jeudi 27 août 2015

أريد هذا الكُفر

أتركيني بمعاصيّ


1) أُدعى حوّاء
جدول الأعمال ليس مكتظاً اليوم لدى الدكتور أخصائي الطب النفسي , ذو الصيت الواسع  في المنطقة العربية  و إن لم يكن في عالم الفرنجة . في غرفة مُغلق بابها حرصًا على خصوصية المريض أو طالب الاستشارة , جدرانها مطلية بلون أخضر يشبه تلال حشائش غابات افريقيا وسط  حسيس اللهب المنبعث من المدفأة المنزوية في آخر الغرفة  تحمل حطب يبكي بدخانه الرمادي حزناً على ما يسمعه من معاناة القادمين , في حين تمتص الجدران الخضراء ناتج الدخان الهارب من مسار خروجه الأساسي أعلى المدفأة , النور لم يكن خافتًا بل الإضاءة مناسبة تمامًا و الجو مُهيأ لأي أحد ليدلو بما كفرت به روحه المؤمنة . تدخل السكرتيرة المسئولة عن مواعيد الدكتور بخُطى واثقة متسارعة لتلقي على الطبيب الأخبار واحد تلو الأخر و هذا لا ينُم سوى عن خبرة اكتسبتها بعد مزاولة هذا العمل يوميًا , خمس أيام أسبوعياً , من الرابعة عصراً للحادية عشر مساءً .
 يُحسِن الدكتور ( عادل ) معاملتها و لا ينقص لها أجرًا حتى و إن نقص عدد المرضى و قلّ إيراد اليوم .
سألها على عدد المرضى المتبقي فقالت " انتهينا اليوم " و هو يقرأ كُتيب بعنوان ( أساسيات العلاج المعرفي السلوكي ) و أمامه على الحاسب المحمول الخاص به ملف كتابة بعنوان ( أساس العلاج السلوكي المعرفي و كيفية تفسير الأفكار ) .
 كان عقله كله مُنصّب على القراءة ما يكترث به المعالجون النفسيون , و هذا ما ميّزه دائماً عن باقية زملائه و جعله يتمكن من نيل مرتبة علمية لا نظير لها في الشرق الأوسط بالكامل .
 يتردد على عيادة الدكتور ( عادل ) أصحاب المال و الجاه , أو بالأحرى من يملكون ثمن الاستشارة , نُخبة المجتمع أغلبهم من النساء و لكن أعقدهم من الجنس الذكوري , فالنساء إذا لم يجدن ما يشغلهن, يشغلن نفسهن بأنفسهن .
صوت كعب حذاء يطرق بعنف على أرضية العيادة السيراميكية جعل القصة تبدأ , أمر ( عادل ) السكرتيرة الحسناء بأن تتفقد مصدر الصوت , فراحت الفتاة المثيرة و أخذت الباب وراء ظهرها .  تركت عيون (عادل ) مؤخرة الفتاة مع إغلاقها للباب و رجعت مرة أخري لتُكمل ما بدأه في الكتيب و يظل على إطلاع بطريقة العلاج المستحدثة .
مواء قطط شوارع يسمعه ساكن الغُرفة الخضراء , صَعُب عليه التركيز في القراءة و جعلها مهمة شبه مستحيلة .
صوت السيدة عالٍ , يخترق طبلة الأذن و يحجب موسيقى الغرفة الناعمة الفاتنة . أرتاب الطبيب و قرر أن يخرج ليرى ما يحدث , خرج ليجد السكرتيرة مكبلة بأحبال غسيل رفيعة لونها أزرق سماوي , و فمها مغطى بلاصق أسود اللون , و الأرجل مقيدة بحبال حديدية تلك المرة مربوطة بأحد أعمدة المكتب الخشبي المغطى بدفاتر تحمل مواعيد المرضى المختلين و الناقمين .
انذهل الطبيب للمشهد و لم يهُب للمساعدة و اعتقدَ أن العيادة قد دُوهمت من قِبل لصوص , و عندما استعاد وعيه من غفلته القصيرة و حزم امتعة عقله و قام برحلة لموقع الحادث على أرض الواقع .
أزال اللاصق أولاً , و تلقى صراخات مستمرة من الفتاة التي تميزت طوال سنوات العمل بالرصانة و رجاحة العقل , و استمر في فك القيود و قَطَع الحبل الازرق و تبقى الحبل الحديدي و حينها انقطعت صرخات السكرتيرة و قالت بصوت أبى أن يترك نبرته الصارخة ( على المكتب ....المفتاح ها هو ..أطلق سراحي ) . فعل الطبيب ما اُمر به و ملامح الارتباك ظلت تداهمه , كأن عقله بحر و علامات الاستفهام موجات تعصف بغريق مثله , لا يلبث أن مرّ بأحداها حتى تتمكن منه تاليتها .
استأنفت السكرتيرة الصراخ و دفعت الطبيب الذي حاول أن يحتوي تلك الهستيريا , و حينها طُرح أرضاً و لم يفهم لِم تقوم بذلك و هي تهرول حافية القدمين على سُلم العيادة ( لا ...لا ... لا ) .
تساءل الطبيب ماذا حل بكِ ؟ كنت عاقلة و استوعبتِ جميع مرضاي و لم يمسسك أعنفهم شذوذاً بضرر ؟ و ما مصدر الصوت العنيف ؟ أين الكعب الذي دق على أرضية العيادة ؟ ...
اعتصر رأسه لكي يرى إجابة في العيادة الفسيحة الخالية من البشر إلا من واحدة ...
كانت تجلس على أريكة , سيدة وجهها لا يعبث فيه أي نوع من المشاعر , لا تجد سعادة لا تجد حزن .. كأنها بيت مهجور منذ مدة لا تقل عن قرن من الزمان .
 السيدة بائسة بؤس آخر عبد يُحاسب فلا يلقى النار و لا الجنة فيكتفى بالجلوس على الصراط باتزان دون أن يشهق أو يزفر أنفاساً عميقة .
تنزوي و لم يظهر عليها أي شيء غير مُعتاد على سيدة وصلت لسن اليأس و قاربت الخمسين , الشعر قصير و مصفف بعناية  لونه أميّل للأحمر القاني , و العيون فسيحة قد تتحمل جيش من المتأملين , الجسد يُلائم الثياب الضيقة التي أبرزت احتياج جسد تلك المرأة ليد مغتصب أو قول متحرش يبغض الحلال .
ترتدي عُنقود من الماس الساحر المتدلي ليصل إلى مفترق طريقي نهودها و ساعة مُرصعة بألماظ حقيقي , و شحمة الأذن التي يتدلى من ثقب ليس كبيراً القُرْطُ (أيْ مَا يُوضَعُ مِنْ حَلْيٍ فِي الأذُنِ ) .
 صامتة كانت , لا تتفوه بكلمة , اقترب ( عادل ) ليسمع منها ماذا حدث فهي الشاهدة الأخيرة , و من يدري قد تكون هي أصل الحادث ؟ ما إن دنى منها حتى قالت بانتفاضة و ابتسامة بلهاء
لِم لا نتحدث في غرفتك ..فنجعل الحوار بين الزائر و طبيبه أكثر خصوصية ؟
( عادل ) : أنني لا أمانع ..
قالها بتردد و لكن هذا ما خطر بباله حينها .
مدت إياه بيد ناعمة تحمل خاتم أبيض يتلألأ كالنار في حطب المدفأة و بدأت بداية القصة
( حواء ) : أدعى حواء .. لا امتلك اسماً لتدليلي , فمن يحتاج لمن يدلل هذه الأيام .
( عادل ) : اسم مثير للاهتمام , اثنين فقط أعرفهم بهذا الاسم , أنتِ و أمنا الأولى .. إذن فكان بودي أن أقدم لكِ مشروباً تحتسيه و لكن كما رأيتي هرعت الفتاة و لا أعرف لِم ..ليتكِ كنتِ تعرفين لما فعلته سبباً .
( حواء ) : أنا لم أفهم ما أصابها , أجلست نفسي على المنضدة و رأيتها مكبلة و تستغيث بي و ما إن قمت فإذ بك تنقذها ..أظنها مموسة .
اضطرب حينها الطبيب من نظرات الزائرة , و أخذ يلجأ لما تعلمه من علامات و أعراض أمراض نفسية و لكن المفاجأة أطاحت بكل ما ثبت من علوم في رأسه و قال في صمت أنه عليه أن يهدأ حتى لا يضر نفسه و لا تتركب تلك السيدة المموسة أي حماقة .
( حواء ) : فلتعطيني شرف إعداد بعض القهوة لكلينا و لكن دلني على المطبخ في تلك الشقة الفسيحة متباعدة الأركان .
( عادل ) : أول غرفة على يمين الردهة .. و قهوتي زيادة .
جاءت بالقهوة في دقيقة , و وضعتها على المكتب بهدوء و طلبت مني المفتاح قائلة : أريد مزيد من الخصوصية ... أعطني مفتاح الغرفة أين هو يا دكتوري الفاضل ؟
( عادل ) : ها هو ...
و حينها أغلقت الباب بعنف و خلعت ملابسها كاملة و أصبحت تشبه أمها تماماً ...انتفض من كرسيه ( عادل ) , سألها :
ماذا تفعلين ؟ لماذا تتخلصين من الثياب ؟
( حواء ) بكل هدوء أعقب عاصفة التجرد : لا تقلق , فإنني لست سادية و لا أهوى أن يعتليني الرجال , فقط أردت أن أشعر بالبرودة .
( عادل ) : من الممكن أن أخفض درجة حرارة المكيف و لكن من فضلك غطي جسدك .
( حواء ) : لِم يا عادل , أكنت تستحي من امرأتك يوم زفافكم .. أنا أراك في منامي وحشًا كاسرًا يخرق جسد زوجته بلا شفقة و لا أدني رحمة .. فقط تتلذذ بنشوة الفراش .
( عادل ) بوجه واجم و عابس و صارم , قام و أحضر معطفه الأسود و اتجه نحوها ليحيطها به ..دفعته و قالت له :
أنت تغطيني لأنك ضعيف لا تقدر أن تغض من بصرك ...و لكن لا أجعلني أخبرك الحقيقة ..أنت تشتهيني و أنا متمنعة ..هيا ضمني ..ضمني ..احتويني يا بن آدم .. لا فنرقص أنك بارع أيها المعالج .
( عادل ) لم يتمالك نفسه و أخذ يمسك , بقدر ما أستطاع , بأطراف المرأة ذات الجسد العاري و كاد يغرس حقنة مخدرة في يدها حتى تهدأ و لكن الامتناع بدى مشهوداً في عيون السيدة و يدها المضطربة التي لوت بها سن الحقنة فلم تنجح عملية التخدير ...وجد نفسه ( عادل ) آسير لديها .
( حواء ) تردف بنبرة مختلفة , أكثر عقلانية تشبه اللحظات الأولى لها في العيادة : لِم أنت واقف ؟ فلتجلس يا دكتور و تجعلني أسرد لك مشكلتي .
( عادل ) بخضوع و هو مسلوب الارادة : تفضلي , كلي أذان صاغية .
( حواء ) : يُدعى آسر , زميل لي منذ أيام الجامعة , كنا ندرس سوياً في جامعة القاهرة الطب , أول سنة له لم تكن يسيرة فهو مغترب آتى من قريته حاملًا على كاهله آمال لا حصر لها و لا عدد ينتظرها منه أهله , لم أتعرف في حياتي على شاب و لم يراودني أبداً إحساس الاعجاب و الرغبة في خوض الحديث مع أكثرهم وسامةً و المرة الوحيدة التي شاهدت فيها شاباً و راقني , كان هو آسر , دوماً العيون تتبعه أينما كان , و كنت حينها اترصد كل حركة يقوم بها . لمحت في عيونه الاختلاف عن باقية الدُفعة , ميله للانزواء بعيداً , عدم إهتمامه بأحد , لم يجاوره صديقًا سواء صالح أو طالح ... كانت البنات عندما يتحدثن , لابد من وجوده داخل سطور الثرثرة تلك , لم أكن أبدي لهن أي اكتراث عندما تأتي سيرته و حينها انسحب حتى يخوضون في أمر آخر .
لم يغب عن المحاضرات يومًا , على الأقل تلك المحاضرات التي حضرتها , على الرغم من ذلك لم ينتفع منه أحد من المجموعة بحيث يظفر بملحوظات يدونها ... حتى البنات بمختلف أنواعهن , تأتيه العنيفة الصاخبة فتطلب منه شيئاً فيسبها على الفور , تأتيه اللعوب بثياب أنيقة و عطر يثير جسد البالغ فيدفعها بوصفه الساخر لما تفعله فيُحولها لإناء مليء بضحكات الاستهانة , ثم تأتيه أعقلهن فتراوغه لتكشف عنه غطاء الغموض و لكن كالعادة تُصاب العاقلة تلك بالجنون . حينها لم أفهم ما سبب ذلك , الرجال كلهم يحبون رجاء و اشتهاء النساء لهم و يعشقون تقمص دور الفارس ذو الحصان الأسود . فما بال هذا الصعلوك يغيّر من سنن اعتادها الناس ..شككت هل هو شاذ ؟ لكنه لا يسعى لعقد الصداقات مع أبناء جنسه ...
مرت أولى أيام الجامعة و نحن بين المحاضرة و الأخرى , و بين المعمل و الأخر , ضعنا في تفصيل الدراسة و لم يعد أحد يكترث بأمر صديقه من أجل الإجهاز على وحش دراستنا المستعصية .  هل مللت من القصة ..أم اتابع ؟
(عادل) : لا أنا في غاية الانتباه ..تابعي
أمسكت بكوب القهوة التي أعدته و غرست سبابتها في عمقه و حصلت على البن المتبقي في قاع الفنجان و لُطخ الاصبع بالكافيين المائع , فمسحته بلسانها المبتل من آثر اللعاب و جعلت أحمر الشفاه يُلوث ببعض حبات البن المطحون , في حركة لم يفهمها الطبيب و عاد الارتياب يصيب ذهنه ثانيةً بعد أن سلبته القصة إياه
, فتابعت السيدة ( حواء ) الكلام :
_ انتهينا من امتحان العملي لمادة ( علم الحيوان ) , فأدرت ظهري لقاعة الامتحان المليئة بروائح ناتجة عن تشريح الضفادع و الأرانب , فوقفت مع إحدى الزميلات نتكلم عن مدى صعوبة الاختبار , ثم تركتها و ودعتها متخذة طريقي لأبي الذي سيقتادني للبيت بسيارته الفارهة , صوت نباحه و أنفاسه المتقطعة وصلني من بعيد حين أتخذت ردهة الكلية الطويلة المحفوفة بالقاعات و أحياناً دورات المياه .. و بالفعل علامة دورة المياه تصدر هذا الصوت الذي بعث لي عن مدى هشاشة مُصدره . جالساً القرفصاء على أرضية الدورة المبتلة , و خيط المياه الرفيع ذو الخرير الخافت الذي يعلو صيحاته الداخلية ...

2) سكين مغروس في قلب مفتور

من ثم سمع ( عادل ) صمت مقيم من السيدة , ظن أنه لن يطول و لكن خاب الظن و حينها انتظرها حتى لا تباغته بأفعالها غير المتوقعة , و مرة واحدة سكتت أنفاسها و تحول الشغف الذي سيطر عليها إلى خوف و عيون يظهر بياضها واضحاً يشوبه شعيرات دموية , انتفضت و هي عارية لتربك الطبيب مجدداً و نظر حينها إلي جسمها المصاب بالترهل من أقدامها السمينتين إلى العنق المرصع بالماس المصقول و القدمين المتشققين آثر أمواج الشيخوخة القادمة من محيط النهاية .
همت واقفة بثقة آلهة السماء و الأرض و لم تتابع القصة و اكتف بهذا القدر و اتجهت نحو جهاز الباعث للموسيقى الهادئة و الذي يذيع المقطوعة التاسعة لبيتهوفين و مقطوعة الفصول الأربعة لفيفالدي .
أوقفت الموسيقى و نظرت للطبيب و هو لا يدرك أين المفر من تلك البلهاء ؟ هل يقتلها و يتخلص منها العالم بأكمله ؟ أم يتحول مثلها لمموس و يترك العالم العاقل برمته ؟
أخذ يفكر و هو يتأمل كل جزء في الجسد العاري الفاضح لكل ثغرة في جسد السيدة المتهالك ...لاحظ ندوب و جروح لم تشفى بالكامل و احمرار منطقة الظهر .
أستعادت وعيها و قالت :
- لاحظت أن الأطباء النفسيين يديرون الموسيقى الهادئة دوماً , هل لأنهم يحبون سماعها أم أنه أمر يساعد على علاج المريض ؟
(عادل ) : لا أعرف لأكون صادقاً معك , و لكن ما أعرفه أن وقتي لن يسمح لأن تمتد الجلسة لأكثر من ذلك يا سيدتي , و أنا أعدك بتحديد موعد آخر لجلسة جديدة تكون في القريب العاجل .
( حواء ) : أنا أبحث عن موسيقى صاخبة , هل تحب موسيقى البوب ؟ هي ممتعة لأنها تُعبر عن ما يدور في خُلد العامة .
( عادل ) معنفاً إياها فاقداً كل أعصابه  : أليس كلامي واضحاً , سأتركك هنا و أطلب الشرطة و أودعك أقذر غرفة في مستشفى العباسية ... هل سيرضيكِ هذا ؟
جاءت المرأة بخطوات ثابتة و مستقيمة , متجهة نحو الطبيب و كلما اقتربت قام من على المقعد رويداً رويداً , و اتجه صوب نافذة الزجاجية المغطاة بستار بنفسجي قاتم , أسرعت من خطاها ثم فجأة هرولت ناحيته و حينها قام من كرسيه و قفزت عليه كالفهد عندما يفترس الغزال , و سقطت بأعضائها كاملةً عليه و قالت بصوت هامس :
- لِم تحكم على صحة عقلي قبل أن تناقشني ؟ أنت ظالم يا أيها العادل ؟
( عادل ) : من يفعل تلك الأفعال بالطبع هو مخبول , لا تحتاجي لعلاج أيتها السيدة , فإن هذا العالم لا يُلائمك .
عندما انتهى من كلماته , زفرت في وجهه نفساً في أنفه , اشتم الرائحة فراقت له , و بينما أراد جسده أن يعتصرها و يكسر لها كافة الضلوع فتكف عن ارتكاب تلك السخافات .
قامت من على جسده بأشيائها , و استطاع حينها أن يلتقت أنفاسه و إن كان هذا عسيراً بعض الشيء .
رجعت و أدارت موسيقى غير هادئة تبعث بالبهجة و تثير الجسد للرقص , و رجعت لتلتقط ثيابها من الأرض و غطت أغلب مناطق العورة و جلست و لكن تلك المرة على الأريكة بنية اللون ذات الساعدين البارزين فانبطحت على بطنها و قداميها تترنحان , يعليان مرة و يهدأن مرة .
 طفح كيل الدكتور و قال لها :
- ماذا بعد ؟
( حواء ) : تبدو لي أنك إنسان تسأم سريعًا , و لا تظهر بعض الاحترام لزائريك .. دعني أخبرك شيئاً , أنا طبيبة أيضاً و لكني جرّاحة يلقبوني مرضاي ب( خفيفة المشرط ) , فلا تجعل مشرط لساني يصل إليك و أصبر فإن الله مع الصابرين .
( عادل ) : إن صبروا يا امرأة ...
( حواء ) : إذاً لا تصبر و سألقنك درس الصبر ... هل نبدأ ؟
قامت و جسمها شبه مستور بمعطف طويل , و ظفرت بمشرط جراحي و اتجهت نحو المذياع الموسيقى و علّت من صخب الموسيقى إلى آخره .
 صوت استغاثته ذاب في خضم هذا الجو المشحون بصياح النغمات . هي تعود إليه بهدوء و هو يهرع كالصبية الصغار عندما يُداهمهم العفاريت و أخذ يستر خوفه منها بمحاولات التهرب منها عبر الاختباء وراء المكتب , و إن باءت تلك المحاولات اليائسة بالفشل . 
فوجأ بالمشرط في يدها العجوز يهبط هبوط اضطراري على مهبط وجه الوسيم , لينال منه و بالفعل انفجرت مسام الجلد و استعدّ الوجه لاستقبال الدماء المحبوسة وراء تلك المسام .
 باتت منتصرة متلذذة بالدماء و كأنها تخلصت من شيطان للأبد . أما ( عادل ) فلم يكن يتصور أن الأمور قد تصل لهذا المدى ... فأنفجر فيها و قام بركلها في عظام القدم الثمينة , و بدأت المباراة غير المتكافأة , فعلى الأرجح أن ( حواء ) لا تملك ما تخسره , و أما ( عادل ) فلديه الكثير ليخسره .
 المشرط أوقعته عندما ركلها الطبيب , و حينها ألتقته من أرضية العيادة ذات البقعة الحمراء و أخذ الطبيب يتحول مثلها كمجنون يلقنها درس في القتال و مهاراته , لكمات في الوجه و البطن حتى يتمكن منها و يسيطر على الوضع .
 لكمة وراء الأخرى , و طُرحت أرضاً و أخيراً هدأت و إن لم يتم تخديرها تماماً ...ازداد خوفه منها حينها انتهى من ضربها ليلاقها مبتسمة و منتشية . ماذا بها تلك المرأة ؟ ماذا هذا الخلل ؟ و كأني لم أكن طبيباً يوماً ؟ أهي ملبوسة ..أعبث أحد الجن بها ؟ لا يمكن أنها شديدة الخطر و عليّ أن انتهي منها ... سأبلغ الشرطة ... أين هاتفي ؟ ... سأعثر عليه بينما تستعيد هي وعيها ... أمامي وقت و لكن عليّ أن اتمالك فلا يمكن لكائن من كان أن يعبث بي .
لم ينجح و أخذ شهادة رسوبه حين قالت :
- أتريد هذا الهاتف يا طبيبي ؟ لا أظنك تحتاجه ..فالحياة الافتراضية جعلتنا ماكينات تعبر عن مشاعرها بالزر .. صدقني هكذا أفضل .
و بكل بساطة فتحت النافذة و انتحر الهاتف مجبراً على يدها من الطابق الرابع , ليتهشم إربًا و معها لم يعد حتى يمتلك ( عادل ) خيط رفيع من الأمل , فالسيدة ألقته مع الهاتف عبر النافذة .
( حواء ) تعود و تجلس بتأدب شديد على المقعد المخصص للزائرين و تقول :
- عندي عدة تساؤلات لك يا طبيبي , قبل أن أكمل لك قصة قتلي لآسر و أطفاله ... هل من الممكن أن تعثر على اجابة مُرضية لي ؟
( عادل ) مجيباً بجمود وجه و غزارة عرق تبلل جبهته :
- لكِ هذا يا سيدتي , لنبدأ ..
- لِم يكون الانتظار دوماً لمن لن يأتي أبداً ؟
- لأن الأمل مزروع في الروح .
- الأمل دوماً سراب .
- بل الأمل هو نشوة ... يروي روح متلهفة لرؤية أحدهم .
- هل يمكن للقاتل أن يكون قد عشق مقتوله ؟
- و من يدري ؟ فمن الحب ما قتل .
- لكن الحب مضاد للقتل .. هل يلتقيان أبداً ؟
- لست شيخاً حكيماً , لكن ما أعرفه أن الحب هو دافع الانسان للعيش .
- أتعرف لِم أحببته ؟
- لا , بل أنتظر أن أعرف .
- حبه لغيري قتلني , هو محبوب من الجميع .
- إذا فهذه نعمة حباه الله بها و وهبك أنتِ إياه .
- لا أردته لي فقط , لا أطمع في الكثير , إنه حقي , من حقي أن يقبلني بشغف و أن يحتضني بحنو و أن يباغتني بكلمة صادقة و أن يذهب بي إلى ضفاف أبهى الجزر ليلتهمني بنظراته المتأملة و يترك الموج و الصخر و المنظر البديع و يتأملني .
- ليس هذا بإمكان الجميع , ليست الحياة رواية رومانسية , لست مركز كونه أنتِ مكون أساسي لا غني عنه فقط لا غير .
- لا يوجد أدني مشكلة ... فإن أرائك سديدة , و لكن غير مقنعة .
أمسكت بالبن لينهش في لحمه البارز من آثر ضربة المشرط , صرخ و كالعادة الموسيقى الصاخبة تعلو العويل و أخذ يبكي و يسألها ( لماذا تفعلين بي هذا .... لماذا ؟ ) و حاول القيام ليلقنها الدرس مجدداً , فهرولت نحو الفستان المخلوع و ظفرت بسكين حاداً و عندما هرول ناحيتها نالت من قدميه .. فسقط ممسكاً بقدميه و أخذ يتأوه  فالألم غير محتمل و الاجابات غائبة من ناحية تلك السيدة القاسية .
 لقد صدقت أنها ليست سادية بل هي أسوء بكثير !
سألها و هو في غاية الاستسلام : ماذا تريدين مني ؟ لا أعرف كيف أرضيكِ ..كفي عن عقابك فإن جسدي لا يزال يريد الحياة .
- الحياة ؟ أن الحياة لا قيمة لها دون أحباء ... أنا بلا أحباء , بدون ولد و لا زوج و لا أم و لا أخ و لا أب .
- إذا ماذا يعنيني في ذلك ؟
- ألست طبيباً نفسياً أو معالجاً روحياً ؟
- لا أريدها ..فقط أطلقي سراحي ...سأقبل بأي تنازل لكِ .
- إذن فقط حان وقت التفاوض ؟
- نعم و شروط جميعها مقبولة .
- قبل أن تسمعها ؟ لا لا , أريد مباراة نزيهة .. أول شروطي أن نموت سوياً و الثاني أن تنفذ دون مناقشة .
- سنموت .. و بعدها ؟
- لا يوجد بعد الحياة حياة . فقط نفنى بعظامنا في تراب القبر .
- لا أريد أن أموت كافراً , لا أريد سوى الحياة .
- كلنا كفار يا سيدي , الجاحد بأهله كافر , القاتل كافر , الكاذب كافر , القسيس و الشيخ و الحاخام كفار ... هنا يكمن العدل من عند خالق هذا الكون .
- أريد هذا الكُفر, أتركيني بمعاصيّ و اذهبي أيتها القديسة .
- لن أذهب وحدي ... سأصطحبك لترى آسر و أُكمل لك ما بدأ في قصصتي و ترى براءة أطفالي القتلى .
- و لكن كيف ؟ إنهم موتى يفصلنا عنهم انسلاخ الروح .
- لا بل الأمر أبسط من هذا ..مجرد قطع شريان و هذه مهنتي فلا تقلق ستنسلخ الروح سريعاً .
- لا لن أموت معك أيتها المخبولة !!
- لا تكن وقحاً , لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً .
و أخذت السكين الملطخ بدماء أقدام ( عادل ) التي على وشك البتر و مدتها ناحيته ليراوغها بحركات جسده المتكررة , كما نقول مشهد اغتصاب في فيلم مصري سبعيناتي و الفرق الوحيد أن المُغتَصَب هو الذكر .
انتهى المشهد بغرسه السكين في قلبها و لم يتأسف على ذلك .
أمسك بهاتفه و ما إن طلب الشرطة فإذ بالسكرتيرة تتقدم نحو الغرفة و هو يفتحها و الدم ينساب من جميع اتجاهات جسده و حينها دلف أفراد الشرطة لتسيطر على الوضع و نُقل ( عادل ) إلى مستشفى لتلقي العلاج الفوري و بعد مرور شهر استعاد جزء كبير من عافيته .
هذا أنا ( آسر ) قصصت لكم آخر مشهد من شاهدتي عن مريضتي ( حواء ) التي كانت تُعالج من مرض الذُهان و هربت ليلتها من مستشفى العباسية و لم نعثر لها على آثر ...
و آخر ما سمعته منها كان أنها ستقابل قريباً طبيب يُدعى ( عادل ) أحبته كثيراً في الكلية و قصت عليّ أحاديث و روايات تشبه كثيراً ما قصّه لي (عادل) على لسانها .
 هل تعرفه حقاً ؟ لا أحد يدري هذا السر حتى الآن ..

1 commentaire:

  1. عن إبداع وصف بداية المشهد !عن "حواء" وتجسدها لجموع وشغف وتقلب "بنات حواء"! ...عن دربكة المشاعر وردود الفعل !
    عن إن كتبتك بقى فيها حرفة مش بس تفريغ أفكار وإرضاء ذات.
    #proud :) :)

    RépondreSupprimer