوتاً أكثر خفوتاً و الحمد لله ربحت .
شاهدت المشهد الذي كُتب عليه ( للضباع فقط ) , و أشكر ربي أن تخليت عن كل ما هو إنساني بداخلي و وضعته جانباً حتى أتابع و أحس بما تشعر بيه و هي في حضنه .
أنقض عليها و حاصرها من كل ناحية و أصبحت يداه قضبان تحبسها و انهال عليها ليعرف من أين يُؤكل الكتف .
 فأصابت سهام الرغبة ما تبقى من عفاف فيها , و في لحظة رأيت الضباع أمامي تهطل الرغبة من أفواهها و تنظر إلى ضحيتها في نهم و طمع في مزيد من التلذذ .... ضاعت حينها , ماتت في الزنزانة و بدت في غاية الاستسلام و الضياع حتى أسندت ظهرها إلى الحائط و ضربت برأسها مرة واحد هذا الحائط و أنا متسمر أمامها أنظر إليها دون أن تراني و حينها كانت ريح الاحاسيس تعصف بي .... إحساس الرغبة في المشاركة , إحساس البغض و الرغبة في الابتعاد , إحساس الاهتمام و اللامبالاه , الحب و المُقت , الذهول و الاعتياد , شعور الضحية و الجاني ....
انتهى المشهد البغيض أو بالمعنى الأصح أدركت ما سيؤؤل إليه الأمر , فتركتها إلى ستار الظلمة في الليل فالليل ستّار كما يقولون . همتُ في الطُرقات و لا أعرف لي سبيل و على عكس المتوقع  يتكرر المشهد أمام عيني كثيراً فلا أملك أن أجنّبه بل أنني انظر إليه ببصر دون بصيرة , و لكن قابلت من غيّر هذا المشهد لأحسن منه ......
أعاد من صحبني في طريقي للبيت لي الحياة من جديد , و أخيراً دُل الهائم على الطريق الأصوب و الأنسب له .
عُدت أدراجي و دلفت إلى البيت و لم أدخل المنزل بل فضّلت أن أكمل ليلتي أنا و الكون سويا
يستمع لما سأقصه عليه ليشُد من أزري لا ليوعظني أو يوجه إلى النصيحة , فاليوم قد سلط الله غضبه على بلد ( يوتوبيا ) و أهلكها كما فعل بقوم عاد , و أغرقها في أعماق خطايا أهلها كما أغرقك مع قومك يا فرعون .....
فإذا بي أرى جلباباً أبيض اللون , يشع نوراً تزوغ عنه الأبصار , جالس على سطح البيت الذي لم يحاصره سوراً , و على الرغم من هذا فرأيته يجلس على كرسيه على حافة السطح ينظر تارة إلى الشارع ثم يرفع  عينيه للسماء . إنه جدي , ( الحاج مكرم ) ...يبلغ سن السبعين و يجاوزه ببضع شهور , يمتلك حس مرهف ورثته عنه , واثق لا يتغلغل إلى قلبه شك أو توتر فيما يعتنق من أفكار أو معتقدات شاذة . فإنه يظن مثلاً أننا في الجنة , عندما نملل من نعيمها سنتمى النار ... و أن الصلاة تُؤدى من دون فرض من نص قرآني بل من فرض إلهي قابع في روح العابد .... لدرجة أنه يحتقر الملائكة  و يساويهم بالشياطين , لا في آجلهم بل لأن كليهما لا يدرك سوى الشئ الأوحد .... الملائكة تدرك طاعته و الشياطين تدرك عصيانه . قال لي ذات مرة ( أننا فقط يا بني من نمتلك الروح , الملائكة  و الشياطين لا يملكوا من أمرهم شئ .. فأنا أحمد ربي أني لم أكن ملكاً يفعل ما يؤمر و لا شيطان يفعل ما لا يؤمر )
تسللت و قلت بصوت خافت ( السلام عليكوا يا جدي )
أرجع الكرسي للوراء و طالعني قائلاً ( خالد , ازيك ..ايه اتأخرت ليه كده ؟ )
لم أرد على سؤال و عيوني ترقرق بالدموع  ناظراً إليه متذكراً للمشهد البغيض ...عندما رأني قام بسرعة من على كرسيه و جرّ قدميه نحو و لم يسألني شيئاً ...فقط سألني شيئاً واحداً , سألني عناق جسد بلا روح , فلم أبالي و لكن الراحة بدأت تأتي من بعيد .
قال ( الحاج مكرم ) : أنا حنزل فالسريع كده ...أعمل فنجانين قهوة و أجيب الراديو أبو سلك نسمع الست و إحنا قعدين سوا ....ايه رأيك ؟
أنا:- ماشي يا جدي . قلتها و مرارة دموعي أذوقها بلساني الجاف من ثرثرة روحي التي أبت أن تدفن و هي حية .. و لكني فاوضتها فلم تقتنع , فما كان مني إلا أن أعطيتها منوم طويل المفعول ,سريع التأثير .
قال لي : ايه رأيك كمان أجيب الشطرنج , نلعب  دور و لا أنت عندك شغل ...لا بكره الجمعة أجازة ...يبقى خلاص انهارده ليلتك يا خالد أفندي .
أسعدني هذا الكهول , أحببت هذا الشيخ حباً جماً و تمنيت من أن الله أن يجاوز عمره عُمْر نوح ... انتظرته  فلم يتأخر طويلاً , و جاءني لا يقدر أن يحمل كل هذا فوبخني بصوت منخفض طالباً مني أن اُعينه على حمل أي من تلك الأشياء التي من شأنها أن تسعدني و توصل البهجة بالكامل لروحي و بالفعل انتفضت و ساعدته و لكن كوباً قهوة من الاثنين وقعت على أرضية السطح الاسمنتية  و كُسرت و أعقب ضجيج الكسر صوت ( الست جمالات ) و هي تحيي جدي بتحية قليلة التأدب قائلة بصوت العاهرات في أزقة مصر القديمة ( ايه يا سي مكرم , مبقاش فيك حيل تشيل ...كاتك وكسة ...قال الدِهن في العتاقِ ...قال )
وضع الحاج الأشياء على الكرسي , و انعطفت رأسه ناحية شباك ( الست جمالات ) الذي يطُل على سطح بيتنا العتيق و سب أمها الساقطة بشفتيه حتى لا أتبين الشتيمة  و صورته كرجل وقور لا تتشوه . ضحكت ( الست جمالات ) ضحكة صاخبة لا تدل على دلال إنما على شئ آخر .
كانت تلك الليلة أطول واحدة قضيتها مع هذا الشيخ , الصوت يرتفع تارة و ينخفض تارة , الدموع تنهال من جفوني  بعدها يصاب وجهي بسعال من الضحك لا ينقطع حتى كادت روحي تخرج من جسدي , ليلة شهدت كل أحساس عرفه الانسان منذ معصية آدم حتى شتيمة جدي ل( الست جمالات ) .

( بعد مرور أسبوع  على تلك الليلة )

قد حان وقت ساعة راحة للموظفين , من يريد أن يأكل أو يؤدي مشواراً أو ما شابه ...خرجت من مكتبي و سلكت الردهة التي دائماً ما أقابل فيها ( نادين ) و لكن اللقاء لا يحمل أي شئ سوى نظرة ثاقبة منها إلى عيوني و أنا تائه في أعمالي و أشغالي اليومية في الشركة و كنت أكتفي بأن أمنحها ابتسامة ....ذلك اليوم مدّت إلى يداها لتلامس يدي فابتسمت و في لحظتها جاءني اتصال يحمل اسم ( وفاء ) اسم لا علاقة له بموصوفه , و لكني حينها لم أعرف ما أصابني تركت يدي تلقائياً ( نادين ) و امسكت بالهاتف و أجبت على المكالمة بكل شغف و تهور و عدم إحساس .

قالت : خالد ...ازيك ؟
أنا:-انا كويس , الحمد لله ...انت فينك اليومين اللي فاتوا دول , كلمتك كتير موبايلك بيديني غير متاح .
هي :-معلش يا حبيبى , أنا مردتش أشغلك ... أنا أصلي الشنطة اتسرقت مني و كان فيها الموبايل ....كنت في مول مع صحبتي ...فوقع مني و مش لاقياه لحد دلوقتي .....
ارتبكت فلم أعلق و تابعت المكالمة :- و ديه حاجة متتقلش بردو .. يعني أنا موجود و كان لازم تقولي لي , كنا عملنا محضر أو حاجة ..... الأهم دلوقتي أنتِ كويسة ؟
هي:-أنا كويسة و بقيت أحلى عشان سمعت صوتك و حبقى أحلى و أحلى لو شفتك يا حبيبى .
انا :- أنت متتخيليش أنت واحشاني قد ايه ... اسبوع بحال له كانت روحي واخدة أجازة بدون مرتب ..حتى كان فاضل كام يوم و تقدم استقالتها .

هي :-لا قولها , أنا جاية خلاص أهو . انهارده انت حتخلص شغل امتى ؟
انا :- تعالي الشركة و نتفسح و نروح سوا .....عملك مفاجأة تجنن .
هي:-ايه ده ...طب قولي عليها يا خالد بليز ...مش حقدر استنى لحد الساعة 7 .
أنا :-لو قلتها دلوقتي ..متبقاش مفاجأة ...و بعدين كفاية أنك حتشوفيني .
هي :- ديه حتبقى أحلى مفاجأة في الكون .
كلمات مثل " بحبك" و " بموت فيك" و " بعشقك " أضاعت علىّ الساعة الراحة و راح ال( سندويتش ) ضحية تلك المكالمة ...  و لكن الفرص جاية كتير ...اتجهت نحو المكتب  فإذ بي أجد من يعطيني ( سندويتش ) و ( حاجة ساقعة ) و يخبرني بأنه ليس بحاجة لهما فشكرته  و غربت عن وجهه حينها .......

( الساعة السابعة بالتمام ...أمام باب خروج الموظفين )

شاهدتها من بعيد , رأيتها متجملة  في ثياب السهرة , ارتدت فستان بنفسجي أبرز كل ما تحتاجه عين العاصي أن تراه و بفضل الله فالعصاه في الشوارع كُثّرلا يجدون لرغباتهم المكبوتة مفر , فباتت ( وفاء ) هذا المفر يومها , لم نتسامر كثيراً يومها و كان لسان حالها ( أين المفاجأة ) فوصلنا إلى مكان الحدث ...كان ملهى ليلي أو كما يُقال "ديسكو" , انتفضت من مقعدها و سألتني منذ متى و أن اعرف أماكن المواخير ..قلت منذ عرفت طعم الخمر على شفتاكِ
نزلت ففتحت لها باب السيارة و اصطحبتها للداخل ...من خلال بوابة كتب أعلاها بأنوار متلألئة ( La soirée) و حارس ضخم الجثة , طويل البنيان , أصلع , يرتدي نظارة ...تماماً مثل الأفلام الفرق الوحيد أنه كان يبتسم في وجوهنا أو بالأحرى يبتسم في وجه ( وفاء ) ..لا عذرا يبتسم في جسدها .

نزلنا إلى أسفل , على السلالم التي تقودنا إلى صالة المجن و الفجور و اللهو بكل ما هو مقدس , صور الممثلين تتوج نزولنا الدرج , أو بالأحرى ممثلات الإغراء في أيديهن كأس الخمر لا ينقص تلك الصور الفوتوغرافية سوى وجود شخص واحد......من يؤدي دور أبا جهل في فيلم الهجرة .

عندما وصلنا و دخلنا , كانت الأنوار تتجه نحونا و تدور لتسبح في الصالة كلها , لم أرى سوى الرجال الأفاضل يترنحون يميناً و يساراً , و الراقصات الغانيات يتمايلن على أرجل السكارى . لم أشتم رائحة سوى روائح النبيذ الرخيص منه بات قريب مني , حيث أن أفقر رواد المكان يجلسون في الخلف أم الأثرياء فمكانهم في الأمام دائماً و أبداً . كانت رائحة غريبة , رائحة تشبه رائحة لوط وسط أهله , فمثل هذا الزمان رائحة العفة أصبحت غير مرغوبة ...فالسائد الآن هو الفُجر و الاستباحة كل ما هو غال و نفيس .

لم يستمر الجلوس على المقاعد طويلاً , فلقد علت الموسيقى و أحدثت صخباً أحبته جليستي جداً , فلم أمانع عندما تدللت و طلبت مني أن أرقص معها وسط هذا الزحام من الشباب ...كل يستبيح الغير مستباح , فتيات يلبسون رداء الخلاعة و شباب يخلعون ستار النُبل و الحياء . أول مرة , كنت سكران حينها , قد فقدت روحي قبل الدخول للصالة و بعد الدخول فقد قلبي و انسانيتى بكاملها .... تمايلت و تدللت فلم أرغب عنها بل اقتربت منها و حاولت أن انتزع منها كل ما يسد رغبتي في امتلاكها , استحال هذا المشهد ليذكرني بما رأيته و أردت دوما نسيانه , حاولت تجاهله لكني لم أقدر ...بذلت قصارى جهدي فلم استطع , فتنهدت و أمسكت يديها و طلبت منها أن نرجع معللاَ طلبي بأن شئ ما أصابني .

جلسنا على المقعد الذي توسط القاعة , جاءت النادلة بزيها ناصع البياض , تقدم لنا " الويسكي " فأزاحت الزجاجة القديمة و حلّت مكانها الأُخرى الجديدة .

سألت ( وفاء ) و قلت :- تفتكري البنت ديه تستحق الشغلانة اللي هي فيها ديه ؟
قالت :-مش بتكسب من وراها ....حتحتاج ايه تاني
حينها صمت و أمرتها بالانصراف  فإنه قد حان وقت الرحيل و لابد أن نسرع حتى لا يداهمنا الوقت فنفقده , أطاعتني على الفور و قلت في قرارة نفسي ( أنتِ الأجدر بيها ....تستحقيها بجدارة )
مرت أيام منذ تلك الليلة , كانت تكلمني كثيراً و لا تتناول سوى موضوعاً وحيداً ( الخطوبة ) ...قلت لها أني ساصطحب جدي و آتي يوم الأحد القادم فكوني على أهبة الاستعداد .

حان وقت الكلام الرسمي , فاصطحبت جدي بعريبتي و صعدنا إلى البيت  ذات الطوابق العديدة و الذي لا يحمل ( الاسانسير ) و مع كل طابق نخطوه يسبني جدي بمختلف الشتائم الموجود في معجمه المحيط بكل صغير و كبير من الألفاظ البذيئة .
دخلنا فتنهد جدي من صعوبة  الوصول لهذا البيت , كان في انتظارنا والد العروس .
جلسنا بعد ديباجة المعهودة و المنتظرة و التي دوماً لا تضيف جديداً , كعبارات الترحيب المملة ......
والدها:-انتوا منورنا و الله ....طلباتكوا ..أمرني يا عمي ؟
جدي :-الأمر لله يا بني , أنت أكيد عارف اننا طالبين ايد وفاء ل(خالد)حفيدي .
والدها:-ده يشرفنا طبعاً ....بس الوالد و الوالدة مجوش ليه ؟
جدي :-و أنا رُحت فين ؟ مش مكفيك أنا يعني ....لا نقوم بقا أحسن ..عيب يا بني كده .
أنا :-أكيد ميقصدش كده يا جدي , ماما و بابا في عمرة ..طلعين عمرة شعبان إن شاء الله .
والدها :-بس إحنا في نصف رجب لسه .
جدي:-لا ما هما بيحبوا يروحوا بدري ...عشان يلحقوا مكان في الصف الأول .... يا بني موافق و لا نقوم نمشي ؟
والدها :-نقرا الفاتحة ........قالها و استحالت العُمارة بأكملها لفم يصدر زغرودة لا أحلى و لا أبهى من ذلك .....



( يوم الخطوبة )
لم يكف هاتفي عن الرنين , فقد كانت متوترة و خائفة كعادة أي عروسة يوم خِطبتها ....كنت أرد بكلمات مقتضبة و في آخر مكالمة قلت لها أني سآتي تحت المنزل في تمام السابعة , لأصطحبها بالسيارة و نصل لقاعة الزفاف ....
و بالفعل في تمام السابعة , تحت المنزل جئت و الشارع كله يتأمل العروسة و الفرقة تعزف بمختلف الآلات من الرق وصولاً إلى ال(صجات ) ....ركبت السيارة و الباقية أصطحبهم سيارات أخرى و كانت ( هند) صديقتها هي من تركب في سيارتنا و يقودنا ( عبد الكريم ) صديق عمري . وصلنا القاعة و رّن هاتفي مجدداً ..........
طلبت منها أن تسمح لي بمجرد دقائق لأقابل , منظم الفرح و أضع معه النقاط على الحروف لكي يكون يوم من أبدع أيام العُمر , قبلت يدها و نزلِتْ .
مرت الدقائق ...ربع ساعة ....نصف ساعة .....ساعة إلا ربع , و لم آتي فسمعت صخباً يأتي من الباب فنزلت هي و (هند) أما ( عبد الكريم ) فمهمته انتهت عند هذا الحد .
حملت الفستان الأبيض بيدها الاثنين كال(طشت) البلاستيك , أما (هند ) فالكعب العالي لم يسعفها أن تهرول وراء العروسة فأخذت الفستان البنفسجي و تركت صديقتها و رحلت ....
فتحت الباب الخاص بقاعتنا التي قد أشرت له بأصبعي قبل أن أنزل من العربة , دفعته بعنف و أصبح شعرها المصفف بعناية متحولاً إلى عُش العصفور و (صنية كنافة ) مرّ على عملها حوالى الأسبوعين .
لم تألف أحد , عيناها تروح يميناً و يساراً , لا ترى أحد من أهلها ..كل منكب على الصحون التي تأمُه والممتلئة بشتى أنواع اللحوم و الدواجن . لم يلحظها أحد , إلا عندما جرت ناحيتها طفلة عمرها حوالى عشر سنوات , قالت الطفلة ( العروسة التانية جات اهي .....)
انتبه الحاضرون لها و تأملوا الفستان الأبيض الذي ستر جسمها العاري بدايةً من كتفها وصولاً إلى العنق الطويل , ثقبت نظرها فإذا بها تلحظني في نهاية القاعة أضع الطعام في فم إحدهن التي كانت ترتدي فستان توجها لتتحول لإحدى ملكات أوروبا بل و تعدت جمالهن و اناقتهن .....
كانت متحفزة و توجهت و في يديها كرة ملتهبة , أوقفها جدي برزانة و خفت في أذنها و قادها إلى غرفة خصصها لأربعة أفراد ....
و دار الحوار على النحو التالي :
وفاء:-بكلمك مش بترد عليا ...ليه ؟
أنا:-كنت بجيب حبيبتي .
هي:-ما أنا قدامك آهو .
أنا:-لا أنا قصدت حبيبتي .......ديه . و نظرت لمن تجلس بجوار جدي في آخر الغرفة .
هي:-مش فاهمة ...لأ وضح لي .
أنا:-مش محتاجة توضيح يا مدام .
هي :-في مدام لسه متخطبتش ؟؟
أنا:-آه في , أنتِ ....اشرح لك أنا يا ستي

( فاكرة يوم بوابة العمارة اللي كانت لسه بتتبنى , مكنتوش اتنين لأ كنتوا اتنين و نص ...جسدين و نص روح معاكوا ....
روحت يوميها  قابلت بالصدفة , (نادين) اللي قاعدة هناك ديه ...ساعتها شافتني و أنا ضعيف  و خلتني أقوى واحد في العالم ...
قعدة الليل مع جدي اللى قاعد هناك ده هي الموضوع بقا كله , تحبي أكمل ....)
هي لم ترد , الصدمة تلو الأُخري لا تسمح لها بالاستيعاب الأمر .
أنا:-  ( يبقى أكمل ....جدي سمع مني اللي شوفته بعد ما حكيتله تفاصيله ...قالي لازم نفكر كده ... و قعدنا نتكلم طول الليل عليكِ )
( الحوار ليلتها بعد غلق الست جمالات نافذتها )
جدي:- مبدأيا كده , لازم نتأكد من اللي حصل ده و تبقى الصورة مكتملة .
أنا:-ازاي بس ؟
جدي:-لما تنزلوا مع بعد , تشوف الرسايل و النمرّ التي بتتصل عليها كتير .
أنا :- و هو انت عندك أمل نشوف بعد تاني أصلاً ؟
جدي:- لا فتّح مخك كده و مش عاوزك غبي النهارده بالذات ....الاسبوع اللي جاي حترجع تكلمك تاني عشان حتكون سابت الواد ده ...حتزهق منه صدقني و حتيجي تاني و حتطلب منك تنزلوا .
أنا:- أقوم رافض على طول طبعاً .
جدي: يا بني , تقول لأ تبقى متخلف ...معروف ...لأ=متخلف .
أنا :-حيرتني معاك ...أنا حسكت و حسمع منك خلاص .
جدي : خير ما عملت , ساعة لما تطلب منك تنزلوا حتاخدها و تروحوا حتة شمال و عاوزك تنفعل ....حتى لو شربت ...اشرب ملكش دعوة .
بعديها عاوزك تكلمها على الأقل مرتين في اليوم , و تدلعها كده ....بعد ده حتيجي تقولك نتخطب تقوم تمشي بمبدأ ( لأ = متخلف ) .....يوميها بقا تاخدها لوحدها في العربية و توصلها لباب القاعة اسمها ( ميراج ) أنا عارف صاحب القاعة حضبط الباقي ...بس أهم حاجة تركب لوحدها و حبعتلك كام عربية ليموزين ينقلوا أهلها ...و من هنا كان ( مكرم ) أفندي مضبط كل حاجة ...هو اللى كلمني على الموبايل و قالي تعالى لوحدك عشان تأخد عروستك ...بس سيبتك و رجعت عشان أفتح الدرج تاني و أدي روحي افراج من الدرج اللى كان محبوس فيه و أديته ل(نادين ) اللي متأكد أنها مش حتسمح لأي حد أنه ياخد روحي منها ...عشان هي تعبت أوي لحد ما لقيتها )
بقى الذهول يجتاح كل قطعة من جسدها , و قمت من مقعدي و تركتها  وحدها كما كانت دائماً و روحت لأستعيد روحي من جديد و تركنا الغرفة و لكن على الباب ..التفت جدي عندما سألت بصوت غاضب ( طب اهلي راحوا فين )
جدي رد ( متقلقيش يا بنتي ...أصل صاحب العربيات ده صاحبي من زمان ...قلت له يتوصى بيهم ..يفسحهم على طريق الواحات ...و مش حتدفعوا كتير صدقيني أصل العربيات نص تنكها فاضي ..يدوب يوصلوا عن الواحة و ممكن يرجعوا ماشيين .....أصل خالد نسي يقولك أنا اللي يخدش بس خالد يبقى الست جمالات داعية عليه و يتذل ذل الدنيا و الآخرة )  
تركتها هي و الغرفة بمفردهما ........

النهاية

mercredi 13 mai 2015

عاصمة الملح و القسوة !! ( الاسكندرية )

عَاصِمَةُ المِلْحِ والقَسْوَة
تذكرت المشهد ثانية على الرغم من صعوبته , اتذكركِ يا هيباتيا و أشتم رائحة دمائك الذكية على أرض( الملح و القسوة) و رأيتك في عيون هيبا الدامعة , لم يكن بمقدوره فعل شئ سوى تأمل روحك تصعد لسماء الراحة فودعك و ترك هذه المقبرة و هام على وجه لا يعرف أين المفر  ........
رجعت لمنزلي كعادة كل يوم , ولم آكل فاقداَ شهيتي لا أرى في باقية هذا اليوم الخير , أشتم تلك الرائحة ....رائحة موت و عزرائيل مُقيم لدينا منذ فترة و أخذت تراودني مشاهد في غاية الدموية حتى أني رأيت يداي ملطخة بدماء ضحية اليوم المرتقبة .
 الطعام على المائدة , جاء الجميع و ينقص الطاولة فرد واحد و هو المِلح ... طُلب مني فأسرعت من خطواتي و نزلت حتى وصلت لأرضية الشارع , فإذ بي أصافح فلاناَ و عِلاناَ و قلبي ينبض مضطراَ خائفاَ من هذا الهدوء و حينها استجمعت قواي المتهالكة من منظر علّق في ذاكرتي و لم يغادرها فطلبت من البائع أن يبتاع لي المِلح لأنقذ الباقية من الجوع ...قال لي انتظرني لحظة من فضلك .
في خلال الحديث , زحف الشياطين ناحية حارتنا و سمعت صوت الأحصنة و لكني لم أرها , الدماء في عيونهم تفيض و تنزلق حتى تصل لأفواهم و يلعقوها بألسنتهم  حتى يظفروا بفريستهم أو غنيمتهم  ...
صوت أم فزعت , جعل عيناي ذاهلتين و حينها لاحظت خروج الجميع من أروقة منازلهم و أرادت عيناي أن تطمئن على عائلتي , الأم مازالت تنتحب بكل ما وُهبت حينها من عافية , فحركتُ قدماي كما هو الحال من سائر الرجال في باقية حارتنا , خطوات حذرة تحمل طيها القلوب المرتجفة من الصوت المنبعث من عقار الضحية.
بكيت عندما رأيتكِ تبكين , لم يكن بيداي ما بمقدوري فعله سوى أن انتزع روحي و أهبها لكِ بعد أن سلب أخوكِ روحك في هذا العراك . الدموع كانت تتنزل واحدة تلو الأخرى لا تعرف السبيل , فقط أرادت أن تخرج من هذا القيد .

رأيته جثة على الأرض , فلقد أتوا به من عُقر داره  الأشبه ببيت العنكوت الهش , تقاذفوه بأقدامهم بعد أن لاحظ الجميع عمق الجروح التي طالت كل جزء من جسده الهزيل و أمطروا بسيوفهم على ظهره و جرَوه على بساط الأرض المحفوفة بقطع الزجاج و المسامير البارزة على أرضية حارتنا و كل منها علقت في روحكِ المسلوبة يا حبيبتي !!

أراني فيكِ الآن رغم أني على يقيني أنني وحدي لن أكفي ...أصبح الفراغ يملؤكِ .
أمك تهُزكِ و أنت صموتة  , قتلتيها ثانية بعد ما أُوخذ منها فلذة كبدها ...كُل هذا و أحدٌ لم يحرك ساكناَ و كأننا في لحظة قيام الساعة التي لم يَحن موعدها بَعد ....
 كأننا أعتدنا المنظر الدموي منذ صلب المسيح , منذ سريان الدماء على جبين محمد يوم أُحُد , منذ هُتكت كل قِطعة فيك يا هيباتيا ...الدماءلن و لم تعرف سوى الأحمر , أحمر الخدين خجلاَ , أحمر القلب شوقاَ , أحمر الوجه غاضباَ . مات كالدابة العليلة , التي لا آمل فيها سوى إعدادها كوليمة تقدم لصعاليك الحيوانات .

ذهبوا و تركوا الحارة الفسيحة ضيقة جداَ من زحام أرواحهم التي انسلخت منهم واحداَ تلو الآخر مع كل قطرة دم ينزفها الضحية  , و عندما آتاني بالمِلح قلت له ليتك جئتني به قبل أن يُملأ لساني به , من مرارة ما شاهدنا و حينها نظرت إليك من النافذة و شاهدتك لأخر مرة ...شاهدت السُرادق المقام في عيناكِ , و المُقدمون لواجب العزاء يصطفون ليجاملوا في فناء روحك الخاوي يا من كنت معنا !!


vendredi 8 mai 2015

صولو

نغمة صولو
رأيتها من بعيد وسط زحام الفرقة كُلها , الألحان عذبة , أضاءت لي وسط المسرح و تلألأت كالنجم الساطع في صحراء ليس بها دليل و لا خليل , انظر لها و الدمع ينساب من الجفون متحسراَ على فقدانها ...ما زالت الألحان تعلق في ذاكرتي الممحوة منذ أول مرة رأيتك فيها . أنتي دائي و دوائي ...

أنتي كل نغمة يصدرها كمانك ...لست مثلهم فلقد تأملتك فرأيتك تعزفين لنفسك و عيناك أغلقتهما لتري ما بطن في عقلك ...أراكِ الآن مرتين , واحدة في خيالي فاقت الجمال جمالاً و الثانية فاقت حور العين تألقاَ و حُسناَ ...لقد مات الناس , هل ناموا أم بسحرك هاموا ؟ تركونا في عالمك بمفردنا و ذهبوا و قد حسُن ذهابُ ....حتى الموتى بعثوا قبل ميعاده , أنتي دائماَ الاستثناء الذي يُبني عليه القاعدة .

سُنن الله عديدة لكني أُكذب كل من يُعسًر حصرها لكنها محصورة في كل تفاصيلك , فبمجرد مشاهدة عيونك البنيتين أرى طين الأراض الخصبة التي نمت فيها أعّطرالزهور. أرشدك القائد بعصا فأبيتي و رغبتي عنه و سِرت بمفردك , كل الحضور أتبعك و أتخذناكِ رسولاَ , فُتنا بك فما أحلاكِ فِتنة .

راحت عصاك السحرية تطيح بعقولنا , من جم محاسنك التي لم تُحصى , فقدت  ألسنة الشعراء كل كلمات الفصحى . هل لي بديل سوى تأملك ...من عذوبة أوتارك تتجلى مفاتنك .

عبداّ مستعبداّ وُلدت في عالمك و أنت إلهاته , قُيدتُ بأغلال الافتتان و أُودِعت زنزانة عشقي . تملكين مفتاح , لتوصدي به القيود . فما ذنب الطائر , ينظر من خلف قضبان محبسه .....تمنى لو حتى باتت عيناكِ ملجأه .

تذكرتك اللقاء قبل أن ألقاك ...ألفتكِ دون أن أعرفك ...كفاني تبسمك و أنتي لا تنظري ...غفوتي فمات الجميع حزناَ على فقدانك , حين ماتوا أفقتي دون أن يدركوا لتسأسري بالدنيا و تجلس بجواري في حبسي تتأمل قمرك و سماكِ .

أنتفض الملأ و أنفضوا بعد تصفيق حار , كل فرقتك أنحنوا إحتراماَ إلا أنت , فكل خرّ ساجداَ أمامك . اعذريني فلم انحني , لكن روحي قد أديت الصلوات حباَ و تقرباَ لا فرضاَ و إدعاء . سبقت الروح الجسد لتلحق بآخر صف في مسرحك ليتمعنك , ليخاطبك , ليقتل الهيبة التي تُحيطك . رُحت فاحتضنت نغماتك و سلبت منك اللحن و جعلتك ترتجلين ...


ما أحلاه إرتجال ...ما أروعِك نغمة !!
من هنا بدأنا بارتجال اللقاء القديم لكي يتم تنفيذه .  

mardi 5 mai 2015

الحكاء

الحَكّاء
يتنامى إلى أذاننا عبارة ( الأيام تُنسي ) و تلك الجملة لا تنطبق على ما هو على وشك الحدوث إطلاقاً . أتذكر ما يعجز من يكبرني عن إستذكاره , و ليس كل ما ترى أعيننا هو عين الحقيقة و اعتقادي الذي لا يساوره الشك , أن الدُنيا برمتها ما هي إلا صدفة دربها خير مدبر , منا مَن يرى في الفرصة حظه الوافر و من يجد نفسه مفلس الفرص و لكنه مفلس الأمل . يبدو الكلام عبثي بعض الشئ , غير مرتب الأفكار , غير مترابط أو متماسك في طرحه , لكن صدقوني ما هو آت جعلني مندهشاَ حتى أنني تلعثمت و راجعت نفسي مراراَ و تكراراَ حتى كدت أتراجع و لكن عقدت نيتي و بللت أوراقي بحبر عيون التي شاهدت كل ما هو آت .
طَرْق باب منزلنا , دفعني للقيام من على المنضدة التي اضجعت عليها مشاهداَ أخر الأخبار في العالم الدموي الذي سيطر عليه الخبل و الجنون و اللامعقول , فتحت الباب دون أن اثقب نظري من ( العين السحرية ) لمعرفة من الطارق . فإذ به أمامي , هذا الكائن البغيض , ( هشام ) ابن ( عم محمد ) مالك عقار العائلة القديم في ( الحسين ) , هذا الشئ أمقته منذ كنا صبية , حبست أنفاسي فهو _كالعادة_ لا يحمل لنا سوى الكوارث . قابلته بفم مشدود بحِبال المجاملة و التأدب , و من ناحيته فبادلني بسمتي السمجة بوجه لا يعرف سوى الصرامة و الجدية .
قُلت : اتفضل يا أستاذ ( هشام ) ميصحش  من على الباب ؟
قال لي بصوت معتدل النبرة , و أخذت الابتسامة ترتسم على وجهه العابس طوال الوقت :
_معلش , فرصة تانية , أنا بس عندي رسالة كُنت عاوز أبلغ الأستاذ (سمير ) بيها .
_لا الحقيقة , بابا لسه مجاش , بس أنا أوصل له الرسالة , خير بقا إن شاء الله ؟
هو : _آخر الأسبوع , العمارة حتتهد , جالنا إخطار من الحي و فيه أمر إزالة ...جيه من حوالي أسبوع كده بس كُنت مشغول و قلت أديكوا خبر .
تمنيت سماع خبر وفاتك حينها يا ( هشام ) و دعوت الله لحظتها بخشوع و خضوع لعلنا نستريح من أخبار المشؤومة على الدوام . كُنت حينها محتقناَ جراء الخبر المحزن , رأيت أطلال المنزل تسيطر على شارعنا الواسع , هذا الشارع الذي كثيراَ ما تقاذفنا فيه أزقته الكرة و تعناقنا و تعراكنا و تبادلنا العناق في كل عيد , رائحة ملابس العيد ما زالت عالقة في أنفي لا تغادرها , كل هذا استحال إلى رُكام سيؤول في النهاية إلى محزن القمامة .
استعار انتباهي قائلاَ: حضرتك معايا يا أستاذ ( حسن ) ؟
_معاك ... متقلقش بابا يجي بس و أقوله  و قبل آخر الأسبوع حيكون البيت فاضي ...شرفتنا !!
أغلقت الباب في وجه البغيض دون إلقاء السلام , حتى أحدث صوت جذب أمي و سألتني من كان الطارق ؟ فقلت لها : ده الواد هشام ابن صاحب بيت جدي .
هي : - يا نهار اسود ...و جاي لينا ليه دلوقتي ..خير يا حسن ؟
أنا : -هو ده اللي يشوفه ..يشوف خير أبداَ يا ماما ...الشحط جاي يقولي أن البيت جاله أمر إزالة ........
ارتدعت أمي و الخوف تغلغل ليسير في كل شربان و وريد حتى كادت تتحول لجثة هامدة , خوفها لم يكن متمثل في الهدم بل في رد فِعل والدي ...نبضات قلبها جعلها تجلس على الجزء المتح من المقعد على طاولة الطعام المُحضرة لتستقبل بها أبي .
حضر الوحش الكاسر , بدت ملامح الإرهاق تتسرب من بين تجاعيد وجهه الشرس , السواد يحاصر عيونه من افراطه في عمله , و الملحوظ يومها تبينته فقد أصبح الأسد بلا مخالب . مائدة الغداء على أهبه الاستعداد , لم أتفوه بحرف كما هو الحال من أمي و أختي اللتين أخذتا في الإنكباب على الطعام  و العيون كلها تراقبني , تنتظر مَن سيثير هذا الثور الذي على وشك الهياج في القريب العاجل كما تشير التوقعات . حينها ترددت ملايين المرات و لم أعرف ما إذا كان هذا الوقت المناسب لإذاعة الخبر التعيس . حسمت قراري حتى اتخلص من العيون المتربصة , و بكل ما أُوتيت من شجاعة , بادرت بمحاولة لجذب انتباه هذا الرجل الذي لم يعد يتحمل المزيد من الأعباء و ترسبت الهموم تحت أغصان الجفون الهشة التي خلت من ثمار السعادة و التفاؤل .
انا:-بابا, مش هشام ابن عم محمد صاحب البيت جالنا انهارده ؟
حينها أبي غرق في شروده , فلم يهتم و اصبح أشبه بالطائر المُغرد خارج سربه . ساعدتني أمي في محاولة إنعاش الرجل المُغيب منذ دخوله لبيتنا كأن أبي استبدل نفسه بشخص بين الحياة و الموت , قالت له :
-سمير ...حسن بيكّلمك .
استفاق و حوّل نظره إلىّ و سرعان ما أمسك بريشة و هو في عجلة من أمره و رسم ابتسامة على وجهه , ابتسامة لم تُضف سوى شذوذاَ للوحة معنونة ( لقت نفسي مصرعها بسبب سهام متاعبك أيتها الملعونة ) قاصداّ دنيته التي ضاقت عليه .
_ايوه , يا حسن , معلش مأخدتش بالي ..كنت بتقول ايه ؟
-هشام جالنا انهارده .
اه , كويس جالنا ليه ؟
قصصت له المعضلة و رأسي منكسة متفادياَ بذلك إنفعال غير محمود العواقب , الذي أذهلنا أن رده جاء على الفور بعد أن علم بالخبر :
-تكلم ولاد عمامك و تروحوا الشقة بكره و تفضوا الشقة من أي حاجة قديم .
تكلمت من لم تفتح فمها منذ صباح اليوم , مستنكرة ما قاله لتوه , قائلة :
-يعني ايه خلاص كده ... و أنت  مش حتروح معاهم ...ده بيتك حتسيبوا يتهد كده ... معقول يا بابا ؟
وضع آخر كسرة خبز أمامه , و دفع الصحن للأمام و قيامه من المقعد أصحبه بحركة رأس للأعلى قائلاَ:
-الحمد لله ...أنا حروح أنام تصبحوا على خير .
سألنا أمي _أنا و أختي_ما خطب والدي , ردت أنها ليس على دراية بما يدور في خلده تلك الأيام , فقد أصبح شبحاّ و أمرتني أنا أطيع و ألبي طلبه في أسرع وقت و كما ينبغي .
بالفعل رفعت سماعة هاتفنا , و حدثت كل من هو معني بالأمر و الحمد لله ظفرت بموعد مناسب للجميع و جمعت شمل شباب العائلة الأشداء , للقيام بمهمة البحث تحت أنقاض البيت الذي لم يُهدم بعد .....
صبيحة اليوم التالي , كلمت من هو أصغرنا سناَ , (مروان) , مراهق في آخر سنة في المرحلة الثانوية , لايعنيه شئ في الحياة سوى إشباع رغباته و احتياجاته , أخبرتني والدته عندما هاتفته مرة أخرى على البيت أنه يكِد و يتعب و هو الآن يتلقى درساَ و يمكنني أن أحدثه في غضون ساعة من الآن إذا استدعى الأمر , غير هذا فعلىّ أنا انتظر ( المحروس ) , فألقيت السلام كختام و ضحكت لأنني أعرفه جيداَ , من أهم سمات هذا الشخص هي الرعونة , فطلبته على الفور على هاتفه المحمول و بسرعة جاء الرد بصوت يُحيطه صخب موسيقى في منتهى الارتفاع و بدأ الحوار الذي لم يستغرق طويلاَ :
هو:-ايوه يا حسن , عامل ايه يا معلم ؟
أنا :-الحمد لله يا مروان , كلمتك عالبيت , أمك قالت لي أنك في الدرس .
هو:-آه طبعاَ , أنا في الدرس أهو , انت مش سامع .
أنا:-درس ايه ده اللي صوت الأغاني أعلى من صوت المدرس ؟
هو : آه درس موسيقى (أسديكي )
أنا : المهم بس , عندنا مشوار لازم نقضيه في بيت جدك و أنت حتيجي معانا أنا و ولاد عمامك , و الحوار ده حيتعمل النهارده .
هو:-يا معلم , أنا دايس معاكو في أي حاجة ....طب سؤال ...بما إننا حنروح لوحدنا ممكن أجيب معانا واحدة صاحبيتي ..أهي تعملنا شاي أو تراجع لي درس الموسيقى ؟
أنا :- اقفل يا بني , الله يرضيك .
مروان هو مَن يتقن فن الدعابة و كان جدير بأن يآسر قلوب عائلتنا التعيسة ليبعث فيها الحياة مرة أخرى , و أحببتْ فيه أنه محب للحياة , مهم ضاقت عليه و كشرت عن أنايبها فيقابلها بإحدى نكاته فتمطر السماء بدموع الفرحة و الابتهاج .
حان الدور على ( علىً) , هذا الكائن السَمِج الكريه الكروه , البغيض المبغوض من قِبل جميع أفرا عائلتنا الكريمة .
 دنياه متمحورة حول أموال والده التي تأتيه فلا تكفيه . حيث أن السفه بلغ ذروته في حياة هذا المهندس , صاحب راتب 3000 جنيهاَ , و لكن حقاَ كيف تكفيه و هو مبذر بطريقة غير طبيعية , ملابس ذات علامات أصلية تقضي على نصف راتبه بالإضافة لثمن الإقامة في إحدى أفخم الفيلات في مدينة الإسماعيلية بعد أن استقر هناك حتى لا يكون بمنأى عن مقر شركة البترول . أمسكتْ بلجام أعصابي حتى لا ينفلت مني أي لفظ بذئ يُؤخذ علىّ بعد ذلك , أثناء محادثته و شرعت قائلاَ :
أنا :-ازيك يا باش مهندس , (حسن) ابن عمك .....معلش أنا عارف أنك مشغول بس لاوم تيجي انهارده معنا أنا قلت اتأكد انك منسيتش .
هو : ماشي , رغم أني كان وراي حاجات كتير بس لازم أجي عشان أنا وعدتك ....مع السلامة يا حسن .
أغلق الخط , و معه تماسكت و تمسكت بأوتار قدرتي على  التحمل و التحكم . و أما بالنسبة للأخير , فهو ( لطفى ) الفرع الصعيدي , الطيبة تبلغ مداه عنده , على سجيته لا يعرف في قاموسه الفكري شيئاّ عن ما يُسمى الحقد أو النفاق أو الكراهية , أنا أعشق هذا الرجل الذي يكبرنا جميعاّ سناّ و يسبقنا في طريق الصلاح و الاستقامة , رغم ذلك كان في نظر أفراد العائلة ورم في جسد معافى , خصوصاَ عندما تقدم لخِطبة أختي و رفضته بشدة أدمت قلبه , كان دائماّ محل سخرية لشباب و فتيات العائلة .
و لكني عندما أخبرته , قال لي أنه على أتم الاستعداد سيكون في انتظاري في الموعد المحدد و المكان المُتفق عليه و طلبه أن يتأخر الموعد ليكون بعد صلاة المغرب حتى يناسب موعد قطار الصعيد القادم للقاهرة .


الساعة السادسة و النصف .......تحديداَ أمام عقار متهالك في منطقة الحُسين
تقابلنا و لم ألقى ترحيباَ واسعاَ إلا من الرجل قمحي البشرة  , الذي ضمني بين يديه كأنني ولده المفقود منذ قرن من الزمان . أمامنا عقار خاو على عروشه , كُتب على جدرانه الملطخة بلوحات إعلانية قديمة و مقطعة ( هذا العقار إيل للسقوط , و هناك أمر للهدم بترخيص رقم .......)
خُضب العقار بلون رماد الموتى المحترقين شوقاّ للرجوع لتلك الأيام الخوالي . دلفنا من بوابو الدخول الضيقة التي تسع سوى لفرد واحد ذات الدُلف الشاهقة في ارتفاعها , عثرنا ,بعد ما تعثرنا بها , سيدة تشبه النساء الحبشيات لا يعرف وجهها أى جمال , كانت مثبتة على أولى درجات السُلم و تسُد الطريق بجسمها المترهل , و العباءة الواسعة كادت تتمزق من إفراط السِمنة التي تعاني منها بالتأكيد تلك السيدة الشائخة . القينا السلام فلم تبادلنا إياه و نظرت إلينا و الدموع تهطل من كل جفن متخذة خديها طريقاّ للتنجرف فيها و تصل إلى فمها الذي تغطيه حبات العرق .
السلالم كانت في منتهي الضيق , متسخة من قلة المارين بها و بات الضوء الخافت ينزوي رويداّ رويداّ فتصاعدت أضواء القمر الدافئة _ على غير العادة _ في تلك الليلة الباردة , في هذا العقار الموحش حيث شدّت الأشباح الرِحال و غادرته و لم يتبقي سوى ثلاثتنا .
وضعت المفتاح في مكانه , فإذ بالباب ينسلخ من موقعه و تفر الحشرات و الجرذان لتعود إلى جحورها مرة أخرى خوفاّ من صرير الباب ليس إلا . أوقدت الأضواء في الشقة المجهورة , ليتضح لنا ملامح الغرف قليلة العدد في ظل سواد يطوّق المكان بأكمله  ... حينها استعدت مع هذا النور تلك الذكريات , لدرجة أني شاهدت طفلاّ يشبهني تماماّ يجري في طرقات الشقة الضيقة معتبراَ إيها في عرض السبع قارات ...يجري هنا و هناك و روحه تمتلئ بالنشوة حتى كاد يطير و يرفرف بضحكته الصاخبة التى راقتني كثيراَ .
طلبت منهم أن يدققوا البحث , حتى يعثروا عن شئ ذو قيمة و أن يتركوا ( الخردة ) و بالتأكيد لم يضف ( علىّ ) المتعجرف الجديد في بحثه سوى بعض الملابس البالية و أما ( مروان ) فسأل : هو ليه إحنا بندور أصلا .. ما هو البيت مفيهوش حاجة و كده كده حيتهد بإذن واحد أحد ؟
أجابه ( لطفي ) بلهجته الصعيدية و بانفعال شديد و عنفّه قائلاَ : ممكن تسمع الكلام و متتكلمش خالص و تدّور كويس .
تركتهم و هم في خضم هذا الحوار سريع الوتيرة , دخلت إلى غرفة نوم جدي لعلي أجد ما هو نفيس ... لم أجد سوى بعض الجلاليب و المصاحف و أذكار الصباح و المساء ...كلها لا تنفع سوى عبداّ مؤمناّ ينهي فترة عقوبته في الدنيا ليستريح في دار الخُلد . أنزلت رأسي لأرى ما يوجد تحت السرير ..عثرت على صندوق كبير بعض الشئ و أخذت يدي تنغرس فيه لأنال منه أي شئ , كُلها ( كراكيب ) ....لكن استعادت الأمل حين وجدت كتاب غمر التراب سطحه و ستر عنوانه الذي كُتب بخط منمق فأحبتت هيئة الكتاب .. فتحت أولى الصفحات .. كانت الصفحات لونها مائل للإصفرار , مكتوب طيها ( لمَن يهُمه أمري ) . انتفضت من جلستي و استحوذت على الكتاب في حقيبة كنت أملكها حينها فأخذت الكتاب خِلسة دون أن يلحظني أحدهم . انتفض من جلستي و أمرتهم بالإكتفاء عن هذا الحد و أن هذا يفي بالغرض . قرأنا الفاتحة قبل أن نغادر على روح العقار الذي سيلقى حتفه فى غضون أيام .
خبأت الطتاب في مكانٍ ما في غرفتي , لن يدركه جدي نفسه , و شرعت في فتح الكتاب و كلي فضول لأعرف المزيد عن هذا الشخص من خلال حبر كلماته الصادقة و حروف مشاعره و وجدانه

الفصل الأول

( أحلى ما في الحدث ذكراه )